شابات في عمر الورد يهدين المكاتب والشركات أجمل فترات حياتهن ويقضين في العمل أو الدراسة معظم أوقاتهن، إلا أن النجاح غالباً ما يبقى قاصراً عن إضافة مكتسبات حقيقية مادية ومعنوية، حتى أن كثيرات يتهربن من تحقيق المزيد، فيما تصطدم أخريات بواقع أليم آخر هو عجز النجاح المهني عن جعلهن مقبولات في نظر العائلة والمجتمع والجنس الآخر. لا بل على العكس، فكل ما يكسبنه من مال وما ينلنه من ترقيات يجعلهن موضع شك الأقرباء ونفور الصديق ويحيط حياتهن بعلامات الاستفهام. وتؤدي استقلاليتهن احياناً الى وضعهن في صراع مع سلطة الاب والاخ التي قد تحرمهن إقامة علاقات مع زملائهن الذكور. فلماذا يعجز العمل عن تحقيق غاياته، وما هي تلك الغايات في نظر معظم تلك الشابات؟ تخرجت ربا .خ 24 عاماً من كلية الهندسة المدنية بتفوق وقررت أخيراً تقديم استقالتها من عملها في إحدى الشركات الخاصة، متخلية عن المنصب الذي كانت تحسدها عليه معظم صديقاتها. عن سبب الاستقالة تقول ربا: "غيابي الطويل عن المنزل اقلق أهلي كثيراً وأقلقني أيضاً. فقد ولَّد لدي احاسيس غريبة. صرت أكثر تمرداً وأعتمد على نفسي اكثر ولكنني لم أحب ذلك أبداً وبدأت أخاف، ورحت أبتعد عن عائلتي شيئاً فشيئاً وصرت على شجار دائم مع أمي التي أخذت تردد على مسمعي ليل نهار أنني لست بحاجة الى العمل وأن مصير البنت بيتها وزوجها وأنا أحب ذلك وأؤمن بأن السيدة التي تعمل كثيراً لا تستطيع تلبية حاجات زوجها وأسرتها". وتؤكد الاحصاءات الكثيرة التي أجريت في الغرب أن الاستقلال الاقتصادي للفتاة أولى درجات سلم تحقيق الذات، وها هي رشا علاء الدين 27 عاماً الحائزة شهادة الماجستير من فرنسا تتحدث عن والدتها التي طالما شجعتها على نيل الشهادات، الا انها بعد أن أصبحت موظفة في شركة فرنسية معروفة وتتقاضى شهرياً ما يفوق الألف وخمسمائة دولار، صارت تطربها يومياً بذاك الموال القديم وهو الزواج. وتقول رشا إن والدتها راحت تشجع الخالات والعمات على التحدث معها في هذا الموضوع حتى كرهت الزواج: "لا أحس بما أحققه من نجاح وما أناله من إعجاب مرؤوسي بي، وأتألم لكوني أقوم ببعض التصرفات غير المتوازنة تجاه زملائي في العمل فأنا أتقرب من زملائي في العمل بطريقة غير محببة فيها الكثير من التطفل والاستعراض لعلّي أحظى بأحدهم كزوج أو رفيق". وتتابع: "رفضت منحة السفارة الفرنسية لإتمام رسالة الدكتوراه لأنني أخشى أن يفوتني القطار وعندها لن ينفعني مرتبي الكبير في شيء، كما أنني اعتقد أن الرجل الشرقي لا يحب أن يكون مرتب زوجته اعلى من مرتبه، حتى أن زميلتي تعرضت للطلاق بسبب ذلك، فالمرتب الكبير في جيب الشاب يجذب البنات إليه ولكن العكس غير صحيح". مارينا 24 عاماً فتاة دمشقية وخريجة الجامعة الاميركية في بيروت وهي تعمل الآن في دمشق في أحد مكاتب الاستشارات الخاصة. تحدث عن "تقديسها" العمل وعن مدى تأثير عمل والدتها في ترسيخ هذا المفهوم لديها وتقول: "يمكننا دوماً الجمع ما بين حالي الحب الجميل والعمل الناجح، فأنا لا أؤمن أبداً بأن الاهتمام بالعمل يستدعي الامتناع عن الحب وإهمال الحياة الخاصة فلكل منهما طعم خاص". ولكنها تردف قائلة: "لقد رفضت تسلم إدارة المشاريع في المكتب، فأنا لا مشكلة لدي في الخروج مع شاب أو صديق يعمل في منصب أقل ولكنني بنظر الشباب كنت سأصبح نموذج "الشابة المديرة" لذا أحسست بالخوف من ألا أجد شاباً يحبني". التعريف الملتبس للأنوثة ومظاهرها المتداولة، والخوف من فقدان اعتراف الوسط المحيط بهذا العنصر البالغ الاهمية بالنسبة الى الفتاة، يدفعانها في شكل لا شعوري أو إرادي أحياناً الى التوقف عن الجري وراء أحلام النجاح و تبوء مسؤوليات أعلى بحجة أن تلك المناصب خلقت للشبان. منال 25 عاماً وهي موظفة في شركة اتصالات كمديرة مبيعات، تتحدث عن خوف قلما تفصح عنه وإحساس داخلي قد تجسده بعض تصرفاتها المريبة قائلة: "أثناء ممارستي لمهماتي أخاف كثيراً فقدان أنوثتي وكثيراً ما أسمع الموظفين يتهامسون حولي أنني "مسترجلة"، ما يدفعني لاتخاذ قرارات استفزازية سرعان ما أندم عليها، كما تؤلمني رؤية الموظفين في القسم وهم يبادرون بإقامة علاقات حب مع الموظفات بينما لا أحد منهم يفعل المثل معي". وتتابع: "كنت في البداية أعمد إلى ارتداء الملابس الرسمية لأنها تعطيني عمراً أكبر ولكنني الآن عدت الى ارتداء الصرعات والثياب العصرية لأعطي نفسي الاحساس بأنني أشبه الباقيات. إلا أن هذا الأمر عرضني لانتقادات الادارة". أما ديمة 26 عاماً وهي موظفة في منصب رفيع في الشركة ذاتها، فتقول: "أمضي في العمل حوالى 12 ساعة يومياً وقد ترقيت أكثر من مرة وعلى رغم نجاحي الباهر فأنا لا أحس بالثقة حيال ما أفعل بل إنني أخجل كثيراً عندما يثني أحدهم على عملي. وأحياناً أخاف أن يسمعه الآخرون كما لو أنني بنجاحي أقترف ذنباً ما، فأنا أخاف تحقيق الاكتفاء الذاتي والمنصب العالي مما ينفر الشباب من الاقتراب مني". وتتابع ديمة: "يلومني الكثيرون على الطريقة المتهاونة التي أتعامل بها مع زملائي الشباب وكيف أنني أعطيهم أكثر من حقهم في الاطراء على أعمالهم المتواضعة، فأنا أخاف أن أسمع أحدهم يصفني بالمغرورة أو المتسلطة". خشية الفتيات من فقدان الانوثة أو الحب والتعاطف العائلي عامل يضاف إلى الموروث الشعبي حول نموذج المرأة الناجحة والمرفوضة من المجتمع في آن، وحول العلاقات التي اعتادت عليها الفتاة في حياتها مع أمها وأبيها، خصوصاً تلك التي تحثها على البحث عن رجل ناجح وليس عن نجاحها الشخصي.