تتعرض أسواق النفط الدولية لهزّات وازمات نفطية تركت آثارها على أسعار النفط. وكان عام 1973 نقلة تاريخية مهمة لأسعار النفط عندما بلغ البرميل 5.11 دولار قفزاً من 2.75 دولاراً مسجلاً ارتفاعاً بلغ أربعة إضعاف، اثر الحظر النفطي بسبب حرب إسرائيل ضد العرب. كانت هذه الهزة النفطية الأولى واستمرت حتى العام 1978 عندما ارتفع سعر البرميل الى 12.70 لتحلّ"الصدمة"النفطية الثانية عام 1979 على اثر الثورة الإيرانية حين كسر السعر حاجز ال40 دولاراً للبرميل في النصف الثاني من ذلك العام. وكما شهد عام 1986 تحديداً في شهر اذار مارس أدنى سعر للنفط هابطاً إلى نحو 7 دولارات ومحدثاً زلزالاً في مداخيل الدول المنتجة للنفط انعكس بعجوزات في الميزانيات وارتفاع في الدين العام لبعض تلك الدول، وفي مقدمها السعودية. وقد انتشل غزو العراق للكويت الأسعار فرفعها من 12 دولاراً الى حوالي 36 دولاراً ليسجل هزة نفطية ثالثة.. لكن الاحتفال بالاسعار المرتفعة لم يدم طويلاً، فالدول الصناعية قامت بضخ 2.5 مليون ب/ي ولمدة خمسة عشر يوماً مما دفع بالاسعار إلى 32 دولار في تشرين الثاني نوفمبر 1990 ثم إلى 20 دولار. وجاء احتلال القوتين العظميين اميركا وبريطانيا للعراق صاحب الثروة النفطية الهائلة التي كانت تعلق عليها اميركا امالاً كبيرة بضخ النفط الى السوق الاميركية المتعطشة، فأعلن الصدمة النفطية الرابعة في تاريخ اسعار النفط. اذ راحت الاسعار تتصاعد، فتخطى سعر سلة"اوبك"في اوائل اذار الماضي حاجز 32 دولاراً بينما حده الاقصى الذي حددته"اوبك"هو 28 دولاراً لفترة لا تزيد كثيراً عن عشرين يوماً! اما سعر برنت فكسر حاجز 33 دولاراً والخام الخفيف الاميركي 37 دولاراً. وعلى رغم اعلان وزير النفط السعودي المهندس على النعيمي رفع انتاج السعودية النفطي الى 9 ملايين ب/ي اعتباراً من حزيران يونيو الماضي للحد من زحف الاسعار التي تخطت حاجز ال 40 دولاراً لتسجل اعلى مستوى للاسعار من واحد وعشرين عاماً ليبلغ سعر سلة الاوبك 37.44 دولاراً، فيما تخطى خام القياس الاوروبي برنت 38 دولاراً والخام الاميركي الخفيف 41 دولاراً بتاريخ 22 ايار مايو الماضي. واستمر السعر يدور في فلك هذا المعدل حتى اواخر ايار كما استمر زحف الاسعار الى أعلى فبلغ سعر خام القياس الاميركي 42 دولاراً للبرميل حتى انعقاد مؤتمر وزراء المنظمة في بيروت بتاريخ 3 حزيران 2004 الذي قرر رفع سقف الانتاج مليوني برميل يومياً ليبلغ 25.5 مليون برميل يومياً اعتباراً من اول تموز يوليو، وبلغ انتاج المنظمة 26 مليون ب/ي اعتباراً من اول آب اغسطس حين قرر الوزراء رفع الانتاج 500 ألف ب/ي اعتباراً من ذلك التاريخ ليصبح سقف الانتاج 26 مليون ب/ي. الا ان شهر آب كان نقطة الارتكاز في ازمة اسعار النفط ففي خلال ذلك الشهر بدأت الاسعار تزحف بسرعة الى اعلى حتى كسرت حاجز الخمسين دولاراً في اواخر الشهر لتعود الى النزول النسبي ليبلغ سعر برنت نحو 42 دولاراً، والخام الاميركي نحو 45 دولاراً في اواسط ايلول سبتمبر على رغم قرار وزراء"اوبك"في اجتماعهم الوزاري في فيينا بتاريخ 15 ايلول رفع الانتاج الى 27 مليون ب/ي اعتباراً من اول تشرين الثاني المقبل، واعلان وزير النفط السعودي في كلمته بتاريخ 16 سبتمبر امام منتدى"اوبك"الدولي في فيينا ان السعودية تدرس زيادة الانتاج لحفظ التوازن في السوق البترولية الدولية. اذن توفرت عوامل رئيسية عديدة مهمة لاستمرار تحسن اسعار النفط من اهمها الاوضاع الجيو-سياسية وفي مقدمتها احتلال اميركا ومعها بريطانيا للعراق الذي تحول من نعمة الى نقمة على اكبر مستهلك للنفط في العالم، اذ تستهلك اميركا 25 في المئة من اجمالي الاستهلاك العالمي لهذه السلعة السحرية، وقد وضح هذا العامل الرئيس الفنزويلي قائلاً في خطاب له في دي لوس موروس يوم 7 ايار 2004 ان السياسات الاستعمارية للرئيس بوش والحرب التي قادتها بلاده على العراق هي سبب رفع اسعار النفط، وان"المذنب الحقيقي هو بوش". ومن اسباب ارتفاع الاسعار ما يتعلق بفقدان التوازن بين العرض والطلب خاصة من جانب دولتين كبيرتين في الاستهلاك الولاياتالمتحدة والصين، ثم هناك عامل التوقعات والمضاربات والاختناقات في عمليات التكرير لانتاج البنزين خاصة في الولاياتالمتحدة والتزام المنتجين خصوصاً اعضاء"اوبك"الخفوضات في سقف الانتاج وبعض المعلومات الصحيحة والمغلوطة ومعدلات برودة الطقس، والتوترات السياسية. ولا ننسى العامل السيكولوجي فالاسعار تتأثر بدرجة كبيرة بالحالة السيكولوجية لوسطاء النفط اضافة الى تاثرها بقوة تصريحات مسؤولي النفط خاصة في الدول الرئيسية المنتجة والمصدرة كالسعودية، ويجيء تجديد السعودية تعهدها بتوفير امدادات نفط مستقرة في هذا السياق لتهدئة اسواق النفط. وعلى رغم ان"اوبك"ترجمت رغبتها في خفض اسعار النفط بتطبيق المعادلة التي تستعملها كسلاح وهي رفع الانتاج اذا ارادت تخفيض السعر، وبالفعل مالت"اوبك"الى هذا الخيار الذي يؤيده"الحمائم"فيها ولا يحبذه"الصقور"الذين يعارضون زيادة الانتاج بسبب العائدات من ارتفاع الاسعار. فبعد اعلان"اوبك"قرار بيروت بدأت اسعار النفط تراجع فهبط سعر خام برنت لعقود حزيران - تموز الى 35.83 دولاراً والخام الاميركي الخفيف الى 38.75 دولاراً وسلة"اوبك"الى 35.86 دولاراً للبرميل. وبعد قرار"اوبك"الاخير في فيينا رفع سقف انتاجها وجدت الاسعار طريقها للنزول النسبي لكن الاضرار التي اصابت خليج المكسيك وجنوب الولاياتالمتحدة الاميركية بسبب اعصار"ايفان"وتزايد الضربات ضد قوات الاحتلال في العراق بقيت الاسعار في حالة تأهب للارتفاع النسبي باعتبار ان الاعصار مسبب زمني. وفي اطار رصد توجهات سوق النفط الدولية لا بد من التنويه بأن العامل الاهم في عدم استقرار السوق هو دخول اميركا ومعها بريطانيا حلبة الصراع النفطي باحتلالهما العراق والتدخل في مصيره السياسي والنفطي. فهو يعني دخول اسلحة جديدة الى السوق الملتهبة، فأصبحت اضلاع المربع تمثل"اوبك"التي تحاول ان تعيد سيادتها على سوق البترول الدولية، ثم وكالة الطاقة الدولية IEA التي تساندها الدول الصناعية الكبرى التي تستهلك 75 في المئة من الانتاج العالمي وقويت شوكتها بعد احتلال العراق، وهناك شركات النفط العملاقة التي تحظى بدعم قوي من الدول الصناعية لتشكل ضلع المربع الثالث، وعلى الجانب الآخر وفي موقع متوسط يأتي ضلع المربع الأخير المتمثل بالدول المنتجة من خارج"اوبك"التي تراقب الصراع من منظور المصلحة الخاصة بها. ان منظمة"اوبك"تدخل عصراًَ جديدا في حياتها وهي لا تريد لاسعار النفط ان تاخذ مسار النزول بعدما تخطت حاجز ال 50 دولار فزادت سقف انتاجها الى 27 مليون ب/ي مع وجود نفط كاف في السوق، ومع هذا فإن"اوبك"لا تملك عصا سحرية لخفض الاسعار وليست الوحيدة المسؤولة عن هذه السوق المضطربة. ومع هذا فالطريق طويل ومحفوف بالمصاعب والصراعات والمتغيرات في ظل احتلال العراق ومع استمرار هذه الثروة النفط كمصدر اساسي للطاقة في العالم، التي يزيد استهلاكها سنة بعد سنة، وكسر الاستهلاك العالمي من النفط حاجز 80 مليون ب/ي ومع هذا يصعب تقرير الى اين تتجه اسعار النفط! ولا يصعب التنبؤ بهزات نفطية قادمة! * عضو مجلس الشورى السعودي، رئيس مركز الخليج العربي للطاقة.