بدا لمن تابع فاعليات الملتقى الأول للمثقفين السعوديين، الذي انطلقت أعماله بين 25 و27 من الجاري، ان الثقافة السعودية كتبت تاريخ ولادتها الحقيقي في ذلك الصباح منذ أول أيام الملتقى، وانها في صدد لحظة نادرة لم تعرفها من قبل. وبدا أيضاً أن المثقفين السعوديين يدخلون عهداً ثقافياً جديداً، ليس له علاقة بذلك الانفصال بين مؤسسات مختلفة، ولا يشبه الحال الثقافية الراكدة وغير الفاعلة التي هيمنت طويلاً. ذلك ما بدا للوهلة الأولى، ولكن هل تراه يعبر فعلاً عن حقيقة ملموسة؟ خلال المدة الزمنية، منذ تأسيس وزارة الثقافة والإعلام في أيار مايو 2003، إلى تاريخ عقد الملتقى، عاش المثقف السعودي حالاً من الترقب، متطلعاً إلى الخطوات التي ستبادر الوزارة الوليدة الى إنجازها، خصوصاً أن لم تكن هناك جهة ثقافية مسؤولة حصراً عن الشأن الثقافي، الذي كان موزعاً على جهات عدة، الأمر الذي عاناه المثقف كثيراً تحت طائلة التهميش وإهمال الحقوق، وفي ظل سيادة التيار الواحد والرؤية الأحادية على المؤسسات الثقافية الرسمية على اختلافها. ومع وجود وزارة للثقافة للمرة الأولى منذ عقود طويلة، أخذ المثقفون السعوديون يحلمون ويتطلعون بشدة، إلى إعداد برامج لتفعيل فوري للحركة الثقافية، وإلى رعاية حقيقية للنشاطات الأدبية ودعم المبدعين وتفعيل حركة الترجمة وسواها. من هنا جاء الملتقى، كأول نشاط ثقافي تنظمه وزارة الثقافة والإعلام منذ تأسيسها، بمثابة الاختبار لمدى صدقية الوزارة في توجهها إلى الثقافة، ومدى قدرتها على تدشين عهد جديد تتحول فيه الأحلام والتطلعات واقعاً ملموساً. وكبداية نجحت وزارة الثقافة والإعلام إلى حد كبير، في البرهنة على أن تفعيل الثقافة يأتي في مقدم همومها، عندما سعت إلى لمّ شمل المثقفين، من الجنسين، وفي مختلف طبقاتهم واتجاهاتهم ومشاربهم، والاستماع إلى تصوراتهم ومقترحاتهم في رسم أو صوغ استراتيجة جديدة طويلة المدى للثقافة. في الملتقى حضر الروائي والشاعر والقاص والناقد والمفكر والمسرحي والرسام والمطرب والممثل والناشر والسينمائي والصحافي والمذيع وسواهم، وهو الأمر الذي لم يحصل من قبل. وكان واضحاً التنظيم الدقيق والإعداد الجيد للملتقى، الذي رافقته تغطية إعلامية مكثفة قلما توافرت لمناسبات ثقافية أخرى. وساد للمرة الأولى أيضاً وطوال مدة عقد الملتقى، مناخ من الحرية والمكاشفة، في تناول أو معالجة واقع الثقافة في أوجهها المختلفة. فقد أعطى التصريح الصحافي الذي أدلى به وزير الثقافة والإعلام فؤاد الفارسي، قبل بدء أعمال الملتقى، الضوء الأخضر للمشاركين في التعبير عن الإشكالات والعوائق التي تعترض المثقف في السعودية، من دون خوف أو حرج، ما شجع الحضور بدورهم أو دفعهم إلى توجيه انتقادات حادة إلى وزارة الثقافة والإعلام نفسها، واتهامها بعرقلة الثقافة وافتعال العوائق أمامها، وتساءل بعضهم كيف تطالب الوزارة بانتشار المكتبات العامة ودعم صناعة النشر، وفي الوقت نفسه تمنع الكتاب من الدخول، كما لا تجيز بعض مخطوطات الكتب الأدبية التي يتقدم بها مؤلفوها لنيل الفسح من أجل طباعتها، داعين إلى حل سريع للإشكال القائم الذي يتمثل، من وجهة نظرهم، في الجمع بين نقيضين: الثقافة والإعلام. تفاوتت مستويات أوراق العمل التي ألقيت، من حيث الجدية والعمق والجهد المبذول من ورقة إلى أخرى. ففي الوقت الذي أفصح عدد من الأوراق عن هم حقيقي وعن تلمس واع لمكامن الخلل في الجسد الثقافي، اتسم بعضها بالانشائية والتعميم ومعالجة الأمور على غير ما تستحقه من دقة وتحليل تارة، وبالدفاع عن المؤسسات الرسمية في شكل هش طوراً. وشهدت معظم المحاور نقاشاً وجدلاً واسعين، لدى الحاضرين والمشاركين، بهدف الوصول إلى أفضل النتائج. مشاركة المرأة، التي تأتي صوتاً من قاعة أخرى منفصلة، كانت لافتة بحماستها في طرح الرؤى الجديدة والعميقة، وكأنما هي في منافسة قوية مع الرجل، وبرغبة أيضاً في درء تهمة التسطح والاهتمام الثانوي عنها. والنساء هن من تنبه إلى غياب القضايا الثقافية للشباب عن أعمال الملتقى، مؤكدات في إحدى الجلسات ضرورة الاستماع إلى صوت المثقف الشاب وتلمس هموهه. ولم تخلُ المداخلات من آراء متشنجة ورافضة، مثلما حدث في محور "الموسيقى والفنون الشعبية"، إذ عبر بعض الحاضرين بصوت صاخب عن رفضهم للموسيقى وتحريمها، مشددين في شكل بعيد من ثقافة الحوار، التي تدعو إليها الحكومة السعودية هذه الأيام، على ضرورة منعها. وربما لهذا السبب ألغيت من حفلة الختام، فقرة موسيقية، كان أعلن عنها في الصحف، ضمن برامج الملتقى، وكان ليقدمها عزفاً على آلة العود، الموسيقار عبدالرب إدريس، وهي خطوة لو تم تحقيقها كانت ستحدث، في رأي البعض من المثقفين، تحولاً خطراً في الشأن الثقافي. المرأة والثقافة في الملتقى، الذي افتتحه أمير منطقة الرياض الأمير سلمان بن عبدالعزيز الذي دعا إلى تحديث الثقافة وتطويرها شرط مراعاة الخصوصية الإسلامية لبلد الحرمين الشريفين، تحدث الناقد عبدالله الغذامي القيت نيابة عنه عن ضرورة إسناد مواقع ذات مسؤولية جوهرية تتولاها المرأة، كونها أقدر من الرجل في المسائل التي تخص المجتمع النسائي، وعن تخلي الرجال عن الوصاية عليها، وتأسيس منابر ثقافية نسائية وأندية فكرية واجتماعية تديرها النساء ويُفتح فيها المجال لانتخابات حرة بين صفوف المثقفات، وتوفير قانون عملي يضمن حرية التصويت والاختيار، في المؤسسات المفترضة للمرأة. القصيبي والرقابة وتطرق الروائي والشاعر غازي القصيبي في ورقته، التي اتسمت بالجرأة وطاولت بعض أجهزة وزارة الثقافة والإعلام في حضور الوزير نفسه، إلى موضوع الرقابة الصارمة والواجمة التي تحاول شق الأدمغة عن الأفكار والصدور عن الأحاسيس، والتي تحجب من دون تردد، ديوان شعر لأنه يحتوي على "قبلة" أو "ضمة"، وتجيز كتاباً يصم نخبة من شعراء الوطن وكتّابه بالردة بناء على تأويلات مريضة وأمية ومغرضة. وهذه الرقابة التي وصفها بالمتضخمة بنرجسيتها، تستمد شرعيتها من ادعائها "انها الحصن الحصين في وجه الانحرافات الفكرية أو النزاعات الانحلالية أو الجهات الاستعمارية"، في حين انها تستمدها من شرعية التفوق الفكري والعقائدي والأخلاقي المزعوم والوهمي. وتناول الناقد معجب الزهراني أهمية أن تقوم وزارة الثقافة والإعلام بتدشين عمليات إصلاح ثقافي منظم ومنتظم، وأن تكف عن مراقبة الكتب ودعمها للإصدارات المتواضعة أو الرديئة، في الوقت الذي تبقى أهم كتب المبدعين السعوديين في الخارج ولا يتم تداولها في موطنها الأصلي. ودعت الشاعرة فوزية أبو خالد إلى ضرورة توفير الأمان النفسي والجسدي للمثقف وألاّ يكون مصدر رزقه أحد اثمان سكوته. وأكد الناقد سعيد السريحي العناية بالشأن العام، كشرط وجود لا يتحقق مفهوم المثقف من دونه، وتوقف عند العلاقة المضطربة بين المثقف والمؤسسة الرسمية التي لا ترى في المثقف سوى كائن إشكالي، انتقادي ومعارض. وتحدثت الكاتبة إيمان القويفلي عن الافتقار إلى الإصدارات الثقافية التي تقدم الحراك الثقافي المحلي والخارجي. واعتبر الناقد حسن النعمي أن النظرة إلى البعد الاجتماعي في علاقة المجتمع بالمسرح لم ينظر إليها في شكل جاد، وقال ان هناك قطيعة بين المجتمع والمسرح، وخلص إلى أنّ لا توجد حركة مسرحية في السعودية. وتحدث الناشر عبدالله الماجد عن عدم وجود خطة للنشر لدى الناشرين السعوديين، وتوقف عند معضلات صناعة النشر. توصيات في حفل الختام، قرأ أمين عام اللجنة الاستشارية الكاتب محمد نصرالله، التوصيات التي نصت على اعتبار أوراق العمل المقدمة للملتقى والنقاشات والمداولات والتوصيات التي انتهى إليها، أساساً لوضع الاستراتيجية الوطنية للثقافة في المملكة، وعلى الاهتمام بالثقافة بصفتها مرجعاً لتحصين الأمة والنهوض بها لمواجهة الأزمات والتحديات التي تهدد كيانها كالتطرف والغلو والانهزام والتبعية وتعزيز الولاء الوطني. وجاء في التوصيات: الاستعجال في الترخيص لجمعية الكتاب والأدباء السعوديين، وضمان حرية التعبير المسؤولة للأدباء والمثقفين والفنانين وتوفير الأجواء المناسبة للنشر والإنتاج، وتأكيد مشاركة المرأة الثقافية في داخل المملكة وخارجها، والحاجة إلى اقامة مؤسسات ثقافية جديدة تهتم بالكتاب والفنون التعبيرية والشعبية والمسرح والفن التشكيلي، وإعادة العمل بتقديم جائزة الدولة وتوسيع مجالاتها لتشمل العلوم والفنون والآداب... وعلى رغم ما لامسته التوصيات من مسائل جوهرية فهي تحتاج الى زمن لحسمها، إلا انها لم تأت بجديد ولم تفاجئ غالبية المثقفين، فكل ما أكدته سبق أن طُرح مراراً. ومع ذلك أبدى معظم المثقفين ارتياحهم الى ما أفصحت عنه تلك التوصيات واعتبروها بداية جيدة، فيما لم ينتظر بعضهم انتهاء نصرالله من تلاوته آخر البنود، فأخذوا يتبادلون، عبر رسائل "الجوال"، التعزية والتعبير عن عدم تفاؤلهم، في إحداث أي تغييرات جذرية في البنية الثقافية في القريب العاجل. بدت خيبة الأمل واضحة على وجوه هؤلاء، الذين لم تشفع أيام الحرية ولياليها الثلاث والتجمع الثقافي النادر في تعزيتهم. فلم يكن المثقفون السعوديون ينتظرون مزيداً من التوصيات، التي تحتاج إلى مرحلة طويلة لدراستها وتفعيل ما يمكن تفعيله منها، بل كانوا يأملون في صنع قرارات حاسمة من وزارة الثقافة والإعلام، تترجم في شكل فعلي ما ظلوا ينتظرونه منذ أمد طويل. وأخيراً، هل سيعود المثقف السعودي إلى الحلم من جديد في غد ثقافي مزدهر، أم سيدخل حالاً من "اليأس العدمي الأسود"، بحسب تعبير الأديب غازي القصيبي في ورقته المتميزة عن "ثقافة الثقافة"؟