شاهدت البرنامج الوثائقي الذي بثته القناة الفضائية العربية LBC مساء التاسع من ايلول سبتمبر الجاري عن احداث الحادي عشر من ايلول 2001 في الولاياتالمتحدة وقد قدم بمشاركة محطات تلفزيونية عالمية. لقد شدني هذا البرنامج الوثائقي لما تضمنه من عرض صادق ومؤثر من معدة البرنامج الاميركية لضحايا الحروب وبخاصة الارامل والاطفال. لا سيما عند مقابلتها احدى الارامل العراقية التي فقدت زوجها في الحرب وكذلك الارملة الفلسطينية التي فقدت زوجها في العدوان الاسرائيلي الغادر على "صبرا وشاتيلا" في بيروت. بكت المعدة وهي تستمع الى هاتين الارملتين الملتاعتين واختتمت البرنامج بنداء صادق ومؤثر لنبذ الحروب والارهاب وبتطلعها الى عالم يسوده السلام والوئام والعدالة بدلاً عن هذا الصراع الدامي الذي اخذ يتفاقم وينتشر كوباء الطاعون الذي لا يوفر احداً من فتكه. ومما يزيد من فداحة هذه الموجة المتتالية من الارهاب و"الارهاب المضاد" الذي وصل الى حد مشاهدة الحروب المدمرة وانتهاج سياسة ظاهرها مكافحة الارهاب وباطنها فرض سيطرة الولاياتالمتحدة على مقاليد العالم. دعونا ألا نلجأ الى الحكم من طرف واحد بل ان ما كتب عن هذا التوجه الاميركي الجديد القديم بقلم المفكرين والسياسيين الاميركيين وليس العرب يجمع على صحة حقيقة مخيفة. هناك العشرات من الكتب التي امتلأت بها رفوف المكتبات وبعضها مترجم الى اللغة العربية تسلط الضوء، ان لم نقل تفضح حقيقة اهداف السياسة الاميركية للسيطرة والتحكم بمقدرات الدول والشعوب... من هذه الكتب على سبيل المثال لا الحصر كتاب نعوم تشومسكي بعنوان "الهيمنة أم البقاء... السعي الاميركي الى السيطرة على العالم" وكذلك كتاب زبيغتيو بريجسنكي بعنوان "الاختيار... السيطرة على العالم أم قيادة العالم" والكتاب الذي اصدره الكاتب السعودي المعروف فهد العرابي الحارثي بعنوان "اميركا التي تعلمنا الديموقراطية والعدل" وقد سلط الضوء على هذه الظاهرة الجديدة القديمة للسياسة الاميركية. ربما كان الحادي عشر من ايلول تاريخاً مفصيلاً في هذه الدوامة من العنف والارهاب والارهاب المضاد كما قلنا في بداية المقال... لقد تلاحقت الاحداث متسارعة بعد ذلك الحدث الخطير، فحدثت الحرب ضد "طالبان" في افغانستان بسبب احتضانها اسامة بن لادن وتحالفها معه. ثم الحرب على العراق والقضاء على نظام صدام حسين وكان ثمن ذلك تصاعد عمليات الارهاب في المنطقة بل في مناطق اخرى نائية عن ساحة الصراع أندونيسيا والقوقاز وأماكن اخرى لم تسلم من هذا الوباء... كالمملكة العربية السعودية واليمن... بل ان هاجس الارهاب اخذ يسيطر على حياة الناس في الولاياتالمتحدة نفسها وفي اوروبا حتى اضحى المواطن العادي لا يأمن على نفسه وهو يتابع سلسلة التهديدات الصادرة عن قواعد الارهاب وليس فقط قاعدته وذلك في شكل لا سابق له في التاريخ. حتى تلك الحروب المدمرة التي راح ضحيتها الملايين لم تكن تثير الرعب والقلق اللذين سببتهما هذه التهديدات الارهابية لأنها مجهولة الزمان والمكان والنوع... هل هي تفجيرات وقنابل وسيارات مفخخة أم تسميم للمياه او نشر الميكروبات والامراض الخطيرة القاتلة؟ هل يجيء الخطر من الداخل ام من خارج الحدود؟ في احد الاسواق المزدحمة ام في دور السينما والمسرح والمدرسة؟ في الطائرة ام في القطارات؟ رعب أرهق الناس وأفسد عليهم هدوء حياتهم. وما الحل؟ سؤال يتردد على كل لسان، وامتلأت الصحف وأجهزة التلفاز بالافكار والتحليلات الحادة التي تحاول العثور على هذا الحل. وتنوعت هذه الافكار والتنظيرات ولكنّ قليلاً منها تجرأ على طرح الحل الوحيد العملي للخروج من هذه الدوامة خشية ألا يتهم بمناصرة الارهابيين او التعاطف معهم. وأستطيع ان ازعم انني لم اكن من هؤلاء الحذرين عندما كتبت رسالة مفتوحة الى السيد الاخضر الابراهيمي قبيل الحرب في افغانستان جريدة "الحياة" بتاريخ 11\10/2001 تحت عنوان: "للخروج من هذا المأزق العالمي مطلوب هدنة تفضي الى سلام دائم وشامل" اقترحت فيها قبل بدء الحرب ان يتم التفاوض مع بن لادن وزعماء "القاعدة" على التعهد بايقاف اي نشاط ارهابي وللأبد بضمانة جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الاسلامي وتحت مظلة الأممالمتحدة، في مقابل ايقاف الهجوم على افغانستان وحل القضية الفلسطينية نهائياً وفقاً لقرارات الأممالمتحدة واقامة الدول الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف. واقترحت ان توجه الولاياتالمتحدة نفقات الحرب التي تصل الى بلايين لتنفق على مساعدة الدول الفقيرة وبالتالي القضاء على كل بؤر التوتر والنزاعات والحروب لتتفرغ الشعوب لعملية التنمية وتطوير اقتصادياتها وصولاً الى مشاركة فعلية وعادلة في الاقتصاد العالمي وما تحقق من انجازات حرم منها العالم الثالث الذي يغرق في مشاكل الفقر والجهل والبطالة والمرض. وبمعنى آخر مطلوب "مشروع مارشال" تساهم فيه الولاياتالمتحدة بما توفره من نفقات الحرب، والدول الصناعية الكبرى بما تتمتع به من مدخرات طائلة وكذلك الدول النفطية التي انشأت بالفعل صناديق عدة للتنمية في دول العالم الثالث اسهمت على مدى الثلاثين عاماً الماضية في تمويل عمليات التنمية في تلك الدول في شكل سخي. عندئذ، فقط عندئذ، نستطيع القضاء على ظاهرة الارهاب هذه وينشأ عالم جديد يسوده السلام والرخاء والتعاون الخير لما فيه مصلحة البشرية جمعاء... احلام ولكنها قابلة للتحقيق اذا ما تم التخلي عن سياسة السيطرة والهيمنة والتحكم في مصائر الشعوب. وبذلك فقط، نعم فقط، تستطيع الولاياتالمتحدة تغيير الصورة السائدة عن "الاميركي البشع" وتحويل مشاعر الكراهية المتصاعدة من الشعوب المقهورة الى استعادة الصور الجذابة التي كانت تنظر بها هذه الشعوب للولايات المتحدة بصفتها رائدة الحضارة والتقدم والانجاز العلمي والحارس الأمين للديموقراطية والحريات والعدالة والمساواة. رسالة صدق اوجهها الى الادارة الاميركية والشعب الاميركي وهما على عتبة فترة رئاسة جديدة قد تفلح في تبني هذه الدعوة لكي تتحقق المعجزة في القضاء على ظاهرة الارهاب العالمية من طريق رفع شعار: العدالة في خدمة السلام العالمي بزعامة الولاياتالمتحدة وتحت مظلة الأممالمتحدة... انه خيار لا بديل عنه ويتطلب الكثير من الشجاعة والحكمة ويقظة الضمير. بيروت في 15/9/2004 * سفير سعودي متقاعد