يتقدم الينا اسامة بن منقذ في "الاعتبار" بوصفه مسلماً، مؤمناً، متشبعاً بالقيم الكبرى للاسلام، وبأطره المعيارية الجوهرية في الوجود والسلوك والعلاقات. وعلى رغم نزوعه الارادي البارز في الشجاعة والاقدام والحرب، قبل اقراره بالقدر واذعانه لمنطق القضاء، يظهره، في بعض الاحيان، وكأنه سجين موقف سلبي ازاء العالم. حتى وإن أصر اسامة على الضمير المتكلم في روايته، فان البعد "الشخصاني" الواضح في تحركاته وعلاقاته يكشف عن انسان ينتمي لمرجعية عقدية واجتماعية يتخذ منها افقاً للنظر ومصدراً للفعل. فالله اوجد الخلق "اطواراً مختلفي الخلق والطبائع: الابيض والأسود، والجميل والقبيح، والطويل والقصير، والقوي والضعيف، والشجاع والجبان بمقتضى حكمته وعموم قدرته" الاعتبار. بل ان ما يحصل في الحياة غير مرتبط، بالضرورة، بارادة الانسان وحريته، او بقرار ذاتي محض، لأن المسألة، في تصور اسامة، تتجاوز الشخص مهما كانت قدرته، وتتخطى ارادة القوة التي يمكن ان تصدر عن الجماعة. فالحياة والموت والانتصار والهزيمة "كل ذلك مقرون بما يجري به الأقدار والأقضية". رجل انتزع لقب الفارس بسبب شجاعته وخوضه لحروب لا حصر لها ضد الاتراك والأعراب والافرنج… الخ، وعاش المراحل الاولى لاستنهاض فكرة الجهاد مع عماد الدين زنكي وابنه نورالدين، وعاصر التتويج الحاسم لهذه الفكرة مع طرد الصليبيين من القدس على يد صلاح الدين… الخ. رجل من هذا الطراز والقدرة على الفعل في الحدث والزمن يستسلم في كتابه "الاعتبار" لنزعة غارقة في قدريتها، اذ "النصر في الحرب من الله تبارك وتعالى لا بترتيب وتدبير ولا بكثرة نفير ولا نصير". للعامل التربوي، على ما يظهر، دور كبير في بناء الشخصية الاسلامية لاسامة. فهو سليل اسرة امراء، عربية النسب ومسلمة، ولكنه تأثر أيما تأثر باخلاقيات ابيه وورعه وشجاعته. يتحدث عن ابيه، باستمرار، بكثير من التقدير والاحترام. فهو النموذج والموجه والمرجع. يقول عنه انه كان "شغوفاً بالصيد لهجاً به وبجميع الجوارح، وما يستكثر ما يغرمه عليه لفرجته. فانه كان نزهته، فليس له شغل سوى الحرب وجهاد الافرنج ونسخ كتاب الله عز وجل عند فراغه من اشغال اصحابه". الصيد والحرب والتزود المعرفي والصداقة، مجالات كبرى استغرقت حياة والد اسامة. وفضلاً عن شغفه الخاص بالصيد "كان الوالد، رحمه الله، كثير المباشرة للحرب وفي بدنه جراح هائلة ومات على فراشه". وعلى رغم جراحه الكثيرة، كان له ميل لافت لنسخ القرآن. ويلاحظ اسامة ان اباه كان "يكتب خطاً مليحاً"، وكان "لا ينسخ سوى القرآن". وقبل وفاته كشف لعائلته "ختمات عدة" منها ختمة كبيرة كتبها بالذهب وكتب فيها علوم القرآن، قراءاته وغريبه وعربيته وناسخه ومنسوخه وتفسيره وسبب نزوله وفقهه، بالحبر والحمرة والزرقة"، وترجمه "بالتفسير الكبير"، وكتب ختمة اخرى بالذهب مجردة من التفسير، وباقي الختمات بالحبر مذهبة الاعشار والأخماس والآيات ورؤوس السور ورؤوس الأجزاء. لم تكن علاقة والد اسامة مع الصيد نفعية، لأن لعامل المتعة فيها دوراً محفزاً، كما ان ايمانه الديني لا يقتصر على احترام العبادات والمعاملات بقدر ما اعطاه بعداً جمالياً من خلال النسخ او التلاوة. اما الحرب او الجهاد فالمسألة عنده تدخل في نطاق الواجب الديني. قد يظهر ان الاشارة الى شخصية ابيه غير ذات معنى، الا ان الحاح اسامة في كتابه "الاعتبار" على دور الأب وارتباطه العميق به يسمح لنا بالقول ان "العبر" التي يتحدث عنها في كتابه ويهدف تبليغها الى الآخرين استمد كثيراً منها من مدرسة "الأب". لم يكن اباً عادياً، بل كان مرجعاً ومثالاً ونموذجاً في التربية والسلوك والواجب. وارتقت علاقتهما الى درجة التمازج العميق اذ يقول اسامة في هذا السياق "وما رأيت الوالد، رحمه الله، نهاني عن قتال ولا ركوب خطر مع ما كان يرى فيّ وأرى من اشفاقه وايثاره لي". هذا المناخ الأبوي الغالب على البيئة العامة التي تكون فيها اسامة ترك آثاراً عميقة على موقفه من العالم والحياة والاخلاق والعلاقات، فوعيه الاسلامي بالذات لعب الأب فيه دوراً حاسماً. كما انعكس ذلك، بقوة، على موقفه من الآخر، ومن الافرنجي بالتدقيق. استند وعي اسامة الى نموذج معياري قوي يتمثل بعض تجلياته في النمط التصوري والسلوكي للأب. واما مصدر كل ذلك فانما يعود الى المرجعية القرآنية واخلاقيات الصحابة. وفي حكمه على صدقية الناس في القتال، يعتبر ان من "الناس من يقاتل كما كان الصحابة، رضوان الله عليهم، يقاتلون للجنة لا لرغبة ولا لسمعة". ومن "الناس من يقاتل للوفاء"، فالفارق بين الرجال يظهر في الهمة والنخوة، وهي عبرة استمدها من ابيه حيث قال له: "كل جيد من سائر الاجناس يظهر من الرديء من جنسه ما يكون بقيمته، مثل حصان جيد يسوى مئة دينار، خمس حصن رديئة تسوى مئة دينار، وكذلك الجمال، وكذلك انواع المبلوس: الا ابن آدم فان الف رجل اردياء لا يساوون رجلاً واحداً جيداً"، وينتهي مؤكداً: "وصدق رحمه الله". حكم كلي على الجنس البشري، تتمثل قيمة الذات الانسانية في الهمة والنخوة والجودة، وصدقية الانسان في المعدن المؤسس لشخصيته، في النوعية الخاصة التي يتفرد بها، وهو معيار ينطبق على جميع الأجناس. هذه النظرة الشمولية التي اقتبسها اسامة من ابيه ستوجه، الى حد ما، تصوره للآخر. فليس الدين هو أفق الرؤية الوحيد للحكم، لأن القيمة تتجاوز الانتماء العقدي او الثقافي او العرقي، والجودة يمكن العثور عليها في كل الأديان والثقافات والاجناس. وعلى رغم اقراره بالقضاء والقدر، ومن تقديره للأبعاد العاطفية في الحياة ولا سيما في ظروف الحرب والقتال، فهو مع ذلك، يمنح للعقل مكانة خاصة. ذلك ان "العقل هو الذي يحمل على الاقدام على السيوف والرماح والسهام انفة من موقف الجبان وسوء الأحدوثة"، بل و"كل امر لا يحضره العقل يظهر فيه الخطأ والزلل". وأسامة حين يتعرض لهذه الاعتبارات ذات الطبيعة الفلسفية، فانه لا يقوم بذلك من موقع ادعاء التفلسف، او الارتقاء بالنظرة الى الامور الى مستوى فكري عال. اسامة اديب وشاعر ومثقف ومتفقه. وهو يتناول موضوعات فكرية لكن بأسلوب بسيط وكأنه يعكس بعض الحكم العامة المتداولة او نمطاً متوسطاً من الوعي. وبدل التعمق فيها نظرياً، فانه يفكر فيها بالمثال. والمثال له حضور طاغ في الايقاع السردي لكتاب "الاعتبار". المهم، عند اسامة، هو ان "الانسان احوج الى العقل من كل ما سواه، وهو محمود عند العاقل والجاهل". لم يكن اسامة اميراً ينتمي لعائلة عريقة فحسب، او فارساً اكتسب الشجاعة في الصيد والحرب فقط، وانما كان مسلماً يحمل نظرة كلية الى الانسان مهما كان اختلافه، ويحكمه توجه عملي وواقعي للحياة وللفعل الانساني. لهذا جاءت كتاباته، سواء شعراً او نثراً، وكأنها تصف الوقائع وترصد الاحداث وتقدمها من خلال المثال. يتخلل ذلك احكام ومواقف تعكس تصور اسامة لخلفيات وأبعاد الواقعة، الا ان الطابع الحكائي له دور لافت. لا يكف اسامة، في كتاب "الاعتبار"، عن تدبيج صيغة الشتم وآيات اللعنة للافرنج، اذ نادراً ما تذكر لفظة افرنج من دون الصاق شتيمة بها، من قبيل "الافرنج خذلهم الله"، "الافرنج لعنهم الله"… الخ. لقاموس اللعنة حضور كثيف في الكتاب، ويأتي تصريفه في الجمل والفقرات التي تتعرض للافرنج، وكأن توجيه الشتيمة للآخر مسألة شبه بديهية. هو موجود ليلعن. هل للحرب والقتال دور في ذلك؟ بلا شك. غير ان اللعنة لا تنسحب من لغة اسامة حتى وهو يتحدث عن مزاياهم وخصالهم الايجابية وشجاعتهم. ومعلوم ان كتاب "الاعتبار" لا يقتصر فيه اسامة على الحديث عن الافرنج او عن الحروب التي دارت معهم، بل انه يستعرض كل الحروب التي تمكن من المشاركة فيها او كان شاهداً عليها، بين المسلمين انفسهم داخل مساحة الشام التي تحولت الى امارات متفرقة يتنازع مصيرها امراء وحكام لا يحركهم سوى التسلط والحكم والطموح الشخصي، وبين المذاهب الاسلامية، فضلاً عن الاختراق الصليبي الذي استوطن الارض العربية وأسس ممالك وامارات وعلى رأسها المملكة اللاتينية بالقدس، وبقي يتحرش بالأراضي العربية الاخرى طيلة قرنين. مساحة واسعة من الحروب والمعارك، سببها تناقضات الداخل واختراقات الخارج. مواجهات لا حصر لها كان اسامة شاهداً عليها، اذ يقول: "قد كان بين هذه الوقعات فترات شهدت فيها الحروب مع الكفار والمسلمين ما لا احصيها". يصعب فصل كتابات اسامة عن الظرفية السياسية والوجدانية العامة التي عمل كل من عماد الدين زنكي وابنه نورالدين على خلقها لاعادة بناء الذاتية الاسلامية، واعادة الاعتبار لقيم الجهاد واسترداد ما انتزعه الصليبيون. فكثير من قصائد اسامة يندرج ضمن تحفيز المسلمين على الجهاد، بل ومثّل عنصراً داعماً للعملية الدعائية العربية الاسلامية الواسعة لاستنهاض الطاقات المختلفة واستعادة الأراضي المقدسة، واسامة لا يكتفي بالمساهمة في "التعبئة الايديولوجية" ضد الافرنج، لأنه يجمع الكلمة والفعل، وحين يتحدث عنهم فلأنه يعرف بعض مظاهر حياتهم وخبرتهم في السلم والحرب. وهم، كما يقول "لعنهم الله، اكبر الناس احترازاً في الحرب"، بل ان فرسانهم يزرعون الخوف لدى المحاربين، شرسين في المعارك، معبئين ضد المسلمين الى درجة ممارسة ابشع الاعمال واكثرها همجية. ويؤكد اسامة ذلك حين يروي: "شاهدت من الطعنات العظيمة طعنة طعنها فارس من الافرنج، خذلهم الله، فارساً من اجناذنا… قطع له ثلاثة اضلاع من جانبه اليسار وثلاثة اضلاع من جانبه الأيمن وضرب شفار الحربة مرفقة ففصله كما يفصل الجزار المفصل ومات لساعته". لا ينكر اسامة عنف المسلمين مع الافرنج، لكن شراسة هؤلاء لا تضاهى. ففي تصوره هناك مسافة بين الشجاعة والهمجية، ويعتبر ان "الافرنج، خذلهم الله، ما فيهم فضيلة من فضائل الناس سوى الشجاعة، ولا عندهم تقدمة و لا منزلة عالية الا الفرسان، ولا عندهم ناس الا الفرسان فهم اصحاب الرأي وهم اصحاب القضاء والحكم". يقر اسامة للفرسان بالشجاعة، وبدهائهم في الحرب، ولكنها ليست الشجاعة المقرونة بالشهامة ونبل النفس. ذلك ان الافرنجي حين يصادفه الانتصار لا يتورع عن التنكيل بالمسلم وممارسة اعمال همجية. فشجاعة الافرنجي شجاعة متوحشة، ولذلك يقول: "سبحان الخالق البارئ اذا خبر الانسان امور الافرنج سبح الله تعالى وقدسه، ورأى فيهم فضيلة الشجاعة والقتال لا غير، كما في البهائم فضيلة القوة والحمل". لا يكتفي اسامة باضفاء البهيمية على الافرنج، بما في هذا الحكم القاسي من نفي للعقل عنهم، وانا يزيدهم صفات سلبية اخرى لا تقل انتقاصاً من شأنهم، وتتمثل في الخيانة والغدر. ومع ان اسامة في رواياته في كتاب "الاعتبار" يتناول هذه المواصفات بشيء من العقل البارد احياناً، الا انه يصوغ هذه الموضوعات شعرياً ببعض العنف. لم تكن الحرب هي عنوان العلاقة الوحيد مع الافرنج، فالمنطقة كانت تعرف تركيباً فسيفسائياً من الامارات والممالك، من المسلمين السنة والشيعة والافرنج. وكانت صفقات ومساومات ومعاهدات ومفاوضات تعقد بين هذه الامارة او تلك، وأحلاف تنظم بين امارات اسلامية واخرى افرنجية ضد ممالك اسلامية او افرنجية. ولم يعد هناك أدنى حرج في ذلك، خصوصاً قبل الفترة التي جعل نورالدين زنكي من الجهاد قاعدة ومن التوحيد هدفاً. وبحكم الموقع المتميز الذي كانت تحتله امارة "شيزر"، والمكانة الخاصة التي كانت تحتلها اسرة ابن منقد، وبسبب التأثير البالغ الذي مارسه والد اسامة على شخصية ابنه، فان والده وعمه لعبا دور الوساطة في اكثر من صراع بين الأمراء والملوك، سواء من المسلمين او الافرنج. وكتاب "الاعتبار" يتعرض لأكثر من تدخل على هذا الصعيد. ولما كان الامر كذلك، فان اسامة بدوره لعب دور الوساطة لفض نزاعات كثيرة ولتسوية خلافات لا حصر لها، حتى اصبح وسيطاً نافذاً بين المسلمين والافرنج. ولعل عمليات الوساطة هي التي وفرت له بعض شروط التعرف على الافرنج. وعلى رغم الاحكام السلبية التي يطلقها عليهم، فان جدلية الصراع والتساكن فرضت عليه التعامل معهم. قام اسامة بعمليات وساطة كثيرة بهدف الصلح او التفاهم او التحالف. يقول: "كنت اتردد الى ملك الافرنج في الصلح بينه وبين جمال الدين محمد بن تاج الملوك رحمه الله ليد كانت للوالد، رحمه الله، على بغدوين الملك والد الملكة امرأة الملك بن فلك". وتحول بعض العلاقات الى صداقة، ولو انه مقتنع اشد الاقتناع بأنهم "لعنهم الله، جنس ملعون لا يألفون لغير جنسهم". بل انه يعطي ادلة على استحالة تحقيق تمازج اجتماعي وثقافي بين الافرنج والمسلمين بسبب الحاجز العقائدي، حتى ولو تظاهروا بتبني الاسلام. ومن الأمثلة على ذلك انه "كان في اولئك الذين صاروا الى دار والدي امرأة عجوز ومعها بنت لها امرأة شابة حسنة الخلقة وابن مشتد. فاسلم الابن وحسن اسلامه فيما يرى من صلاته وصومه. وتعلم الترخيم من مرخم كان يرخم دار والدي، فلما طال مقامه زوجه الوالد بامرأة من قوم صالحين وقام له بكل ما احتاجه لعرسه وبيته، فرزق منها ولدين وكبرا وصار لكل واحد منهما خمس ست سنين. والغلام راؤول ابوهما مسرور بهما، فاخذهما وأمهما وما في بيته واصبح بافامية عند الافرنج وتنصر هو وأولاده بعد الاسلام والصلاة والدين". واسامة لم يكتف بسرد ما يعضد شكه في استحالة اندماج ما بين المسلمين والافرنج، وهو يأتي بمثال من المعيش العائلي، بل ينهي هذه القصة بدعوة تختزن شحنة انفعالية مثيرة حيث قال: "فالله تعالى يطهر الدنيا منهم". قد تبدو هذه الرغبة قاسية من فارس تميز بدرجة من التسامح والقدرة على التواصل مع الآخر. صحيح ان حكمه على الافرنج فيه شيء من العنف، ابتداء من قاموس اللعنة ومروراً بشجاعتهم المتوحشة الى عدم الاطمئنان الى اخلاقياتهم الظاهرة، لكن الرغبة في تطهير الارض منهم تعبر عن نزعة اقصائية دفينة قد تتعارض مع ما يصدر عن اسامة من سلوك مهادن ازاء الافرنج. والمفارقة انه مباشرة بعد القصة التي رواها للبرهنة على صعوبة الثقة في الافرنج، يتعرض لعلاقة اخرى تسمح للمرء باستنتاج بعدٍ آخر في نسيج الروابط التي جمعته مع الافرنج، ذلك انه "كان في معسكر الملك فلك بن فلك فارس محتشم افرنجي قد وصل من بلادهم يحج ويعود، فأنس بي وصار ملازمي يدعوني "اخي" وبيننا المودة والمعاشرة. فلما عزم على التوجه في البحر الى بلاده قال لي: يا أخي، ا نا سائر الى بلادي، واريدك تنفذ معي ابنك - وكان ابني معي وهو ابن اربع عشرة سنة - الى بلادي يبصر الفرسان ويتعلم العقل والفروسية، واذا رجع كان مثل رجل عاقل. فطرق سمعي كلام ما يخرج من رأس عاقل، فان ابني لو اسر ما بلغ به الأسر اكثر من رواحه الى بلاد الافرنج. فقلت: وحياتك هذا الذي كان في نفسي، لكن منعني من ذلك ان جدته تحبه وما تركته معي حتى استحلفتني ان ارده اليها. قال: وأمك تعيش؟ قلت: نعم. قال: لا تخالفها". يتضمن هذا النص اكثر من مستوى في تحديد طبيعة العلاقة التي جمعت اسامة مع هذا "الافرنجي المحتشم". فهو يخبر ان هذا الرجل جاء ليحج ويرجع الى بلاده، اي ان وجوده، في كل الاحوال، وجود عابر، لكن ذلك لم يمنعهما من نسج روابط تميزت ب"المودة والمعاشرة"، لدرجة ان الافرنجي اصبح ينعته ب"اخي". قد تكون لهذه اللفظة دلالة انجيلية عادية، لكن اسامة اصر على استحضارها للتدليل على العلاقة "الاخوية" التي قامت بينهما. وحين عبّر ذلك الفارس عن رغبته في دعوة ابنه الى بلاده لتعلم "الفروسية والعقل"، هنا انتفضت حمية اسامة واستنفرت فيه حصانته الثقافية خوفاً من زعزعة الاساس الثقافي الذي يؤسس هويته واختلافه في الوقت نفسه. فدعوة "الافرنجي المحتشم" اتخذت طابع استفزاز لا يحتمل، لأنه على رغم المودة التي جمعتهم، فهو لم يكن يتصور لحظة ان رغبة من هذا القبيل يمكن ان تصدر عن هذا الافرنجي، لأن طبيعة العلاقة لا تسمح باستقبال هذه الدعوة ، ولأن هذا الكلام، عند اسامة "لا يخرج من رأس عاقل". فهو يفضل ان يتعرض ولده للأسر وان يحرم من حريته على ان يذهب الى "بلاد الافرنج". ومع ان الدعوة ولدت، في العمق، توتراً ثقافياً قوياً لدى اسامة، لدرجة انه نعت صاحبها بالخروج عن حدود العقلانية، فانه برر رفضه بلباقة جعلت الآخر يطمئن لجوابه. فكيف يمكن تصور انتقال ابن اسامة الى بلاد الافرنج وهو مقتنع بانهم "جنس ملعون لا يألفون لغير جنسهم"؟ * كاتب مغربي.