معهما، انقلبت موازين الثنائي التقليدية. هي تانسو تشيلر، شقراء تركياالشرقية، دخلت التاريخ بعدما كانت أول امرأة تتبوأ سدة الحكم في تركيا. تلوّنت بألف لون ولون سياسي فاعتلت أرفع مراكز المسؤولية السياسية وصولاً إلى رئاسة مجلس الوزراء قبل أن تعود إلى نقطة الصفر. وهو زوجها، "مستر تشيلر" حقاً الذي تخلى عن اسم عائلته ليتبنى عائلتها فعلياً. أسهم في وصولها إلى سدة المسؤولية عبر دعمه الصامت لها... وأسهم أيضاً في سقوطها من خلال فضائحهما المالية وصفقاتهما التجارية المشبوهة. هي الصبي المرتجى عندما ولدت الفتاة الصغيرة الشقراء عام 1946، طأطأ حسين نيفاتي رأسه صامتاً لرؤية أحلامه المستقبلية تتبخر سريعاً أمامه. فهو أصبح أباً لفتاة بدلا" من الصبي الذي أمل في ولادته لتحقيق أحلامه السياسية ورفع إسم عائلة "تشيلر" التي اختارها والده نوري بك في أعقاب فرض الرئيس مصطفى أتاتورك على كل العائلات التركية اتخاذ اسم علم محدد بعدما كان اللقب يحل مكان الإسم في ما قبل. وصبّ الوالد كل آماله على تانسو التي اختصرت كل الأبناء الذين لم يرزق بهم أبداً... فبادلته الكيل كيلين. دفع عنها مبالغ مالية طائلة لتتعلم في مدرسة وجامعة خاصتين، فتفوّقت وتميّزت وخاضت الميدان الجامعي بنجاح تام حيث تعرّفت إلى شريك حياتها أوزير أتشوران في خلال حفلة شاي نظمها نادي اليخوت في اسطنبول. شاب أسمر وسيم يلفت النظر بأناقته، يدرس الهندسة بينما تتخصص هي بالإقتصاد في معهد روبرت الذي بات في ما بعد جامعة البوسفور. أغرمت به، فخطبته بعد أقل من سنة. تخرجا معاً، نال كل منهما شهادة في اختصاصه، قررا الزواج ومن ثم السفر إلى الولاياتالمتحدة الأميركية لمتابعة تحصيلها العلمي حيث حازت شهادتي الماستر والدكتوراه في الإقتصاد. هناك، أمضيا سنوات طويلة من الدراسة، رزقا بصبي سمّياه ميرت، اي الشريف واللبق. ونالا الجنسية الأميركية العام 1970، فبنيا علاقات مفيدة بمسؤولي جمعية رجال الأعمال الأتراك الذين فتحوا لها الباب السياسي عريضاً. زوجها بات "مستر تشيلر" وما لبثت تانسو تشيلر أتشوران أن عادت إلى تركيا حيث انصرفت إلى إلقاء المحاضرات الإقتصادية في جامعة البوسفور ورزقت بصبي ثان سمّته بيرك، أي ورق الشجر. وتدرجت في عملها الجامعي من معاونة "أستاذ جامعي" إلى "استاذ" بالكامل، مظهرة طموحاً كبيراً يكاد يكون غير محدود... لكن بأسلوبها الأنثوي الخاص. وبدأت تنشر مقالات إقتصادية عدة باللغات الإنكليزية والتركية والإلمانية، مؤلفة ستة كتب في هذا المجال بينما اتجه زوجها إلى العمل في القطاع الخاص وبات المدير العام لمصرف اسطنبول الرسمي... الذي أعلن إفلاسه في ما بعد بينما برزت ثروة طائلة في الحساب المصرفي للزوجين. وبدأت فترة ذهبية لتانسو تتوّجت بتحقيق حلم والدها الذي اراد أن تتناقل الأجيال اسم تشيلر، فاكتسب زوجها اسم عائلتها بدلاً من عائلته أتشوران التي كانت محط نكات عدة وسخرية قاسية، إذ إنه يعني بالتركية "دعه يطير"، وبات "مستر تشيلر" حقاً، خصوصاً أنها سئمت من أن ترى ولديها الصغيرين يعودان كل يوم مساء بعينين حمراوين نتيجة مزاح رفاقهما الثقيل على إسم عائلتهما. أعجوبة الدنيا الثامنة وبدأ الحلم الثاني لوالدها يتحقق، هو الذي دعمها من دون أي شروط مسبقة مطلقاً عليها لقب "أعجوبة الدنيا الثامنة". فقدّمتها جمعية رجال الأعمال الأتراك الى رئيس الوزراء السابق سليمان ديميريل، رئيس حزب "الطريق القويم" الذي سارع إلى تكليفها مهمات وزارة الإقتصاد في حكومته على رغم كونها دخيلة كلياً على ميدان السياسة. وبدأت تانسو تشق طريقها السياسي متميزة بفكر ماكيافيلي قلما عرفته الدوائر السياسية التركية بينما زوجها يبتعد شيئاً فشيئاً عنها منهمكاً بتجميع الأموال التي قدرت بعشرات ملايين الدولارات عبر المتاجرة بالعقارات والفرص القانونية وغير القانونية التي سنحت له من خلال موقع زوجته المهم سياسياً. فأعلنت قانونياً عن أموالها عندما بدأت حملتها الإنتخابية الأولى... "ناسية" أن تكشف عن ممتلكاتهما في الولاياتالمتحدة الأميركية، أي عن 4 منازل ويخت وسيارة وبعض العقارات. وبنت تانسو حياتها السياسية كالنملة النشيطة، من دون أي هوادة أو راحة أو تردد. انتخبت نائباً عن اسطنبول، دعمها ديميريل لترثه في رئاسة الحزب بعدما تولى رئاسة الجمهورية، وصرخت بفخر واعتزاز كبيرين : "لقد غيّرنا التاريخ". وهي بدأت تتحضر لتكون أول سيدة تترأس الحكومة في تركيا. ففاقت معلمها دهاء وحنكة، واستهلت عصياناً عليه لتبتعد عنه وتبرز صورة مستقلة عن خطه السياسي الذي كاد أن يلازمها طويلاً، مسخّرة كل الوسائل المتاحة أمامها... حتى أن المقربين منها كشفوا أنها كانت تستغل أنوثتها لإقناع السياسيين ورجال الدولة بوجهة نظرها. ونقلوا عنها شكواها من إهمال زوجها لها وعدم تقديره لجمالها وذكائها. فهي ذات ثقة بنفسها وإرادة حديديتين... ومتسلطة في معظم الأحيان. استعانت بكل الأدمغة الشابة الجامعية لمعاونتها، وأرست سابقة فريدة في التاريخ السياسي معينة أول امرأة في منصب حاكم لمقاطعة تركية. إنتخبت "إمرأة العام" في تركيا وقال عنها الزعيم الليبي معمر القذافي أنها "مثال المرأة الإسلامية". احتلت الصفحات الأولى في الصحافة الغربية... وبدت السيدة الأولى من دون منازع. بدء الإنهيار ومع تثبيت مكانتها السياسية، بدأت تانسو ترتكب الهفوات الفادحة: بياناتها السياسية والإقتصادية مزورة، أخطاؤها في المحافل الدولية لا تغتفر، جشعها مع زوجها غير محدود إذ إن ممتلكاتهما في الولاياتالمتحدة الأميركية فقط قدرت ب4.5 مليون دولار أميركي وأثارت تساؤلات عدة. وبدأت تواجه الكثير من المشكلات السياسية، خصوصاً لجهة مصاريفها الخاصة التي تدفعها الخزينة. فترسل تارة طائرة حكومية إلى الأرجنتين لشراء مقدار غذائي خاص بوصفة غريبة، أو تكلفها طوراً السفر إلى أوروبا لجلب نوع معين من ال"آيس كريم" تحبه "دولة الرئيسة". كما اتهمت بقضايا فساد عدة، منها إختفاء أموال من الخزينة قبل تنحّيها عن رئاسة مجلس الوزراء واحتيالات مالية كثيرة نسبت إلى الزوجين... ولم ينقذها منها كلها سوى حصانتها السياسية ودعم الجيش التركي لها وهو القوة الفعلية الحاكمة في تركيا. وردت على منتقديها قائلة: "أن مصدر ثروتها هو الأموال البسيطة التي ورثتها عن والدها... والتي أحسنت إستثمارها". وبدأت تانسو تمارس مفهومها للسياسية كالقصب الذي يلوي مع العاصفة ولا ينكسر. جمّعت ملفات "قذرة" عن كل السياسيين الذين قد يشكلون خطراً عليها، فبادلتهم تهديداتهم بكشف فضائحهم بالمثل... زاعمة قبيل الإنتخابات بأنها ستقدم نصف ثروتها للجمعيات الخيرية. تنقلت بين حليف وعدو سياسي بلمح البصر. فخاصمت حزب "رفاه" الإسلامي المتشدد لتكسب رضى ديميريل والجيش التركي والإنتخابات العام 1995، ثم تحالفت مع الأول مثيرة غضب الفريق الثاني الذي دق أول إسفين في نفيها عن الساحة السياسية. حجب المجلس النيابي للمرة الأولى الثقة عن حكومتها فعادت بقوة إلى الساحة بعد 3 أيام فقط لتمسك زمام الأمور وتبقى في السلطة مجدداً. وأبقت رأسها مرفوعاً عالياً "بما فيه الكفاية ليلمس السماء" كما قالت، بعدما خيّل لكثيرين أنها دفعت لوحدها ثمن فشلها الإقتصادي، لكنها لقّنت الجميع درساً في السياسة... من دون أن تقبل دروساً من أحد. وما لبثت أن خسرت من وهجها الشعبي مرة ثانية كانت قاضية بالنسبة إليها بعد بدء الكشف عن سلسلة فضائح جديدة بلغت اتهامها بالفساد عبر 12 ملفاً قضائياً، كانت ابرزها فضيحة دعمها للمافيا والمجرمين. فخسر حزبها الإنتخابات النيابية، واضطرت مكرهة إلى تسليم قيادة "الطريق القويم" إلى محمد آغار، وهو من أقدم المخلصين لخطها السياسي. فلم تتمالك نفسها من البكاء علناً لدى توديعها عالم السياسة في عمر السادسة والخمسين وبعد 12 عاماً على خوضها ميداناً كان من قبل حكراً على الرجال فقط. وغادرت الساحة من دون أن تلتفت إلى الوراء، هي التي عرفت ب"شقراء تركيا" ومن ثم "القناع" في إشارة إلى بسمتها المتواصلة التي تلازمها بين الجموع الشعبية... ومن ثم ب"الملوّنة" لأنها اصطبغت بألف لون سياسي. وجلست على شرفة منزلها الفخم على ضفة البوسفور، ترتشف مشروبها المفضل "الشاي بالتوت" وتخطط وحيدة لاستراتيجية سياسية جديدة لأنها "الأعجوبة الثامنة" التي ستنبعث مجدداً سياسياً من حيث لا يتوقعها أحد.