في الخمسينات والستينات من القرن المنصرم، كانت اذاعة دمشق منبراً إعلامياً كبيراً لفن الغناء العربي عامة وللغناء في سورية في شكل خاص. فقد كانت احدى أقوى اذاعتين عربيتين في ذاك الوقت، إما الإذاعة الثانية فكانت القاهرة. ولم تكن قوة اذاعة دمشق هي العامل الوحيد في لعب هذا الدور، بل كان لإدارة الإذاعة دور أساس في ذلك، من خلال سعيها لاكتشاف المواهب في مجالي التلحين والغناء ورعايتها. فإذاعة دمشق هي التي اكتشفت وتبنت الكثير من المطربين السوريين. ويعود الفضل المباشر في ذلك للاذاعي الكبير الأمير يحيى الشهابي مؤسس الاذاعة، وصاحب مواقع ادارية مهمة فيها. وأذكر من المطربين الذين رعتهم اذاعة دمشق رفيق شكري الذي كانت بداياته الفنية في مطلع الأربعينات، لكن انطلاقته الكبيرة كانت من الإذاعة. والمطربة كروان التي اكتشفتها الاذاعة وجعلت منها مطربة كبيرة عام 1950، وكذلك الأمر بالنسبة الى ياسين محمود وفتى دمشق ومعن دندشي. وكل هؤلاء المطربين - ومن خلال اذاعة دمشق - استطاعوا أن يحققوا انتشاراً عربياً واسعاً. فزاروا الكثير من الدول العربية، وأقاموا الكثير من الحفلات في مصر والعراق ولبنان والكويت. وسجلت لهم اذاعاتهم الكثير من الأغاني. والآن... وبعد مرور أكثر من أربعين عاماً على ذلك، عندما التقي بعض الأشقاء العرب كبار السن، يتذكرون هؤلاء المطربين، ويترنمون بأغنياتهم. ولم يقتصر دور الاذاعة على رعاية المواهب الغنائية السورية واحتضانها، وانما رعت أيضاً وساهمت في انتشار الكثير من المطربين العرب. حتى ان الكثير من هؤلاء، كانوا يقصدون دمشق واذاعتها، من أجل تحقيق الانتشار عربياً. فالأمير يحيى الشهابي في احدى زياراته لبيروت مطلع الخمسينات من القرن الماضي، تعرف الى الرحابنة وفيروز. ودعاهم الى دمشق، ليقدموا أعمالهم عبر اذاعتها. وفي المكتبة الموسيقية لهذه الإذاعة عدد كبير من التسجيلات لفيروز والرحابنة موزعة بين أغان ومسرحيات واسكتشات غير موجودة في أي اذاعة عربية أخرى. ومن خلال نجاحهم في الاذاعة، انتقلوا الى مسرح معرض دمشق الدولي عام 1956، ليقدموا على خشبته مسرحياتهم وأعمالهم الغنائية، ولتصبح عروضهم على هذا المسرح في شهر أيلول سبتمبر تقليداً سنوياً استمر لأكثر من عشرين سنة وهذا ما عبرت عنه فيروز: "شآم أهلوكِ أحبابي وموعدنا / أواخر الصيف آنَ الكرم يعتصر / نعتق النغمات البيض نرشفها / يوم الأماسي لا خمر ولا سهر". انطلاقة سعاد محمد والمطربة سعاد محمد... كانت انطلاقتها الكبيرة وشهرتها عبر لحني "مظلومة يا ناس" و"دمعة على خد الزمن" للملحن السوري الكبير محمد محسن، وكذلك الأمر بالنسبة الى نجاح سلام ونهوند ومصطفى كريدية وصابر الصفح وسعاد هاشم وشقيقتها نهى وغيرهم كثيرون. حتى مطربو مصر، كانوا يجدون في اذاعة دمشق النافذة الأرحب - وعلى سبيل المثال - عندما فشل عبدالحليم حافظ في مصر بأغنية "صافيني مرة"، تبنت هذه الأغنية اذاعة دمشق، كانت تبثها في اليوم الواحد مرات عدة، وبعد ذلك أصبحت مطلوبة في مصر. وفي عام 1960 عندما تأسس التلفزيون العربي في اقليمي الجمهورية العربية المتحدة سورية ومصر، وأصبح بعد ذلك في سورية التلفزيون العربي السوري سار الى جانب الاذاعة في شهرة المطربين السوريين على الصعيد العربي. وأذكر هنا أمثلة فهد بلان ومها الجابري وموفق بهجت. كما استمر تلفزيون دمشق واذاعتها في استقطاب المطربين العرب ومساعدتهم في الانتشار أذكر منهم سميرة توفيق وفؤاد حجازي ودلال شمالي وعبده موسى... ولكن ماذا حدث بعد ذلك؟ الذي حدث بعد ذلك أن اذاعة دمشق وتلفزيونها بدءا يفقدان هذا الدور بالتدريج، حتى تخليا عنه تماماً في السنوات الأخيرة. وأصبح التلفزيون والإذاعة غير قادرين، حتى على تقديم المطربين السوريين الى الساحة العربية، وأصبح على المطربة أو المطرب السوري إذا أراد الانتشار عربياً الذهاب الى القاهرة، ثم بعد ذلك يمكن أن يعود الى بلده نجماً. تماماً مثلما حدث مع ميادة الحناوي وأصالة نصري. وطبعاً للقاهرة شروطها، فهي لا تقدم أي مطربة أو مطرب إذا لم يغن لملحنين مصريين وباللهجة المصرية، وهكذا أصبحت ميادة وأصالة فنياً مصريتين. من يتبنى؟ بل ان الأمر بالنسبة لإذاعة دمشق وتلفزيونها زاد عن هذا الحد. فأصبح هذان الجهازان الإعلاميان غير قادرين على تبني الأصوات الغنائية السورية الجيدة، فإذ بهما لا يبثان إلا الأغاني الغثة لأصوات رديئة بينما نجد أصواتاً ممتازة محرومة من بث غنائها. فذهبت هذه الأصوات لتبحث عن نوافذ تطل من خلالها على العالم، واستطاعت هذه الأصوات أن تحقق شهرة عربية وحتى عالمية واسعة، بينما هي في سورية مجهولة تماماً. صبري مدلل... هذا الصوت التراثي الجميل الذي انطلق من حلب، لم يجد في بلده من يهتم به. لكنه لفت اهتمام الأوروبيين. فوجهوا اليه الدعوات. وفي معظم الدول الأوروبية أدهش الأوروبيين بغنائه للتراث العربي مع فرقته، كما نال شهرة في معظم الدول العربية. بينما لا أحد يسمع به في دمشق، وفي عام 1997، وخلال عيد الأضحى المبارك، شاركت معه في برنامج "خليك بالبيت" الذي يبثه تلفزيون المستقبل، وبعد عودتي الى دمشق. سألني مسؤول اعلامي كبير: "من هذا المطرب الذي ظهر معك في برنامج خليك بالبيت؟" وشرحته له. فأشار الى مبنى التلفزيون الذي كان يبدو من النافذة. لماذا لا يذيع هؤلاء أغانيه؟ الأمر نفسه ينطبق على أديب الدايخ الذي طبقت شهرته أوروبا والبلاد العربية، ورحل، ولم يسمع به إلا القليل القليل من الناس في سورية. وفي سورية الآن مطربون شباب، استطاعوا ان يحققوا شهرة عربية واسعة، لكنهم مجهولون في بلدهم. أذكر منهم المطرب الحلبي الشاب حمام خيري الذي شارك في مهرجانات تونس الدولية قرطاج والمدينة فيقيم الدينا ويقعدها، وهو معروف في مصر أيضاً، لكنه لا يجد دقائق في تلفزيون دمشق واذاعتها. والكلام نفسه يمكن أن يقال عن عمر سرميني ونهاد نجار وغيرهم. رويدا... من الخارج ولكن المثال الأكثر وضوحاً لعجز الإعلام السوري عن تقديم المطربين السوريين الى الساحة الفنية العربية يتمثل في رويدا عطية. فقد غنت رويدا في الكثير من الحفلات التي بثها التلفزيون، بل انها شاركت في مهرجان الأغنية السورية الثامن عام 2002 وكان يترأسه صباح فخري، لكن أحداً لم يشعر بها، حتى شاركت في برنامج "سوبر ستار" عبر شاشة المستقبل. فحققت نجومية كبيرة. وفي احدى حلقات "سوبر ستار" كان الفنان صباح فخري ضيفاً في الحلقة، وبعدما سمعها تعجب أين كانت مخبأة؟... فقالت له: لقد شاركت في مهرجان الأغنية الذي كنت أنت مديراً له. ولكن عندما وصلت الى الحلقة الأخيرة من البرنامج وأصبحت نجمة أقام التلفزيون السوري تلك الضجة الإعلامية، ليوهم العالم وكأنه هو الذي صنعها. ويبقى السؤال... لماذا كان لتلفزيون دمشق واذاعتها في ذاك الزمان الدور الريادي في مجال الغناء؟ ولماذا فقدا هذا الدور تماماً منذ مطلع الثمانينات من القرن الماضي؟ الجواب بسيط... أيام زمان كانت دائرة الموسيقى في اذاعة دمشق، هي صاحبة القرار الأول والأخير في تقدير صلاحية صوت المطرب أو الأغنية، ولا يتدخل أحد من المسؤولين وعلى أي مستوى في عملها. وبالتالي فإن اللجنة هي التي تمنع أو تسمح ببث الأغنية عبر الاذاعة أو التلفزيون. وكان رؤساء دوائر الموسيقى ولجان الاستماع موسيقيين كباراً أمثال يحيى السعودي، مجدي العقيلي، يوسف بتروني، شفيق شبيب، عبدالفتاح سكر، تيسير عقيل... ولكن دور دائرة الموسيقى هذا، ألغي تماماً منذ سنوات طويلة. وأصبح دورها تنفيذياً، أي تسجل من الأغاني ما تؤمر به من فوق، من دون أن يكون لها رأي فيها. والمطربون لا يتم اعطاؤهم أغاني بحسب جودة صوتهم، وانما يخضع الأمر لمعايير أخرى. فإما أن يكون المطرب مدعوماً من أحد المسؤولين في الأمن أو الدولة، أو يدبر أموره بنقوده على مبدأ أغنية ليلى مراد "ادفع طلّع"، والمسؤولون في الإذاعة والتلفزيون، إما لا حول لهم ولا قوة، أو أنهم داخل اللعبة. * صحافي ومؤرخ موسيقي.