لم يخطر في بال وفاء 24 عاماً يوماً أنها ستكسب عيشها من "تقريص الكبة، ولف اليبرق، وتطبيق سنبوسك اللحمة، وتحضير الشيشبرك، وحشي السجق والأوزي، وفرم بقدونس التبولة، وهي طبخات شرقية لا غنى للشوام عنها في موائدهم اليومية"، فمنذ سنوات مراهقتها المبكرة ووالدتها حلاّقة نسائية تعتمد عليها وهي كبيرة أخواتها في تحضير الطعام، وطالما كانت نساء الحارة يرددن على مسامعها أن يديها تستأهلان اللف بالحرير، لأنها كانت تتقن تحضير كل أنواع المربيات والفطائر والحلويات العربية. عن عملها في تحضير المأكولات لربات المنزل من الموظفات وغيرهن اللواتي يسمين هذه الأعمال "بالشاقة"، تقول وفاء القاطنة في منطقة المخيم في دمشق: "تزوجت في عمر السادسة عشرة، وبعد زواجي بسنتين عملت خياطة في احد المشاغل، وبسبب معارضة زوجي توقفت عن العمل، وعن طريق المصادفة عرض علي بقال الحي القيام بتقطيع خضار وفرم بقدونس لمحل صديقه الكائن في سوق التنابل منطقة الشعلان وعن طريق هذا الشخص بدأت العمل في تحضير الأطعمة لربات المنزل". وتضيف: "في البداية كان صاحب البقالة يأخذ مني عمولة على كل ربة منزل يستقطبها، ولكن بعدها بدأت كل سيدة بإخبار صديقاتها وصرت أحصل على زبوناتي من دون مساعدته". وعن نهار عملها توضح وفاء: "بناء على موعد مسبق أزور ربة المنزل عند الساعة التاسعة صباحاً، لأبدأ تحضير مجموعة أكلات تكون ربة المنزل قد جلبت مكوناتها مسبقاً، أحضر الكبة واليبرق والمحشي بطريقة يسهل على ربة المنزل وضعها في الثلاجة واستخدامها في الولائم أو في الأيام العادية ولو بعد شهر من الإعداد، وعند الثالثة ظهراً أنهي عملي مقابل ألف ليرة سورية 20 دولاراً ، علماً أنني أعمل في الأسبوع ثلاث مرات فقط لأتمكن من الاعتناء بطفلي". وكيف يحب الجميع طبخها على رغم اختلاف الأذواق، تقول وفاء: "المقادير تكون بناء على رغبة ربة المنزل، وكثيراً ما تصطحبني بعض السيدات وخصوصاً المتزوجات حديثاً إلى منازل أمهاتهن أو حمواتهن لأتعرف على نوعية الأكل التي يحبونها هن وأزواجهن". لدى وفاء الآن موبايل لا يتوقف عن الرنين، فالطلب عليها وعلى أمثالها يزداد يوماً بعد يوم، أمام ضغوط العمل الكثيرة التي تواجه الموظفات، وتراجع إتقان فتيات هذه الأيام لأكلات اعتادت عليها بطون أزواجهن لزمن طويل. من إحدى قرى ريف محافظة السويداء الجنوبية أتت ريما للدراسة في كلية الهندسة في جامعة دمشق، وبعد سنة واحدة من إقامتها في المدينة الجامعية مع ست فتيات أخريات في غرفة واحدة تكاد لا تتسع إلا للأسرّة، بدأت ريما البحث عن عمل يساعدها في إيجاد مكان آخر في المدينة للسكن والدراسة. عملت في مكتبة قريبة من الكلية في تصوير الأوراق وتنضيد النسخ للطلاب ومقابل عملها الذي كان يمتد إلى ما بعد منتصف الليل كانت تحصل ريما على 2500 ليرة سورية 50 دولاراً، ومن طريق احداهن تعرفت إلى عمل جديد وهو رعاية الأطفال ومجالستهم في الليل حصراً، وهي تمارس هذا العمل منذ سنتين من دون انقطاع وبفضله تمكنت من الانتقال إلى سكن أفضل في منطقة الدويلعة الشعبية في دمشق حيث تعيش مع زميلة لها، وتقول ريما: "عرض علي هذا العمل بالصدفة، عارضت في البداية لأن كثيراً من العائلات كانت ترفض نومي عندها حتى لو عاد الرجل وزوجته من سهرتهم في ساعة متأخرة جداً، وقد كان أمر عودتي إلى المنزل عند الساعة الثالثة أو الرابعة فجراً يخيفني ويسبب لي الكثير من المتاعب خصوصاً عندما كنت أسكن في المدينة الجامعية، وبعدها صرت أشترط على أصحاب المنزل توصيلي إذا ما تأخروا في عودتهم إلى مابعد الثانية فجراً أو السماح لي بالنوم عندهم على بطانية أضعها على الأرض لأنسحب بهدوء مع خيوط الفجر الأولى"، وتضيف: "أتقاضى مقابل عملي هذا مبلغ 350 ليرة سورية للسهرة الواحدة 7 دولارات، وما أحصله خلال الشهر يساعدني كثيراً في تدبير شؤون دراستي وسكني، وذلك ريثما أعود إلى ضيعتي والعمل في وظيفة ثابتة هناك. وأنا لا أتوقف عن عملي في الصيف لأن الصيف بالنسبة الي فرصة جيدة للحصول على المزيد من المال ففي الصيف تزداد المناسبات ويزداد سهر الأهالي خارج المنزل". ولم تخبر ريما والديها بطبيعة عملها: "في البداية لم أخبر أحداً لأن تأخري عن المنزل كان سيسبب القلق لأهلي كما أنهم بحكم التقاليد العائلية سيرفضونه تماماً، ولكنني أخبرت أمي لاحقاً واصطحبتها في إحدى المرات لزيارة إحدى العائلات. أما إخوتي فلا يعلمون شيئاً عن هذا الأمر أبداً". وعن صعوبات العمل تقول ريما: "عملي هذا لا يخلو من المضايقات سواء من قبل الأطفال أو من قبل بعض أفراد الأسر التي أزورها، لكنه أفضل من غيره بكثير، فأنا كثيراً ما أخبئ تحت ملابسي كتاباً جامعياً أو ملخصاً لأحد المقررات لأن الأب والأم لن يشعرا بالاطمئنان إذا ما لاحظا قيامي بشيء غير الانتباه لأطفالهم حتى لو كانوا نياماً". وتقول ريما: "حاولت إحدى صديقاتي القيام بعمل مثل عملي، لكنها كانت ذات "خلق ضيق" فأعطت أحد الأطفال شراباً منوماً، وطردتها إحدى العائلات لقيامها باتصال دولي مطول من هاتف المنزل الذي تعمل فيه. في المدينة الجامعية الكثيرات يعملن في التدريس والبيع مثلاً، وبعضهن يكسبن مالاً وفيراً من أعمال قذرة، كمرافقة السياح إلى أماكن السهر، وتتقاضى إحداهن مبلغاً يزيد على آلاف وخمسئة ليرة للسهرة الواحدة 30 دولاراً، أما زميلتي في غرفة المدينة الجامعية فقد كانت ترافق رجلاً إلى منزل للقمار في منطقة جرمانا بحجة أنه يتفاءل بوجودها إلى جانبه، لكننا كنا نعرف جميعاً أنها كانت تتقاضى الكثير". ندى 26 عاماً أم لثلاث بنات وتعمل في مجال الماكياج والتجميل، تقول: "بدأت القيام بهذا العمل منذ ثماني سنوات تقريباً، وكان عدد اللواتي يمارسنه قليلاً نسبياً، أما الآن فهناك الكثيرات والمنافسة صارت أقوى مما اضطرني لتخفيض الأسعار"، وتابعت: "ما ألاحظه في هذه الأيام هو ازدياد اهتمام الفتيات صغيرات السن بجمالهن، فكثيراً ما أصدم لدى ذهابي إلى موعد "منيكور وبديكور" أو إزالة الشعر الزائد، بعمر طالبته، الذي لا يتجاوز الثالثة عشرة احياناً، ومن خلال زبوناتي أعلم أن معدل إنفاق بعضهن على هذه الأشياء يصل إلى ألف ليرة أسبوعياً 20 دولاراً وذلك من دون احتساب أجور تصفيف الشعر الذي قد يتم في صالونات الحلاقة أو في المنزل، وهناك أيضاً حلاقات يسمونهن حلاقات شنطة". وتزيد: "بدأت ممارسة هذا العمل بعد زواجي مباشرة وبدافع الحاجة المادية، وقد كان الأمر في العامين الأولين يثير لدي بعض الحرج، وما ألاحظه الآن هو ممارسة عدد كبير من الفتيات بعمر ال18 عاماً أو أكثر بقليل لمثل هذه الأعمال من دون أي خجل، علماً أن مداخيل بعضهن تتجاوز في بعض الأحيان 15 ألف ليرة سورية 250 دولاراً".