عاد ايلول وعادت معه الايام السنوية لذكرى الانتفاضة، وصبرا وشاتيلا، وأيلول الأسود، وسقوط البرجين في نيويورك وغيرها. ومع أيلول يحل الخريف، اجمل الفصول. ولكن افتتاح الدورة السنوية للأمم المتحدة واجتماعات الهيئة العامة تعكر منذ سنوات حتى صفو الخريف و"ميلانكوليته"، وتكاد تهمش حتى إحياء ذكرى كوارث ونكبات الشعب الفلسطيني. فمنذ سنوات يلقي جورج بوش خطاباً في الجمعية العامة في موعد قريب من سقوط الابراج في الحادي عشر من ايلول الذي بات يسمى اميركياً باختصار يوم"ناين اليفين". ونضطر نحن الى التعامل مع خطاب الرئيس الأميركي ولو كان ذلك لغرض واحد ووحيد ألا وهو التأكد من استمراره على نفس النهج الذي يحكم عمل إدارته، ومدى رسوخ القناعة رغم الحرائق والدمار في كل مكان أنه وإدارته يقومان بحملة نشر الديموقراطية في العالم. لقد انتهى خطابه في يوم الثلثاء 21 سبتمبر 2004 الى هذه النتيجة مقترحاً إقامة صندوق دولي لدعم التحول الى الديموقراطية مغدقاً المديح بسخاء في الفقرة التي سبقتها على صناديق أخرى أقامتها الأممالمتحدة بدعم أميركي سخي، مثل صندوق مكافحة الايدز. حسناً هذه كانت النتيجة السلمية والمسالمة للخطاب: صندوق لدعم الديموقراطية على نمط مكافحة الايدز والصندوق الثاني الذي أتى على ذكره لمكافحة الملاريا والتييركولوزيس وغيرها. فما الذي سبق هذا الاستنتاج؟ حرص كتبة خطاب الرئيس هذه المرة، بعد نقاشات ماراتونية، لا شك في ذلك، على أن يبدأ الروبوت الرجل الآلي بوش خطابه وينهيه بشكل احتفالي ومتفائل. لماذا؟ بالضبط لأن الحالة سيئة هنالك حاجة لنبرة متفائلة، ولأن الحالة رمادية تميل الى الاحمرار بسبب الحرائق المشتعلة في كل مكان هنالك حاجة لألوان وردية وزهرية في الخطاب: واليكم بداية الخطاب التي تكاد تكون احتفالية:"في الاعوام الثلاثة الماضية خاطبتُ الهيئة العامة في اوقات مأسوية بالنسبة الى بلدي، وفي لحظات القرار بالنسبة الينا جميعاً. الآن نحن نجتمع في زمن فرص هائلة فتحت أمام الأممالمتحدةوالأمم المسالمة كافة. لقد توسعت دائرة الحرية والأمن والنمو في العقود الأخيرة، وقد جلب هذا التقدم الوحدة لأوروبا والحكم الذاتي لأميركا اللاتينية وآسيا وأملاً جديداً لأفريقيا. والآن هنالك فرصة تاريخية لتوسيع دائرة الحرية لمحاربة التطرف والارهاب بعدالة وكرامة... وتحقيق سلام حقيقي مبني على الحرية الانسانية؟". لماذا على العالم ان يستيقظ على هذه النبرة المتفائلة وفي اليوم التالي أي يوم الأربعاء 22 ايلول؟ لا يوجد سبب سوى ان كتبة خطاب جورج بوش قرروا هذا. لقد قرروا أن علينا أن نتفاءل، وأن دائرة الحرية تتوسع، وان هذا العام خلافاً لسابقه هو عام أمل وفرصة تاريخية للامم المتحدة. لماذا؟ لأنه عام انتخابات في أميركا ويجب أن ينشر المرشح جورج بوش نبرة متفائلة عشية الانتخابات، نبرة إنجازات وانتصارات. هكذا قرروا، ان يبدأ كأن الانتصار قد تحقق والحرية واليدموقراطية تتباريان في ما بينهما بالازدهار، على الاممالمتحدة الا أن تستيقظ وتحزم أمرها لتكون قادرة على قطف الثمار. كما قرروا أن النهاية يجب أن تكون رداً على كيري الذي يوجه انتقاداً واحداً لسياسة بوش في العراق ألا وهو الانفرادية وعدم التعاون مع المجتمع الدولي في العراق، فماذا يريد كيري أكثر من صندوق دولي لدعم الديموقراطية إضافة الى اقتراح اميركي ايطالي ورد ذكره في الخطاب موجه لدول"جي 8"لإقامة وتدريب قوة من 75 الف جندي من دول افريقية لحفظ السلام في القارة الافريقية. فمن يريد إرسال قوات إلى أفريقيا عدا هواة أمثال كلينتون؟ ولكن اذا أمعنا النظر في بنية الخطاب الأساسية، ومنطقه الكامن فيه، وفرضياته، وفي الخطاب discourse الكامن في الخطاب speech، نجد أن بوش ومساعديه وكتابه والمفكرين الخطيرين العاملين في إدارته لم يتغيروا. لا يزالون يعتقدون أنهم في خضم حملة مقدسة ضد الإرهاب والطغيان ونشر الديموقراطية في العالم خصوصاً في المنطقة العربية، ولا يزالون يلومون الإدارات الأميركية السابقة على تقاعسها بهذا الشأن حفاظاً على الاستقرار. تبلغ النزعة الامبراطورية اوجّها في الخطاب الاميركي في هذه العهد في التطابق بين الاعلان العالمي لحقوق الانسان وتأسيس الاممالمتحدة وبين اعلان الاستقلال الاميركي. وتتكرر الإشادة بهذا التطابق في الخطابات الرئاسية كافة أمام الأممالمتحدة في الأعوام الأخيرة. وفي ذلك إشارة إلى مغاز عديدة منها أن الواحدة ممكن أن تحل مكان الأخرى عندما يلزم، خصوصاً عندما لم تقر الأممالمتحدة الحرب على العراق واقرتها أميركا عملاً بالميثاق والقيم والمبادىء نفسها التي تبقى أميركا مخلصة لها حتى عندما تخونها الأممالمتحدة. وإلا فماذا يعني التصرف كإمبراطورية؟ هذا هو منطق المحافظين الجدد. يؤكد الخطاب قانونية الحرب على العراق رداً على كوفي انان الذي صرح الأسبوع الماضي أن الحرب لم تكن قانونية بالمعنى الدولي للقانون كأنه جزء من حملة كيري الانتخابية. ولا يعود كوفي انان في خطابه الافتتاحي الى هذا القول، ولكنه يفرد الخطاب كله لمعنى القانونية والقانون في فلسفة ليبرالية من النوع التسطيحي المتداول في منهاتن بين أصدقاء كوفي أنان الليبراليين من أمثال كيري الذين يدعمون إسرائيل بشكل دائم وكيري في الانتخابات الحالية. وسنعود إلى خطاب كوفي أنان. لم يتغير التبسيط في تقسيم العالم الى خير وشر. وفي معرض تبسيط وتسطيح كتاب خطاب الرئيس للمعركة الجارية في عالمنا بين الخير والشر يكتشف هؤلاء قمماً جديدة في ديماغوجية الخطاب الحالي. فالإرهابيون والدكتاتوريات هم في الواقع شخص اعتباري واحد، وأميركا والديموقراطية وحقوق الانسان وإعلان حقوق الانسان، وميثاق حقوق الإنسان الأميركي تتجمع كلها في شخصية البطل نفسه في هذا الفيلم الرديء. بماذا يؤمن الإرهابيون حسب الخطاب؟ الارهابيون يشنّون حملتهم ليس لغرض عقيدة يؤمنون بها ولا لغرض الانتقام ولا لأي سبب اجتماعي او سياسي يمكن تحليله ولو لغرض محاربة الظاهرة، وانما لأنهم وحلفاؤهم"يؤمنون بأن الإعلان العالمي لحقوق الانسان ووثيقة حقوق الانسان الأميركية، وكل ميثاق حرية كتب في أي زمان، هي أكاذيب يجب أن تحرق وتدمر وتنسى". هذا هو هدفهم المباشر بموجب كتاب الخطاب، إنهم يخوضون عمليات انتحارية ليس بتعارض مع ميثاق حقوق الانسان مثلاً، بل ضده وهدفهم من الانتحار هو حرق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وتدميره. إنهم يؤمنون أن الدكتاتوريات يجب أن تسيطر على كل عقل ولسان في الشرق الأوسط وما وراءه أيضاً. إنهم يؤمنون أن الانتحار والتعذيب والقتل كلها مبررة لتحقيق أي هدف. وهم يتصرفون بموجب إيمانهم هذا. هذه هي أهداف الإرهاب. كيف يفسر كتبة الخطاب الصراع بين الدكتاتوريات والإرهابيين في أكثر من مكان في الشرق الأوسط والعالم؟ لا يجد المفكرون صانعو التبسيط في الخطاب أي حاجة للتفسير، فهم ليسوا مدينين لأحد بأجوبة منطقية. ويعود بوش في بقية الخطاب الى مناقشة أهمية الحرب المانعة عملياً دون ذكر الاسم او التعبير، فهو يدعو الى عدم الجلوس في البيت والدفاع عن الاستقرار وعن نمط الحياة السائد وعن"قيمنا". هذا لا يكفي بل يجب الخروج الى العالم لنشر هذه القيم والقضاء على اعدائها. يقول ذلك ويبرره في مغالطة بعد أخرى. وينتقد مرة أخرى أجواء الدفاع عن القيم السائدة في بلاده وعدم نشرها والتعايش مع الطغيان في الخارج مما أدى إلى وصول الكارثة إلى أميركا ذاتها. ولذلك فهو يرفض التسامح مع الديكتاتوريات ويؤكد على ضرورة الإصلاح ودعم المصلحين. ولا يعير الخطاب اهتمامه لتفاصيل من ما هو الاصلاح؟ ومن هم المصلحين؟ وكيف تعرقل اميركا الاصلاح في الوقت الراهن في كثير من الحالات، اذا تعارض مع سياسات القوة؟ ولكن الأنكى والامرّ أن حل موضوع فلسطين يمر في الخطاب من خلال عملية الإصلاح. المشكلة تكمن في القيادة الفلسطينية وهو يسميها في الخطاب من دون أن يرمش له جفن"الحكام الفلسطينيون"صدق او لا تصدق! ويتعامل معهم بالمصطلحات نفسها مثل ديكتاتورية لها علاقات مع جماعات ارهابية. أنه نموذج قرر كتبة المقال والروبوت الذي يقرأ ما كتب أن يفرضوه على العالم. ولكن في قضية فلسطين يصل التلوّن وتصل عدم الاستقامة وعقم المبادىء المذكورة أعلاه أوجّها. يتعامل الخطاب مع السياق أعلاه كأن"الحكام الفلسطينيين"يحتلون اسرائيل وعليهم أن يوقفوا العديد من ممارساتهم، وعلى الدول العربية أن تطبع علاقاتها مع إسرائيل قبل كل شيء. وما على إسرائيل إلا أن"تجمد الاستيطان وتزيل النقاط الاستيطانية غير المرخصة وأن توقف الإذلال اليومي للشعب الفلسطيني". يستخدم كتبة الخطاب مصطلح"النقاط القانونية غير المرخصة". وهو مصطلح اسرائيلي محض. بداية الخطاب ونهايته متفائلتان ولكن لا سبب للتفاؤل في الخطاب. فالولايات المتحدة بقيادة هذه الادارة ماضية على النهج نفسه. صحيح أنه يستخدم مصطلحات تنفي صراع الثقافات من نوع أن الديموقراطية والحرية ليستا نماذج غربية وإنما نماذج كونية. ونحن أيضاً نؤمن بذلك. ولكن حملة الادارة الأمريكية العالمية تجد نفسها المستهلك الأول والأخير لصراع الثقافات لتبرير ذاتها على المستوى الشعبوي الاميركي ولتحسين الرأي العام. فالناس غير مستعدة للموت من اجل الديمقوقراطية في بلد اخر. ولكن اذا افهمتها أنها تموت ضد ارهابيين لابد أن يصلوها الى البيت لأن هدفهم هو القتل وتمزيق وثائق حقوق الانسان، وانهم يكرهوننا بسبب نمط حياتنا وبسبب نمط حياتهم، أي لأننا نحن ولأنهم هم، فلابد أن يجد ذلك صداه. الإدارة الاميركية الحالية هي المصدر الأول لاستنفار صراع الثقافات في أوساط المعتدي والمعتدي عليه. امام هذا كله بدا خطاب كوفي انان باهتاً لا لون فيه ولا طعم ولا رائحة. إنه يدعو الى حكم القانون داخل الدول وبين الدول. وهو يساوي بين الامرين كأن هنالك سيادة ما ترتكز إليها سيادة القانون دولياً. هذه محاولة عقيمة. ولا شك لدينا ان سيادة القانون ومكانة سيادة القانون شرط أساسي، ونظرياً هي شرط سابق على تطبيق الديموقراطية، ومن المفيد تذكير العامين من أجل الديموقراطية في العالم العربي بذلك. ولكن احترام سيادة القانون بين الدول هي أمر آخر تماماً، لا علاقة له بكونها ديموقراطية أم لا. ولا تساعد كوفي عنان مقولات لياقة سياسية من نوع سيادة القانون خارجياً تعني سيادته داخلياً، هذا كلام منوع. كلام الليبراليين الذي لا ينتصرون. من نوع خطاب كيري ضد بوش. تخريجات لغوية بدلاً من مواقف واضحة. في خطابه يوم 21 ايلول دان كوفي عنان كل شيء بلهجة لا تقبل التأويل، إلا الممارسات الأميركية والاسرائيلية. فالممارسات الإسرائيلية لا توصف بأنها جرائم ضد المدنيين كما توصف أفعال الفلسطينيين وغيرهم، بل"كاستخدام مفرط للقوة". هكذا تلخص ممارسات إسرائيل الإحتلالية الإجرامية. وهو يقارن بين ما يقوم به الفلسطينيون في إسرائيل مع مدرسة بيسلان او شمال اوغندا ودارفور والعراق. لا يوجد احتلال. وهو النهج الاسرائيلي نفسه في تصنيف الممارسات الفلسطينية كجزء من معسكر الإرهاب والشر الدوليين لكنه في الحالة الفلسطينية يضاف الى استهداف الفلسطينيين للمدنيين في إسرائيل ما يأتي:"وفي فلسطين نرى بيوتاً تدمر، وأراض يستولى عليها، وإصابات لا حاجة لها بين المدنيين يتسبب بها الاستخدام الاسرائيلي المفرط للقوة". يحتاج الامر الى"اكروباتيكا"لغوية غير معقولة وكم هائل من عدم الاستقامة لتدوير الزوايا ولي الوقائع لتنص بهذا الشكل. وكيف ينتقد انان أميركا:"نعم حكم القانون يبدأ في البيت ولكنه في أماكن عديدة يبقى وهماً. ولا يتم التطرق إلى الكراهية والعنف والفساد. وليس لدى الضعيف حماية في حين يخضع القانون لأغراض الحفاظ على السطوة والثروة. أحياناً يسمح حتى في سياق المحاربة الضرورية للإرهاب بالمس بالحقوق المدنية". تستخدم كل هذه الاستثناءات والتحفظات والعبارات المخففة: احياناً، وحتى، والمحاربة الضرورية للإرهاب من أجل القول ان اميركا ايضاً تمس بالحقوق المدنية... انه الامين العام نفسه الذي يخصص خطابه لحكم القانون والمساواة أمام القانون. كل شي ممكن في أيلول. * كاتب عربي.