شارون ليس ديغول، وهو لم يصل الى قناعة مفادها أن على اسرائيل الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني والانسحاب من المناطق العربية المحتلة عام 1967 ناهيك عن الاعتراف بحق اللاجئين في العودة، ولا تشكل خطواته المقترحة بداية الطريق في هذا الاتجاه، وهو ليس في الطريق الى التحول الى ديغول وحاضره السياسي يتمحور حول تطبيق سيناريو يتضمن ثوابت العقلية الكولونيالية بما في ذلك تعزيز ذلك"الاستيطان في الضفة الغربية الذي لن تتنازل عنه اسرائيل في اطار أي حل دائم"، هذا في حال التوصل الى حل دائم. إنه يقوم بتنفيذ خطة او سيناريو يعتقد أن الفرصة التاريخية سانحة لتنفيذها، ولا يجوز أن تُضيَّع اسرائيلياً. وقد أضاء لنا شارون زاوية جديدة للنظر الى منطلقات خطة فك الارتباط. يعلمنا شارون في مقابلة خاصة مع صحيفة"هآرتس"، بمناسبة رأس السنة العبرية اليوم الخميس، ان خطة فك الإرتباط وردت كجواب على مطلب أميركي قدمه المبعوث اليوت ابرامز بمواصلة المفاوضات مع سورية، فاستل فوراً هذا الاقتراح كبديل عن التفاوض مع سورية التي يعرف نهايتها ولذلك يتجنبها، وكبديل عن حال الجمود التي تتجنب الولاياتالمتحدة نتائجها الإقليمية. منذ ذلك اليوم قول شارون لم تعد الولاياتالمتحدة تحث اسرائيل على التفاوض مع سورية. وأهم سمات المرحلة التي تنتج فرصة ثمينة بالنسبة الى شارون لا يجوز تفويتها هي اقتراب الولاياتالمتحدة من موقف اسرائيل تجاه القيادة الفلسطينية بعد كامب ديفيد الى درجة التطابق بعد 11 أيلول، والإقرار بعدم وجود شريك فلسطيني لعملية تسوية وبالتالي قبول الولاياتالمتحدة بمبدأ الاجراءات من طرف واحد بدلاً من تنفيذ"خارطة الطريق". وأكثر من ذلك، عبرت الولاياتالمتحدة عن هذه القناعة في رسالة ضمانات تقنرب من مفهوم"الحل"كما يراه اليمين الاسرائيلي. يعتبر شارون هذه الرسالة انجازاً اسرائيلياً لا يجوز تحت أي ظرف من الظروف التفريط به وتضييع هذه الفرصة التاريخية، فلا أحد يدري ماذا يخبئ المستقبل في أميركا والظرف الآن هو الأفضل بالنسبة الى أمثال شارون. ولذلك فهو مصرّ على المضي قدماً في خطته رغم قرار الاستفتاء داخل الليكود ورغم قرار لجنته المركزية. وهو لا يعير اهتماماً الى اليسار والعرب الذين يفسرون خطة شارون من طرف واحد ويؤكدون من طرف واحد أنها جزء من خارطة الطريق، بل بالعكس نرى صاحب الخطة يحذر وزراءه من استخدام مصطلح خارطة الطريق. وهو لا يعير تهديدات المستوطنين اهتمامه أيضاً. الخطة هي خطة فك ارتباط ديموغرافي مع أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين على أصغر رقعة من الأرض في غزة وشمال الضفة، وفي مدن الضفة جميعها لاحقاً. وقد سنحت الفرصة لأن الفلسطينيين رفضوا، بحق في رأينا، شروط الانفصال عن اسرائيل باتفاق معها، أي في إطار تسوية، وذلك لأن هذه الشروط لم تتضمن عناصر العدالة النسبية التي تستحق تسميتها تسوية، ولكنهم انتقلوا بعد الرفض الى أشكال غير منظمة من الممانعة لا تخدم طرحاً سياسياً تحررياً بديلاً موحداً. ولأن جزءاً كبيراً من العالم العربي، في محاولته إرضاء الولاياتالمتحدة، يلوم الفلسطينيين لأنهم رفضوا شروط الانفصال الديموغرافي التي تسمى تسوية، ولأن الفلسطينيين"فشلوا"في انشاء قيادة يمكن التوصل معها الى انفصال ديموغرافي باتفاق بالشروط الإسرائيلية، أو أفشلوا عملية نشوء مثل هذه القيادة. في أي حال يعتقد شارون بأن الفرصة لاحت لتنفيذ أحادي، من طرف واحد، لخطة يفكر بها ويطرحها منذ منتصف الثمانينيات. وما ان توافق الحكومة على قانون التعويضات للمستوطنين الذي سيتم سحبهم من قطاع غزة وشمال الضفة حتى يعتبر ذلك بمثابة إقرار حكومي للخطة التي سوف تمضي قدماً. ويتوقع شارون كانتهازي مخضرم أن مجرد طرح التعويضات والمبالغ سوف يغير من طبيعة النقاش وسوف يفتت جبهة المستوطنين المعارضين وسوف يتاح المجال لدفع سلفات عن التعويض بإضافة مبلغ على التعويض لكل من يوافق على نقل سكنه الى الجليل والنقب. وسيشكل كل مستوطن يقبض سلفة مبكرة عن التعويض بمثابة نكسة معنوية لمعركة المستوطنين الإيديولوجية الطابع. ولذلك فإن شارون في عجلة من أمره لسن قانون التعويضات حتى قبل إقرار خطة الإنسحاب في الحكومة والكنيست في اكتوبر ونوفمبر، ودفع التعويضات قبل بداية الانسحاب، وقبل المباشرة تفريغ المستوطنين. ليس شارون أبا المستوطنين الشرعي فحسب بل هو أيضاً الأب الشرعي لتوريط الجيش في السياسة إلى درجة تسريب المعلومات والتصريحات إلى الصحافة إبان خدمته العسكرية كضابط مغامر ينتقد القيادة السياسية وتقاعسها. وقد استخدم الجيش والمستوطنين أدوات في التسلق السياسي. وحتى لو تشدد بعض المستوطنين في الموقف منه وهددوا بشرخ كبير وباستخدام العنف فإن هذا الأمر لن يردعه. يدرك قسم كبير من المستوطنين أنه لا مستقبل للاستيطان اليهودي في غزة، وهي سجن لسكانها قبل وبعد فك الارتباط، ولكنه يصر على الاستيطان في الضفة الغربية. ولذلك فإن الضجة الكبرى حول تفريغ مستوطنات قطاع غزة بعبارات مثل أن شارون ينفذ ترانسفير ضد اليهود، واحتمال وقوع شرخ تاريخي وعصيان مدني وغيرها، وربما تسجيل بعض الممانعة العنيفة الفعلية هي شروط للدفاع عن مستوطنات الضفة، والمقصود ليس مستوطنات منطقة جنين الصغيرة. الضجة والعويل في غزة هي خط الدفاع الأول عن المستوطنات في الضفة. وسوف يساعد كل ذلك على التفهم الأميركي والعالمي لهذه القضية فبكم معركة وبكم احتمال لحرب أهلية سيمتحن المجتمع الاسرائيلي خلال العقدين القادمين؟ هنا لن يتوقف شارون عن التنفيذ فحسب، بل سيتوقف الأميركان عن الطلب. ولذلك فعلى رغم أن الفكرة الشارونية هي فكرة من طرف واحد، ورغم أنها تلقي بخارطة الطريق الى سلة المهملات من دون أن تلغيها رسمياً، إلا أنها ليست طرحاً موقتاً بل هي قائمة للمدى البعيد. وهي تنتظر نشوء قيادة فلسطينية تتعاطى مع شروط التسوية المفروضة اسرائيليا بعد التكيف مع الاملاءات التي فرضت من طرف واحد. واليسار الاسرائيلي هو مجرد جيش احتياط لشارون في معركته مع اليمين الأكثر تطرفاً منه، وما على الأمة العربية أيضاً إلا أن تعتبر شارون معتدلاً نسبياً، والحياة نسبية ونسبة وتناسب، ولتضع"رأسها بين الرؤوس"، فهذه هي اللعبة الوحيدة في المدينة، إنها اللعبة داخل اليمين الاسرائيلي. من ناحية اسرائيل يبدو أن المعركة للتخلص من أكبر عدد من الفلسطينيين على أصغر رقعة من الأرض قد حسمت ضد من يريدون الاحتفاظ بسيطرة مباشرة حتى على قطاع غزة من ناحية، وضد من يريدون انتظار اتفاق مع الفلسطينيين من ناحية أخرى. فكيف تبدو المعركة على الجهة الفلسطينية؟ يؤجج حسم المسألة المطروحة أعلاه اسرائيلياً نقاشاً فلسطينياً يتجاوز عمره العقد من الزمان، ولكنه اتخذ أشكالاً عينية في كامب ديفيد وفي طرح كل من شارون وبوش الدولة الفلسطينية. وهما لا يلمحان، بل يؤكدان صراحة أنه طرح ينتظر قيادة فلسطينية تلتقطه. وهو نقاش حول حول تفويت أو عدم"تفويت الفرصة التاريخة لقيام دولة فلسطينية مرة أخرى"بلغة من تذوَّتوا لغة الصهيونية على وزن أن"الفلسطينيين لم يفوتوا فرصة في تفويت الفرص". ما يطرح من جانب بوش وشارون هو دولة فلسطينية مقابل تنازل الفلسطينيين عن كل شيء. اي صفقة رزمة،"باكيج ديل": دولة مقابل التنازل عن حق العودة والانسحاب الى حدود الرابع من حزيران وإزالة المستوطنات كافة، والتنازل عن القدس أيضاً ...وليس غريباً ان يعتبر كل من يؤيد هذه"الرزمة"الانسحاب الاسرائيلي من قطاع غزة فرصة لحسم هذا النقاش. وهنالك من يدعم هذا التوجه نحو حسمه عربياً وغربياً. وكما تطرح البدائل على الساحة الاسرائيلية: إما شارون او المستوطنين، كذلك تطرح على الساحة الفلسطينية بصيغة إما هذه الرزمة وإما العمليات الاستشهادية. وبرأينا المتواضع يعجّل هذا الطرح التخييري بحسم الصراع بروح ما يجري في عالمنا، فأحد البديلين يقبل عملياً ما يطرحه شارون معدلاً اما البديل الثاني فيساعد شارون - من دون أن يدري - في المجتمع الاسرائيلي ودولياً. وإن الطريق الوحيد لتجنب ذلك هو القيادة الوطنية الموحدة التي تشمل فصائل المقاومة وتلغي بمجرد وجودها هذا التخيير وتطرح البديل الوطني المتمثل بالعدالة للشعب الفلسطيني وبالنضال الوطني ضد الاحتلال و"الابارتايد"باستراتيجية موحدة للمدى البعيد، وتعري شارون فعلاً، وتبين أنه ليس ديغول. بعد قليل، بعد أن يحتدم الصراع مع المستوطنين، سيحتاج الشعب الفلسطيني والقوى المناصرة لحقوقه المشروعة الى كل الطاقة الممكنة لتفنيد الادعاء الكاذب بأن شارون هو ديغول، وأن الطرحين الممكنين هما إما سيناريو شارون لإقامة بانتوستان خلف جدران أو المستوطنون ولا ثالث لهما. * كاتب عربي.