في ظل التحولات العالمية المتسارعة اصبحت الشركات الدولية العملاقة والاستثمارات الكبرى تتحكم في العالم، وأزالت الاتفاقات العالمية الحدود الجمركية وفتحت الاقتصادات وزادت من درجة تكاملها وتداخلها مع بعضها بعضاً. وتظهر أية نظرة علمية متأنية للأوضاع الاقتصادية العربية ضرورة تنمية وتمتين العلاقات الاقتصادية والتجارية والثقافية العربية التي كانت ولا تزال تمثل مصلحة أكيدة لجميع الدول العربية. وعلى رغم هذه الأهمية في ظل اندماج الاقتصادات العربية في التجارة الدولية لم تحظ العلاقات المتبادلة بينها بالاهتمام المطلوب بعد. ولا يمثل حجم العلاقات الاقتصادية والتجارية العربية القائمة حالياً لجهة مستواها حجم العوامل والعناصر العديدة التي تدفع بتقوية وتنمية هذه العلاقات، كما أنها لا تعكس الامكانات الحقيقية القائمة لزيادتها وتوسعها. ويكفي أن ننظر الى حجم التجارة بين الدول العربية والتي لا تمثل سوى ثمانية في المئة من اجمالي تجارتها مع العالم الخارجي لندرك ضآلة هذه العلاقات التجارية على رغم القدرات الكبيرة التي تمتلكها الدول العربية. وتتيح اقامة منطقة التجارة الحرة العربية التي مضى على انشائها نحو عامين اقامة مشاريع استثمارية عربية عملاقة ذات طاقات انتاجية وتسويقية كبيرة تضمن استفادة الدول العربية من المزايا التي تمنحها منظمة التجارة الدولية للتكتلات الاقتصادية، كما أن هذه المنطقة ستجذب رجال الأعمال والمستثمرين العرب مما يقلل من مخاطر التقلبات التي تحدث في أسواق المال العالمية وبما يحفظ ثرواتهم من هذه التقلبات. ولا شك أن الجهود التي تبذلها الدول العربية لتفعيل هذه المنطقة بشكل يخدم مشاريع التنمية العربية ستعطيها دفعاً مهماً اذا ما تمكنت من تطوير علاقاتها الاقتصادية، وستحقق هذه المشاريع مكاسب لجميع الدول، خصوصاً اذا تعاونت في مواجهة الضغوط التي تمارس عليها أمام انفتاح الأسواق العالمية التي باتت تشكل أخطاراً حقيقية يجب تداركها. ويكفي أن نشير الى أنه نتيجة لسياسات التجارة الخارجية التي اتبعتها الدول العربية في الاعوام الأخيرة ازداد انكشاف الاقتصادات العربية تجاه العالم الخارجي، فنسبة التجارة الخارجية العربية الى اجمالي الناتج المحلي لجميع الدول العربية ارتفعت من 65 في المئة في عام 1996 الى نحو 75 في المئة عام 1998. ويشير تصاعد هذه النسبة الى أهمية التجارة الخارجية للدول العربية ومدى ارتباطها بالتطورات في الأسواق العالمية. وعلى رغم زيادة نسبة انكشاف اقتصادات الدول العربية في ظل التكتلات الاقتصادية والتحولات المهمة التي شهدها النظام الاقتصادي العالمي فإن نسبة الصادرات العربية من اجمالي الصادرات العالمية تراجعت من ستة في المئة عام 1985 الى 3.3 في المئة عام 1996 واستمرت عند هذه النسبة حتى عام 1998، ويعزى ذلك بصفة أساسية الى تراجع أسعار النفط التي يتم التحكم فيها عالمياً والى تخلف الدول العربية عن التحولات الصناعية المهمة والتكنولوجيا على مستوى الاقتصاد العالمي، كما تشير نسبة زيادة الواردات 4.2 في المئة بمعدل يفوق نسبة زيادة الصادرات 3.5 في المئة الى أن شروط التبادل التجاري تأتي لمصلحة الدول الصناعية مما يعني استنزافاً لموارد الاقتصادات العربية، ناهيك عن أن شروط التبادل التجاري للنفط والذي يشكل نحو 70 في المئة من اجمالي الصادرات العربية هي في تدهور مستمر. ان اقامة منطقة تجارة حرة عربية ستستفيد منها جميع الدول العربية خصوصاً في ظل اتفاقية منظمة التجارة العالمية، اذ تستفيد من مبدأ اعطاء مزايا تفضيلية لتكتلها مما يعطي القطاعات الاقتصادية دفعة قوية وهو ما يدعو الى تسريع ازالة القيود الجمركية وغير الجمركية بين الدول العربية، ويجب ألا ننتظر انتهاء المدة المحددة لتحرير التجارة العربية البينية سنة 2007 بل تسرع الخطى ليتم الانتهاء من اقامة منطقة التجارة الحرة بنهاية سنة 2005 على أكثر تقدير وهو العام نفسه الذي تبدأ فيه اتفاقات منظمة التجارة الدولية في النفاذ. والواقع أن هناك عدداً من المبررات والايجابيات الدافعة على تفضيل أداء العمل العربي المشترك وصولاً الى بناء تكتل اقتصادي عربي على غرار ما يحدث في الكثير من مناطق العالم، يمكن ايجازها في ما يلي: 1 - تمكين البلدان العربية على اختلاف أحجامها وقدراتها من مواجهة التحديات المستجدة على الساحة الاقتصادية الدولية والاقليمية من موقع عربي جماعي منسق تعبأ من خلاله الجهود والطاقات العربية من مركز ثقل جماعي تجاه الأطراف الخارجية في عالم أصبحت فيه القوة الاقتصادية هي محور العلاقات الدولية وركائزها الكيانات الاقتصادية الكبيرة. 2 - تحقيق عدد من المزايا التي لا تزال تفتقر الى الاقتصادات المحلية في البلدان العربية والتي من أهمها السوق الواسعة والوفورات الانتاجية الناجمة عن الحجم الكبير للانتاج، وخفض تكاليف الانتاج والنقل، والارتقاء بمستوى الانتاجية وتحسينها، والاستغلال الأمثل للطاقات والموارد المتاحة واكتساب المزيد من التقنيات الانتاجية المتقدمة بتكاليف منخفضة، ودعم المركز التفاوضي لهذه الدول في تعاملاتها الاقتصادية الدولية. 3 - تمكين الدول العربية من الاعتماد على قوى السوق في توجيه وحفز النمو لاقتصاداتها والاستغلال الأمثل لطاقاتها، والوصول تدريجاً الى تحقيق شبكة تعاملات انتاجية واستثمارية تكاملية تدعم من فرص التجارة العربية البيئية وكذلك تنمية القدرات التصديرية للأسواق الخارجية، وما يرافق ذلك من تعاظم وتنوع الطاقات الانتاجية العربية، وتنويع مصادر الدخل وزيادة معدلات نموه وانعكاس ذلك في صورة ارتفاع في مستويات الرفاه الاقتصادي والاجتماعي. 4 - تفعيل دور القطاع الخاص العربي وزيادة الفرص المتاحة أمامه للمساهمة بشكل أكبر في تنمية وتطوير الاقتصادات العربية، مع ما يرافق ذلك من توسع في الاستثمارات العربية البينية ومن زيادة حجم المشاريع المشتركة ذات الطابع التكاملي، ومن تعبئة للموارد المالية اللازمة لتمويل المشاريع الكبرى المتجهة نحو الاستغلال الأمثل للموارد والطاقات التي تتميز بها الدول العربية بالمزايا النسبية أو التنافسية، فضلاً عن تنمية الموارد البشرية من مهارات فنية وادارية وقوى عاملة منتجة وفعالة، والسيطرة على مشكلة البطالة عن طريق ايجاد فرص عمل متجددة. وأخيراً لا بد من الاشارة الى أن التعجيل في اقامة السوق العربية المشتركة وصولاً الى بناء التكتل الاقتصادي العربي، من خلال ازالة القيود الجمركية والادارية والمعوقات الأخرى بين الأسواق العربية، لا يتعارض مع بنود واتفاقية منظمة التجارة الدولية، التي تجيز بدورها اقامة اتحاد جمركي أو منطقة حرة بين البلدان المتجاورة، تعطي من خلالها امتيازات تجارية للدول الأعضاء في التكتل دون غيرها، ناهيك عن الفوائد التي من المتوقع أن تنجم عن تزايد القوة التفاوضية للدول الأعضاء في هذا التكتل. كذلك لا بد من التأكيد في هذا السياق على مسألة في غاية الأهمية، وهي أن تطوير التجارة العربية البينية بالقدر الذي يتسق مع متطلبات مواجهة تحرير التجارة العالمية في ظل منظمة التجارة الدولية يحتاج الى قدر كبير من التكامل والتنسيق بين القواعد الانتاجية في البلدان العربية، وبحيث يتلاءم ذلك مع الاتجاه نحو ازالة أو خفض القيود الجمركية وغير الجمركية، والا فإن الاكتفاء بمجرد ازالة هذه القيود من دون الاهتمام في الوقت نفسه بتوسيع القاعدة الانتاجية العربية ذات القدرة الكبيرة على انتاج السلع والخدمات القابلة للتصريف في الأسواق العربية لن يؤدي الا الى تحقيق نتائج هامشية لا ترقى الى مستوى المواجهة مع المتغيرات الاقتصادية العالمية الجديدة، خصوصاً اذا علمنا أن الهياكل الانتاجية القائمة حالياً في البلدان العربية على قدر كبير من التشابه، خصوصاً في مجال الانتاج الصناعي، وهو ما يعني بالتبعية أن المبادلات التجارية بين الدول العربية لن يكون لها شأن كبير ما لم يكن هناك تكامل انتاجي يؤمن قدراً كبيراً من الاعتماد المتبادل لهذه الدول العربية على بعضها بعضاً، وبالتالي تعزيز الاستفادة من التخصص والانتاج الواسع النطاق، ومن هذا المنطلق فان المقياس الدقيق المبين لجوهر الفائدة من تحرير المبادلات التجارية العربية البيئية يكون في الأثر المتوقع لهذه التجارة على الاستثمارات مما يجعل تحرير التجارة في هذه الحالة وسيلة لتركيز الاستثمارات وتوظيفها في البلدان العربية والتي تؤدي الى دفع التنمية الاقتصادية قدماً الى الأمام. والواقع أنه على عكس ما كان سائداً من قبل، تشير كافة الدلائل الى أن المرحلة الحالية تتضافر فيها عوامل عدة على المستويين العام والخاص لدعم وتطوير التجارة العربية البيئية، وبما يخدم أهداف التعاون والتنمية في البلدان العربية، خصوصاً في ظل ما تزخر به الساحة الاقتصادية الدولية من اتفاقات وتكتلات اقتصادية وتجارية عالمية، اذ أنه بالقاء نظرة متفحصة على ما تمخض عنه ذلك الزخم الكبير من اللقاءات بين أقطاب العملية الانتاجية في المنطقة العربية خلال الأعوام القليلة الماضية، يبرز بما لا يدع مجالاً للشك مدى ازدياد الوعي العربي على المستويين الرسمي ورجال الأعمال بأهمية وضرورة تنمية التجارة العربية البيئية باعتبارها نقطة البداية للتكامل الاقتصادي العربي والسير نحو خلق تكتل اقتصادي عربي يمكنه مواكبة التطورات المستجدة على الساحة الاقتصادية الدولية. ومن الأمور الرئيسية التي يجب أن تؤخذ في الاعتبار في سياق العمل على تحسين وتطوير التجارة العربية البينية وتوسيع نطاقها بحيث تدعم من الاتجاهات العربية التكاملية، الحاجة الى توفير التمويل اللازم لهذه التجارة، واستخدام الأساليب الحديثة للتسويق وتوفير المعلومات التجارية، فضلاً عن تحسين وسائل الاتصال والنقل بين الدول العربية، والتوسع في اقامة المشاريع الاقتصادية المشتركة، فضلاً عن ضرورة ان ترتبط الاتفاقات الرامية الى تحرير التجارة العربية البينية بسياسات وخطط التنمية الاقتصادية في البلدان العربية، وللتدليل على ذلك، نشير الى انه على رغم ارتفاع الأهمية النسبية للتجارة العربية البينية في بداية عقد التسعينات الى 6.6 في المئة في مقابل 8.6 في المئة من اجمالي التجارة العربية الخارجية، فضلاً عن ان أداء هذه التجارة العربية البينية خلال هذه الفترة كان أفضل من أداء التجارة العربية الخارجية زادت الأولى بمعدل 5.8 في المئة سنوياً، فيما زادت الثانية بمعدل 3.9 في المئة سنوياً، الا أن استمرار هذه النسبة المنخفضة للتجارة العربية البينية الى اجمالي التجارة الخارجية العربية بالاضافة الى انخفاض معدل نموها مقارنة مع أداء التجارة على المستوى العالمي 5.8 في المئة في مقابل 13 في المئة يؤدي الى احجام المستثمرين العرب عن الاستثمار في مشاريع تصديرية للسوق العربية واندفاع هؤلاء المستثمرين في المقابل نحو تفضيل الاستثمار في المشاريع التصديرية الموجهة الى الأسواق الدولية، وبالتالي فان عدم اعطاء دفعة قوية للتجارة العربية البينية وابقاءها عند مستواها الحالي سيكون عاملاً محبطاً للاستثمار العربي المشترك، وانخفاض هذا الاستثمار سيؤدي الى ابقاء التجارة العربية البينية عند مستواها المنخفض، وهو ما يشير الى العلاقة العضوية التي تربط بين هذين المتغيرين المهمين من المتغيرات التي تتشكل منها الاقتصادات العربية، الاستثمار المتبادل والتجارة البينية، وما يعكسه ذلك من ضرورات الاتجاه في الجهد العربي المشترك نحو العمل على تطويرهما بشكل متواز وبحيث تتحقق من وراء ذلك الاستفادة المثلى من الموارد الاقتصادية الضخمة والأسواق العربية الواسعة في آن آخذاً في الاعتبار أنه حتى يكون للتجارة العربية البينية تأثيرها الفاعل على الاستثمارات العربية المتبادلة وبالعكس فإنه لا بد من أن يتم تحرير هذه التجارة بين الدول العربية نظراً لما شاب هذا العمل من عيوب لعل من بينها التراخي في تنفيذ مراحل تحرير التجارة وطول الفترة التي استنفدتها عملية التدرج في هذا المجال حتى الآن والتي نخشى من أن لا تعطي نتائجها المرجوة في ظل تعاظم الاتجاه من قبل العديد من دول العالم نحو التجمع في تكتلات تجارية واقتصادية واقليمية، وتسارع وتيرته. أما عن الشق الثاني في معادلة التكامل الاقتصادي العربي، والمتمثلة في الاستثمارات العربية البينية أو المتبادلة، فيمكن التأكيد في هذا المجال على الضرورة القصوى لزيادة معدلات تدفق هذه الاستثمارات بين البلدان العربية، خصوصاً أن كافة المعطيات تشير الى تدني حجم هذه الاستثمارات حتى وقتنا الحاضر، الأمر الذي لا يزال يعتبر عقبة مهمة من ضمن العقبات الرئيسية التي تحول دون تمكن العالم العربي من احتلال موقعه المؤمل على الساحة الاقتصادية الدولية. * اقتصادي سعودي