لا أذكر اني التقيت بماجد السمرائي أبان عملي في العراق في مؤسسة السينما والمسرح من سنة 1975 وحتى 1978. ليس هذا إنكاراً بمعرفة الرجل، فالذاكرة الطاعنة في العمر أصبحت خوانة. أما الكاتبة عالية ممدوح فالتقيت بها مرة وحيدة في أمستردام قبل بضع سنوات حينما حضرتُ احتفالية أقامها المجلس الأوربي للثقافة بمناسبة ترجمة روايتها "حبات النفتالين" إلى لغات أوربية. لا أريد أن أخوض في الأسباب التي حدت الشاعر خالد المعالي الى أن يتهم عالية ممدوح وماجد السمرائي في مقالته: "الشريط العراقي المعطوب" - "الحياة" 27-8-2004 بما كاله لهما، بخاصة اني قرأت المقال الذي كتبته عاليه ممدوح في عدد سابق في "الحياة" وكان يتعلق بتمثيل الثقافة العربية في معرض فرانكفورت للكتاب. لكنني لم أقرأ ما يكتبه السامرائي، ولم يقع شيء منه تحت عيني الكليلتين! قرر المعالي أن الثقافة العراقية ممثلة احسن تمثيل في معرض فرانكفورت الدولي على عكس ما قالته ممدوح لأن، حسب رأيه، "العراق يشارك في المعرض عبر أربعة أجنحة، هي: دار الشؤون الثقافية، مكتبة المثنى، دار المدى، ومنشورات الجمل. وهي مشاركة حرّة وليست مشاركة تعبوية. وأيضاً هناك الكثير من الأدباء العراقيين المدعوين، أيضاً خارج إطار فاعليات الجامعة العربية، وفي مدن ألمانية عدة، حيث سيشارك أدباء من العراق والشتات". انتهى كلام المعالي. دار "الجمل" هي الدار التي أسسها ويديرها خالد المعالي، ودار "المدى" هي الدار التي أسسها ويديرها فخري كريم. الأولى مقرها في المانيا والثانية مقرها في دمشق. أما "المثنى" والشؤون الثقافية هل الأخيرة دائرة تتيع وزارة الثقافة العراقية؟! فلا اعرف عنهما شيئاً. إذاً داران للنشر مقرهما خارج العراق وليست هذه نقيصة ودار المثنى ودائرة ثقافية رسمية. هل هذه الهيئات تكفي لتمثيل الثقافة العراقية بكل ألوانها؟! بالتأكيد لا! فالثقافة العراقية - مثلها مثل أية ثقافة أخري ببساطة - يمثلها الإنجاز الفكري المتنوع عبر أجيال مديدة، لشعب عريق، أنجز وأضاف الى "الثقافة العربية والإنسانية الكثير. وقضى السنوات طوالاً يمارس "فن مواصلة الحياة" تحت العين الساهرة والأذن اللاقطة للبعث العراقي الصدامي. ثم انه الشعب العربي الوحيد الذي انتشر بالآلاف، في مناف العالم من القطب إلى القطب، حاملاً معه لغته وذاكرته الجمعية، مازجاً اياها بلغة المنافي وذاكرة شعوبها. هذه ثقافة - قديمة وحديثة - لا تجرؤ بضع دور نشر على إدعاء تمثيلها. ثم نأتي إلي نقطة أخرى مهمة: أثار دهشتي ايضاً إصرار خالد المعالي "على اتهام عاليه ممدوح من خلال "قبيلتها" هو الذي يعيش في المانيا حيث لا قبائل ولا عشائر... كما تعيش عاليه في باريس منذ زمن طويل! لقد ظهرت في العراق، وبعض البلدان العربية الأخرى" ثقافة جديدة بعد إزاحة نظام صدام حسين: انها ثقافة فتح الملفات وثقافة "التجريس" بدأت بظهور ما أُطلق عليه "كوبونات صدام" لكنها كانت مثل زوبعة في فنجان" أثارت غباراً كثيفاً لكنها سرعان ما هدأت مثلما بدأت. ولهذا لم نعد نعرف حقيقة هذه الكوبونات: من أخذ ومن رفض. لم نعرف ايضاً مدى صدقية العملية في مجملها. لكني لا اعتقد أن الوقت حان لفتح كل الملفات علماً بأني أؤيد فتحها بشرط أساسي هو وجود الوثائق والأدلة لأن ما يحدث الآن في العراق من قطع للرؤوس هو التهديد الأخطر للثقافة العربية - الإسلامية، خصوصاً بعد التاسع من ايلول سبتمبر المشؤوم. ما يهمني الآن ويهم المئات من المنشغلين بالثقافة العربية هو التكاتف أمام هذا الخطر وفضحه والتنديد به. ان هلا يهدد النيباليين وإلههم بوذا كما جاء في بيان القتلة بل يهدد وجودنا وكل ما نؤمن به وما ناضلنا ونناضل من أجله. أن السائد الآن بين المشتغلين بالثقافة العربية هو "ثقافة التقية" وهي ثقافة بالغة الخطورة لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس... وهذا ما أراه بوضوح الآن بين معظم المثقفين العرب! الحرب على العراق شقت الصفوف، وتعمق الانشقاق بعد الحرب" وفوجئنا جميعاً ب"فرانكفورت" حيث تستضيفنا أهم تظاهرة ثقافية غربية عالمية. تستضيف ثقافتنا وتقدم لها الفرصة النادرة - لما بعد التاسع من أيلول أيضاً - لكي ُنظهر للعالم ثقافة التسامح العربية الأصيلة. ثقافة الأندلس وطوق الحمامة، ومقدمة ابن خلدون، إنجازات ابن رشد والرازي وابن سينا. حبران ومطران وطه حسين وعلي عبدالرزاق... ثقافة قبول الآخر في إنجازات المعاصرين نثراً ونظماً وفكراً. لا بد من ان يجتمع المثقفون العرب في فرانكفورت في ندوة او ورشة عمل لمناقشة السؤال الأكثر أهمية الآن "ما هو دور المثقف في مواجهة ما يحدث في العراق الآن؟ كيف نقاوم الاحتلال ونقاوم في الوقت ذاته ثقافة اختطاف مقاومة الاحتلال باسم الدين او بمسميات أخرى؟" فليكن لكل زمان" مقال ورجال. زماننا الآن هو تسليط الضوء على الخاطفين بأنواعهم: الذين يحاولون اختطاف حقوق الشعب العراقي، والذين يحاولون اختطاف ذاكرته الجمعية، والذين يحاولون اختطاف تضحياته الجسيمة. ولن ننسى الذين يختطفون الصحافيين والعمال البسطاء بدعوى "مقاومة الاحتلال". هذا هو الواجب الملق على كاهل المثقف العراقي والعربي _ والعالمي - في فرانكفورت، بغض النظر عن وصوله إلى فرانكفورت على نفقة وزارة الثقافة العراقية او بدعوة من الجامعة العربية والمنجي أبو سنينة ،او بدعوة من الجانب الألماني، او على نفقته. بغض النظر عن تمثيله لدار نشر او مجلة او جماعة او تمثيله لأفكاره ومواقفه الشخصية كمثقف يتحمل مسؤولية دوره، فالجنسية العراقية او العربية لا تعطي الحق لأحد أن يتكلم باسم الدم العراقي الذي انسكب وما يزال، او باسم المقابر الجماعية.