تباً لهذا الموت ما أقبحه! يباغت فجأة، يغدر، يأتي من حيث لا يحتسب حصان جامح أو وردة طالعة. يطيح بشبه حلم لراكض ما مل الركض وصار حلمه بعد عرق مديد كأنما قيد التحقق. بين الغدر الكبير والغدر الصغير أحلام كسيرة، حيوات مقصوفة، وفوضى يجرجرها اللامعنى. يقودها من حيث لا نعلم إلى حيث لا نريد. في الغدر الكبير يتربص الموت الرخيص خلسة بروح ماهر إذ يصهل ليلاً وصيفاً في خليج لزج بالرطوبة والحرارة وأشباح الأسئلة. في الغدر الصغير يبرز الموت أكثر عند نواصي الحياة وعلى مفترقات العمر. كان ماهر، وكما كل خيّال، يتوقع ضربة الموت، منتصباً: يكافحه تحدياً بتحد. وجه أليف لكن معقود في ناصيته الرفض، يرصد الموت محمولاً على طائرات ضخمة في سماء بغداد، في أي لحظة قد يهبط مع هبوط المغول عليها، لكن ماهر متحفز. لم لا يبطش الموت بطشةً فيها القدر القليل من اللاغدر، فيها بعض مروءة بالمبطوش فيهم. فليرينا نفسه، ليخلع معطف التسلل والخديعة إذ يتقدم إلينا مدججاً بالإطاحة. ليتجرأ بأن يدعنا نتوقعه. في حرب ترش الموت على الحياة أو في سلم يتسلل الموت فيه على أسرّة المرضى وكبار السن، لربما ما كنا نشعر بالحنق عليه. نكرهه، قطعاً، كراهية المحايد المستسلم، لكن نقر به. نعترف به حقيقة مرة، كما لغزاً ملغزاً نتضاءل أمام قسوته، مهزومين أمام قسوته ندور حول أنفسنا خائفين مرعوبين. ماهر الذي كان يتوقع من الموت مواجهة فيها بعض شجاعة: وجهاً لوجه في بغداد، أو قبلها في البوسنة، توارى منه الزائر المباغت الجبان. إختبأ خلف الأيام القادمة، حيث لا رصاص ولا قنابل. تربص به، وبطش به، برخص وسهولة وعبثية فاضحة. ماهر غادر حيث ما كان يجب أن يغادر. حصان راكض على الدوام، يعانق كل الأرياح، يقف عند الحواف، يصهل صهلة كلها هزء ولامبالاة عند كل حافة. لا يحول دون قفزه فوق هذه الحافة أو تلك كاسراً كل القيود سوى أيام وصورة وتاريخ صنعها بيديه ووقع أسيرها. روعة ماهر كانت في بشريته. في كسره للصورة، ولنمطيتها. في إعلائه العفوي لصفة الإنسان فيه. في تمرده على "القالب". في أخطائه وإعترافاته كما في كسبه وإنجازاته. في علاقاته الواسعة التي ما استثنت لوناً أو جنساً أو أعاقها حكم مسبق. في إسلاميته وقوميته، في محافظته وليبراليته، في سجائره وسهراته، في تحزبه وتفلته، في كل تناقضاته التي جعلته ممثلاً لجيل من حيارى الإسلاميين، وناطقاً بإسم كثيرين ما كانوا يتجرأون، وما زالوا لا يتجرأون، على قول ما كان يقول وفعل ما كان يفعل. لم يكن ينقص ماهر الصهيل الأخير عند الحواف، لكن كانت أرجل خيله ترتبك من القفزة الأخيرة. لم يكن ماهر آبهاً بإخفاء صفته الإسلامية الفكرية، كما لم يكن متبجحاً بها. لم يكن يشعر بأنه "الوصي على الأمة"، كان واحداً من أفرادها يريد أن يخدمها بإخلاص كما يمليه عليه ضميره. كان رأيا من آراء في زوابع الرأي والرأي الآخر. كيف يستطيع إخفاء ما لا يريد إخفاءه وهو يطل على ملايين العرب كل أسبوع في "شريعة وحياة" مطّها مطاً لتطال كل ما هو غير تقليدي، تحرشاً بالحواف وصهيلاً عندها. سنوات المعرفة الطويلة بماهر تؤكد عمق بشريته. عندما صهلت هذه السطور صهلتها الأخيرة وقفزت عن الحافة، كان ماهر من الذين فهموا، ومن الذين لم يرتدّوا إلى التقزيم الأيديولوجي في الحكم على البشر. ظللنا نتحدث ونهذر كلما إلتقينا كأنما ما صار شيء، وكأننا نقف عند نفس الحافة. كنا في الواقع قد صرنا على طرفيها المتباعدين. كان ماهر الأنسنة قد تغلب من زمن على ماهر الأدلجة. عندما سألتني هيئة الإذاعة البريطانية قريباً ما هو المميز في ماهر وكيف أتذكره، لم أتردد، ولم أفكر. قلت أكثر صورة أراها لصيقة به هي الأجندة المفتوحة، والكتاب المفتوح، والسر المفتوح. مليء بالمشروعات والأجندات والأفكار، لكنها جلها لا تصل إلى دفء الإغلاق: تظل مفتوحة. شاعر لم ينشر ديوان شعر، وباحث لم يلملم ما بحث فيه بين دفتي كتاب، ورحالة لم يصل إلى مرفأ أخير. يفتح أجندة، يغرق فيها، تظن لفترة أنه وجد ذاته فيها، ثم سريعاً يتركها مشرعة، ويغرق في غيرها. قليل الحيلة أمام الأجندات الجديدة، يغرق فيها وبها، ويسهر معها الليالي، ثم لا يلبث أن ينتصر فيه الملول فيتركها ويمضي. خلفه تعسف الريح بأوراق فيها نصوص غير مكتملة، وكتب مقلوبة من منتصفها على قفاها آثار قهوة ورماد سجائر، ودفتر تلفونات لا يفك طلاسمه أحد حتى ماهر نفسه. شغفه بالسهر هو ذاته مشروع مفتوح: لا حد بين الليل والنهار ما دام ثمة ما يمكن التسامر حوله أو الحديث عنه. لا، ليس صحيحاً أن كل تلك الأحاديث كانت جدية وتدور حول "هموم الأمة": في ذلك جرح لبشريته. كان كثيرها تسامراً وفقط، لكنه تسامر لذيذ. كان كثيرون يأخذون عليه السهر، لكنهم سرعان ما يقعون في شباك لياليه الطويلة إن قابلوه: كأنما لا يستطيعون مقاومتها، أو لا يرغبون في المقاومة أساساً. كأنما يتجرأون على كسر رتابة أوقاتهم، يختبئون خلف ماهر ويتذرعون بمعيته كي يمارسوا تمرداً طفيفاً على ذواتهم يتوقوا إلى إضعافه في دواخلهم. كثيرون كانوا يظنون أنهم محط سره. وكثيرون كانوا يفاجأون بأن سره المحفوظ لديهم محفوظ أيضا لدى غيرهم. كان سراً مفتوحاً! لكن كان هؤلاء وهؤلاء مقربين من ماهر يبادلونه السر بالسر ويشاورونه. السر الوحيد، لغرابة الأقدار، الذي ما كان معروفاً لملايين متابعيه في الشرق والغرب هو أنه كان أسير الصورة التي صنعتها الشاشة عنه. كأنما ثمة ماهران: ماهر الشاشة وماهر الإنسان. الثاني هو صاحب الصهيل عند الحواف، الأول كان قيد الإرتهان، وقيد الدور. لم يكن ماهر يحب المبالغات في وصفه. ولا يجب أن يكون في تقريظ المغادرين أية إهالة من فيض القدسية عليهم. هذه السطور تتغزل ببشرية ماهر وأخطائه الصغيرة وصهيله القلق، لا بمعصومية هو منها براء! وداعاً ماهر.