في انتظار الاحتفال بالذكرى المئة والخمسين لولادة الشاعر الفرنسي أرتور رامبو، وذلك في العشرين من شهر تشرين الأول أكتوبر المقبل، بدأت الإصدارات المتعلّقة بهذه المناسبة وبالشاعر رامبو تنزل إلى المكتبات، وفي مقدّمة هذه الرواية الجديدة للأديب الفرنسي فيليب بيسون وعنوانها "الأيام الهشّة" الصادرة عن دار "جوليار" الباريسية. وهذه الرواية التي تتخذ من فصول حياة رامبو مسرحاً لها تُعدّ حدثاً بالنسبة الى متتبعي أخبار الشاعر الراحل. بعد روايات: "في غياب الرجال"، "ولد من ايطاليا" و"أخوه"، وهذه الأخيرة حوّلها المخرج الفرنسي باتريس شيرو فيلماً سينمائياً، يؤكد فيليب بيسون الذي يحضر الموت في جميع أعماله، عن موهبة أدبية متميزة ضمن ما يُعرف بالرواية الفرنسيّة الجديدة. نصّه الأخير ينضح بالألم لكنّه يظل نصّاً إبداعياً بامتياز، وإذا كان الموت يحضر في مجمل أعماله، فهو لا يحضر كموضوع قائم بذاته وإنما كقطعة نبض من نبضات الحياة. في روايته "الأيّام الهشّة"، ينطلق المؤلّف من مذكرات خيالية حميمة تنهل من أحداث وشخصيات واقعية وتشكّل جزءاً فعلياً من حياة الشاعر الفرنسي رامبو. ويذكر الكاتب أنه اعتمد أساساً على العمل الدقيق الذي أنجزه الباحث جان جاك لوفرير في كتابه "أرتور رامبو" الصادر عن دار "فيار"، كما يشير إلى أنه اعتمد على الكثير من الكتب الأخرى التي تحدثت عن سيرة الشاعر ونتاجه. وعلى لسان إيزابيل رامبو، أخت الشاعر، يروي لنا الكتاب أوجاع رامبو، خصوصاً تلك التي عاناها في الأيام الأخيرة من حياته. وجاء النص بصيغة المتكلم فكان موجعاً ومتألقاً. في مقدّمة الرواية اختار الكاتب مقطعاً من قصيدة للشاعر رامبو تقول: "سأعود بساقين من حديد، البشرة مسمرّة، والعين غاضبة، ومن قناعي يحكم عليّ أنني من سلالة قوية. سأملك ذهباً وأكون صاحب دخل ومتوحّشاً، فالنساء تداوي مثل هؤلاء الوحوش العائدة من البلاد الحارّة... وسأفوز بالنّجاة". تنطلق الرواية من يوم 22 أيار مايو من عام 1891، تاريخ عودة الشاعر رامبو إلى مدينة مرسيليا جنوبفرنسا لإجراء عملية جراحية في الساق، وينتهي النص يوم 14 تشرين الثاني نوفمبر من السنة نفسها، وهو تاريخ دفنه بحضور شخصين لا ثالث لهما: أمه فيتالي وأخته إيزابيل. تمتد الرواية على طول ستة أشهر كاملة لا تغفل فيها إيزابيل رامبو عن تسجيل أي وجع ولا تنسى أي ذكرى. في هذا النص الكثيف والعميق نكتشف أولاً معاناة الشاعر الإنسان إلى جانب أشياء كثيرة كذكريات الطفولة وغياب الوالد وإبعاد الأخ الأكبر عن العائلة لأنه تزوّج من دون موافقة الوالدة. نتعرف أيضاً على شخصيتين متناقضتين تماماً في محيط الشاعر، أولاً الأم فيتالي القاسية التي طالما تحدثت عنها الكتب والروايات. الأم التي أودعته مدرسة لم يكن يرغب في الالتحاق بها، فكان تلميذاً غريب الأطوار، ترك مقعد الدراسة أكثر من مرة، وكان يشعر بأنه ضحية مصير مصنوع من عزلة أبدية، فاختار البوهمية الأدبية لمساحة الحرية التي كانت توفرها له والتي لم يجدها إلا في أسفاره. والسؤال الذي لا ينفكّ يعود إليه المهتمّون برامبو: هل كانت الأم واعية لخصوصية هذا الابن وتميّزه ولحسّه المرهف؟ ولماذا لم تشجّعه في ميوله الشعرية؟ أكانت تجهل عندما كانت ترغمه على تناول القلم والورقة أنها كانت تدفعه إلى كتابة أجمل الأعمال الشعرية التي عرفها القرن التاسع عشر؟ أما الأخت إيزابيل، الحنونة المؤمنة والسموحة، فنجحت في رصد أوجاع أخيها والتخفيف عنه، وأحياناً تغطية أخطائه وميوله الجنسية الشاذّة، فنكتشف معها علاقاته مع الشاعر بول فرلين التي أحدثت حينها ضجة كبرى. ومن المعروف أنّهما أقاما معاً في مدينتي بروكسيل ولندن. كما نكتشف مغامراته وأسفاره. ومع تتابع أحداث الرواية نكتشف غياب الأم التي فضّلت العودة إلى بلدتها وأشغالها اليومية تاركة الشاعر وحيداً في المستشفى لتتولى إيزابيل الاهتمام به. ولئن كانت الرواية التي تتناول موضوع رامبو وأوجاعه من صنع أدب خيالي، فإنّ الكاتب احترم التسلسل التاريخي للقصة ونجح في بناء عمله الروائي القائم على معرفة عميقة بأشعار رامبو والمشبع بها من السطر الأوّل حتى السطر الأخير، إذ أنّ جمرة هذه الأشعار تظلّ متّقدة في خلفيّة سيرة الشاعر، بل تشكّل نبضها وأفقها. نجح الروائي أيضاً في دقة الوصف الحدثي وفي إبراز معاناة عائلة بأكملها واصفاً أيامها الهشّة فعلاً، كأنّما ليؤكّد مقولة رامبو القائلة إنّ: "الحياة الحقيقيّة غائبة"، أو هي في مكان آخر ليس هو المكان الذي نعيش فيه بالتأكيد. فضلاً عن ذلك، جاء النص محمّلاً بأحاسيس قوية عبر لغة سلسة، أليفة، سهلة القراءة، ترشح بهموم عائلة لم تعرف سوى ألم الفراق ووجع البعد وسوء التفاهم بين أفرادها ممّا طبعها بالقطيعة والقسوة والموت... قراءة هذه الرواية تحثّ من جديد على الخوض في أعمال رامبو أليست قراءة رامبو مغامرة متجدّدة دائماً؟ وإعادة اكتشافها من جديد. هو الشاعر الذي برع في إحداث قطيعة كاملة مع الشعر التقليدي ولم يكن في حينه يتجاوز التاسعة عشرة. كان مسكوناً بهاجس إعادة تشكيل الذات وتحرير الحواسّ وإعادة ابتكار الحبّ، كأنّما هو ينخرط شعرياً في مشروع إعادة ابتكار الإنسان ذاته، من أجل تدشين "إيقاع جديد". إيقاع حلم بعيد من القبح والعنف والجريمة... لكن عبثية الحياة كانت أقوى، فبعد أن قطعوا ساقه في المستشفى توقفت رحلة الشاعر في 14 تشرين الثاني 1891 في مسقط رأسه في مدينة "شارلوفيل". توفي رامبو ولم يكن يبلغ بعد السابعة والثلاثين من العمر. ولحظة دفنه، كانت تمطر فوق المدينة التي هرب منها قبل عشر سنوات بحثاً عن شمس الجنوب... تجدر الإشارة أخيراً إلى أنّ كتباً عدة ستصدر في شهر تشرين الأول المقبل تعنى برامبو ومنها كتاب بعنوان "نساء رامبو" لجان لوك ستينماتز، يذكر فيه شخصيات نسائية أمثال إيزابيل رامبو ومريم دابيسين، وهذه الأخيرة عاش معها الشاعر مغامرة حبّ جعلت الحديث عن لوطيّة الشاعر محاطة بعلامة استفهام.