تحول اجتماع خاص مع سيدة تبوأت خلال سنوات عملها التي تزيد على الخمس والثلاثين، مراكز إدارية وحكومية مهمة في البلد، إلى حديث شخصي، أخبرتنا فيه عن نجاحها الدراسي وتفوقها في "البروفيه" وحرص والدها على إكمال تعليمها الجامعي في زمن كانت غالبية العائلات الدمشقية لا تشجع بناتها إلا على الزواج من "ابن العم" وإنجاب السلف الصالح. وفي محاولة لتغيير الموضوع سألتها عن سر محافظتها على رشاقتها وجمالها، وهنا جاء الجواب سريعاً كالسهم الفتاك "هو الرجال، إما أن توفق الواحدة برجل يدللها ويطيل عمر شبابها أو آخر يقصف عمرها ويقصر شبابها"، مضيفة: "العمر كما نقول في الشام "تمضاية وتقضاية" والواحدة منا إما أن تسعد أثناء زواجها أو بعد وفاة زوجها". لكنها تجاهلت تماماً ما يمكن ان يحدث في حال وفاتها، والثابت هنا ان الأولاد الصالحين يخلدون والدتهم وإن كانوا لا يحملون اسمها. أولاد السيدة وبناتها درسوا الطب والهندسة وتوظفوا بمجهوداتهم في أفضل الوظائف الحكومية وفي المنظمات الدولية التي لا يصل مصافها إلا كل طويل عمر وكل صاحب "واسطة". على هذا المنوال قضيت وقضى من معي ساعتين وربع الساعة في اجتماع لم تستطع الداعية إلى عقده الخروج من "دائرة الذات"، دافعة من معي إلى الاستعواذ بالشيطان وشكر الله على خلقهم "رجال". ما حدث في ذلك اليوم من "ثرثرة نسائية" يحدث كل يوم وفي كل مكان حول العالم، وأرجو ألا أعتبر في سردي له في صف الرجال الذين يفوق تأييدهم للمرأة المسؤولة في مكان العمل تأييد النساء، اللواتي يسعين على العكس إلى افشال مساعيها ومهماتها، إلا أن حدوثه لا ينفي أبداً أسئلة تشغل بال الكثيرات من الشابات اللواتي بدأن للتو ممارسة حياتهن المهنية ولأخريات تبوأن مناصب وظيفية متقدمة وصرن من صناع القرار في مؤسساتهن، "لماذا لا يحقق العمل للمرأة الرضى عن الذات؟ ولماذا لا تتطلع المرأة أو الشابة إلى ذاتها إلا كجزء من لوحة لا يمكنها أن تتخيل نفسها وحيدة ضمنها؟ وكيف يمكن المرأة أو الشابة تطوير عملها إن كانت فعلاً لا تحس بقيمته؟". في حديث مع صبية جميلة يعدها المستقبل بكثير من الفرص لكل ما تحمله من إمكانات، شكت ذات السبعة والعشرين ربيعاً إحساساً غريباً، يتمثل بعدم رغبتها في الرجال وأوردت كبرهان عليه شواهد وأحداثاً عدة، ولكنها اعترفت أيضاً بلهاثها الغريب وراء العريس وإنفاقها "تحويشة العام" على السفر سنوياً إلى أميركا بغية تقديم نفسها كعروس لأبناء أقاربها هناك. أما السبب فيعود إلى عدم نيلها اعتراف عائلتها بها وخصوصاً والدتها كصبية ناجحة عملياً، فالكل يتمنى لها الزواج بأسرع وقت ممكن، لئلا يفوتها القطار ويقدم لها المواساة لأنها كبيرة العائلة التي لم تتزوج، "ولا يهمك العيد الصغير بيجي قبل العيد الكبير"، فهل هذا كاف للإجابة عن أسباب عقد مستعصية وتصرفات غريبة لدى كثيرات من الناجحات غير المتزوجات؟ وهل لا بد لمجهود المرأة من أن يقدم دوماً داخل إطار العائلة ليصفق له المجتمع الذي لم ينل رضاه المطلق أحد بعد؟ أثناء تربية الفتاة قد تتفق العائلة مع الوسط المحيط بها على ضرورة تعليم الفتاة وأهمية حصولها على عمل تكسب من ورائه عيشها وبعضاً من استقلاليتها، لكنها أي الفتاة تتشرب مع هذه المفاهيم جملة عقبات تقف أمام تطورها المهني كضرورة الالتزام بحدود معروفة في العمل تظل من خلالها مرغوبة من المجتمع والأقران، وأن تتعمد البقاء في الظل لتترك النور لمن حولها من الرجال. والدة صديقتي لا تتوقف أبداً عن توجيه اللوم لزوجها الذي لم يدعم يوماً أحلامها وطموحاتها، وعن التحسر على عمر دفنت فيه موهبتها في الرسم والكتابة لتربي أبناءها تربية صالحة، وكان نتيجة هذا الندب المتواصل تولد إحساس مزمن بالذنب لدى أبنائها، الذين حاولوا أكثر من مرةإقامة معرض لرسومها الجميلة والقليلة العدد فرفضت وبشدة، ترى لماذا؟ هل لأن نجاح أبنائها يكفيها؟ أم لأنها لا تريد النجاح بل اعتادت ببساطة مظهر الضحية أمام أبنائها الذين يكافئون تضحياتها بعطاءات مادية ومعنوية؟ لماذا تخسر ما في اليد من أجل عصفور على الشجرة، سيما وأنها حولت تضحياتها الكثيرة وسيلة للضغط على أبنائها والتدخل في حياتهم الشخصية وأمورهم اليومية. حالة شبه يومية من التوتر تعتري معظم الفتيات والسيدات، في البيت والعمل والشارع، تحرمهم جميعاً الإحساس بالثقة والرضى والانتماء الراسخ إلى مجتمع العمل، وهنا يتبادر الى الأذهان سؤال مهم لا بد من الإجابة عنه سريعاً لإصلاح كثير من المفاهيم وتدارك الآلاف من المشكلات المحيرة، هل تكمن مشكلات الفتاة في الاستقلال، الوظيفة، المهنة، الجنس أو الرجل؟ والأغلب أن لا شيء مما سبق هو المسؤول وأن المسؤولية تقع كاملة على عاتق تربية خاطئة تتلقاها الفتاة منذ طفولتها المبكرة تعتاد فيها الحياة من خلال حماية الآخرين ورعايتهم، ما يجعلها تشعر دوماً بأهمية ما يمنحها إياه الآخرون وليس بأهمية ما تمنحه هي ذاتها لذاتها. عبر وسائل الإعلام المتعددة تجيب معظم السيدات بصيغة شبه موحدة عن سر نجاحهن: "يقال ان وراء كل رجل عظيم امرأة لكنني أقول إن وراء كل امرأة عظيمة رجلاً مثالياً سواء كان هذا الرجل أباً أو أخاً أو زوجاً". وهذا من شأنه ترسيخ مفهوم واحد لدى الفتاة وهو أنها لا بد من أن تنتظر من الرجل أينما كان ومهما كان موقعه دعماً من نوع ما. بل إن حلماً موحداً أيضاً تتحدث عنه الآلاف من الفتيات يومياً في جامعاتهن ومدارسهن وجلساتهن الصباحية وهو أنهن يحلمن برجل يؤهلهن لترؤس جمعيات خيرية وأعمال اجتماعية ومهرجانات ثقافية، على رغم أنهن يعلمن تماماً أن عائدات معظم هذه الأعمال لا يعيلهن شخصياً فكيف إن كانت لديهن عائلات، فالأمر إذاً يتعلق بالصورة النمطية في الإعلام وفي أمثلة غير جيدة يكرسها التلفزيون يومياً في الأخبار وفي الإعلانات التي قالت طبيبة ناجحة في دمشق انها كلما شاهدت إعلان حليب للأطفال تحس بذنب كبير تجاه أطفالها المنتظرين في المنزل! وان مثل هذه الإعلانات وبعض القراءات كانت سبباً في إغلاقها عيادتها مدة ثلاثة أشهر أصابها خلالها اكتئاب فظيع!