الكتاب: الحرب الكونية الثالثة. المؤلف: السيد يسين. الناشر: دار المدى. دمشق، 2004. ازداد الصراع العالمي تعاظماً منذ قصف برجي مركز التجارة العالمي، ومقر وزارة الدفاع الأميركية في أيلول سبتمبر 2001، ثم تفجيرات مدريد وصولاً الى مقتل المخرج الهولندي ثيو فان غوغ على يد شاب مغربي يحمل الجنسية الهولندية بعد عرض فيلمه الروائي القصير "الخضوع". هذه الأحداث تبدو وكأنها تقدم برهاناً عملياً على صحة الاطروحات العنصرية التي قدمها رجل الأمن القومي الأميركي صاموئيل هنتنغتون حول مسألة صراع الحضارات والديانات في القرن الجديد، وهي الاطروحات التي نهضت استراتيجياً على إعادة صوغ الصراع بين الامبريالية والاستغلال من جهة، وحركات التحرر والنضال من أجل العدالة الاجتماعية من جهة أخرى لإعلاء الطابع الثقافي للصراع على الطابع السياسي والاقتصادي، ودفع هذا الصراع في اتجاه إبراز الهويات الأصغر فالأصغر من الشعب والمواطنة الجامعة نزولاً الى العشيرة فالقبيلة ثم الأسرة فالدين وتفكيكها جميعاً لأدنى وحداتها. وهي كلها توجهات نمت وكبرت في ظل الأزمة العميقة للنظام الرأسمالي العالمي الذي توحش، ان جاز لنا التعبير، بعد سقوط المنظومة الاشتراكية، وأخذ يغذي الاتجاهات العنصرية وكراهية الأجانب والمهاجرين ويعزلهم في "غيتوهات" محاصرة بالعدوانية والفقر والتعالي والاستهزاء، بينما يقدم العون للنظم الاستبدادية الأبوية التي تقوم بالنيابة عن هذا النظام العالمي باستغلال شعوبها وقهرها ونهب ثرواتها. هذه الاشكاليات وغيرها دفعت الكاتب السيد يسين الى قراءة مبكرة لدراسة أحداث أيلول في كتابه "الحرب الكونية الثالثة". في القسم الأول من الكتاب وعنوانه "الحادي عشر من سبتمبر" يرى الكاتب أن أحداث أيلول تمثل فاصلاً تاريخياً بين ما قبل وما بعد، وهي بذلك تمثل قطيعة تاريخية بين عصر وعصر، وتعيد انتاج الخطاب الغربي التقليدي الذي ساد منذ عصر التنوير، والذي قام على أساسه مشروع الحداثة الغربية، وهو أيضاً الخطاب العنصري الذي ابتكر نظرية "عبء الرجل الأبيض" في تمدين الشعوب الغارقة في جهلها، فكانت هذه النظرية وغيرها بمثابة الغطاء الايديولوجي لإضفاء الشرعية على الاستعمار. واتخذت صوراً شتى سياسية واجتماعية وثقافية. كذلك فإن الخطاب الأميركي لم يقتصر على تحليل خطاب الحرب لتنفيذه وإنما التفت، أيضاً، الى خطة الحرب ذاتها، كي يكشف حدود استخدام القوة المسلحة في الصراع ضد الارهاب، ولكي ينقد الأسس الواهية التي قامت على أساسها خطة الحرب العالمية التي تريد أن تقودها في شكل مضطرب وغامض ومتعثر الولاياتالمتحدة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، تساعدها في ذلك الأزمة الداخلية، الثقافية على وجه الخصوص التي تمر بها المجتمعات، وفي تقدير الكاتب ان المجتمع العربي يمر في الوقت الراهن بأزمة ثقافية متعددة الجوانب، فهي أزمة شرعية وأزمة هوية، وأزمة عقلانية. إضافة الى سيادة نمط الدولة التسلطية في الوطن العربي، والتي أدت ممارستها في السنوات الأخيرة الى مجموعة مترابطة من الظواهر السياسية والاجتماعية والثقافية والنفسية أبرزها: شيوع اللامبالاة السياسية بين الجماهير المقموعة، وبروز ظاهرة الاغتراب على المستوى الجمعي والفردي. وأيضاً، ظهور الثقافات المضادة للدولة التسلطية، وازدياد حركيتها السياسية، وبروز تيار علماني ديموقراطي مضاد للتسلطية، يسعى الى احياء المجتمع المدني من خلال تشكيل الأحزاب السياسية المعارضة، وتكوين جمعيات حقوق الانسان، وتفعيل المؤسسات الاجتماعية والثقافية المستقلة عن سلطة الدولة. ويرى السيد يسين ان النظام السياسي العربي يمر في الوقت الراهن بمرحلة انتقالية بالغة الخطورة فهو أمام معركتين: الأولى بين الدولة التسلطية والمجتمع المدني بمختلف توجهاته وايديولوجياته، والثانية داخل المجتمع المدني ذاته بين التيار العلماني الديموقراطية على تنوع اتجاهاته، والتيار الإسلامي الأصولي. وينتقل الكاتب في الفصل الثاني الى تشريح ظاهرة العداء بين الإسلام والغرب فالأسئلة الموضوعية مفتوحة، والاجابات لا تزال غائبة! إلا أن الكاتب يعتمد على ما قدمه فرد هاليداي من أسباب تكمن وراء العداء المتأصل بين الاسلام والغرب، فأول هذه الأسباب ان الغرب سبق له أن هيمن على العالم الاسلامي بصورة رسمية أو غير رسمية. وفي غير حالات الهيمنة والسيطرة المباشرة فهو يتدخل لغير مصلحة الشعوب الاسلامية والعربية، كما حدث في الخليج وشمال العراق والجزائر. والسبب الثاني الذي لعله من أهم أسباب العداء هو أن الغرب يحاول تقسيم العالم الاسلامي وتجزئته والقضاء على بوادر أية وحدة. وهناك سبب آخر يتمثل في الادراك الاسلامي الذي ينظر في شكل غير مبال لمعاناة المسلمين في فلسطين والشيشان والبوسنة وكشمير والآن في العراق. وهناك سبب آخر على غاية كبيرة من الأهمية وهو ازدواجية المعايير الخاصة بتطبيق مبادئ حقوق الانسان وبخاصة في ما يتعلق بالسلوك الاسرائيلي ازاء الشعب الفلسطيني هذا من الناحية السياسية أما من ناحية القيم، فسنجد اتهاماً بفساد القيم الغربية التي تحاول بحكم قواتها التكنولوجية والاتصالية ان تغزو بها المجال الثقافي العربي من خلال الفضائيات وبشكة الاتصال الحديثة. نضيف الى ذلك موجات السياح الغربيين الذين يتصرفون بسلوكيات غير مقبولة اسلامياً أثناء تجوالهم في الدول العربية. وكذلك اشاعة الدول الغربية الرأسمالية لأنماط الاستهلاك الغربية التي تؤثر في قطاعات جماهيرية متعددة وفي مقدمها الشباب. وأخيراً يبرز سبب خاص تتبناه جماعات الاسلام السياسي التي ترى ان الدول الغربية تدعم النظم الديكتاتورية في العالم الإسلامي. أما القسم الثالث وعنوانه خطاب المثقفين بين تبرير الحرب ومعارضتها، عرض الكاتب من خلاله بالتحليل النقدي لخطابات المثقفين الأميركيين حول الحرب ضد الإرهاب، سواء في ذلك من أيدوا الحرب أو من عارضوها. فتحدث بشيء من التفصيل عن البيان الذي وضع عليه 60 أكاديمياً أميركياً يتضمن تبريرهم للحرب التي تشنها الولاياتالمتحدة ضد الإرهاب ويصفونها بأنها "حرب عادلة". واللافت للنظر ان هذا البيان الذي وجه الى الشعب الأميركي والى المجتمع العالمي لم ينشر على الإطلاق في صحف ومجلات الولاياتالمتحدة، ولكنه نشر فقط على شبكة الانترنت، وذلك خوفاً من موقعيه بأن يتم تناول آرائهم بصورة نقدية عنيفة من جانب زملائهم في المحيط الأكاديمي. من هنا نرى ان هذا البيان يؤكد التفرقة التي وصفها جوليان بندا بين الكتاب والكتبة! فإذا كان المثقفون الأميركيون الذين مثلوا صوت العقلانية الأميركية قاموا بالفعل بدور الكتاب، فإن الستين أكاديمياً أميركياً الذين أصدروا هذا البيان قد تحولوا في الواقع الى كتبة همهم هو تبرير سلوك السلطة الأميركية بعد أحداث أيلول. وضم الفصل الرابع من الكتاب مشروع خطاب مصري موجه للمثقفين الأميركيين يدعوهم الى حوار ايجابي مفتوح وفاعل، للاتفاق على الصيغ المناسبة لإخراج المجتمع الدولي من المأزق الذي وضعته فيه الإدارة الأميركية وذلك في اطار الأممالمتحدة، وقد تم تشكيل لجنة من أبرز المفكرين في العالم من مختلف الثقافات لكتابة تقرير جماعي عن حوار الحضارات. يقوم على فكرة أساسية مفادها سقوط النموذج القديم في العلاقات الدولية تحت تأثير العولمة بكل تجلياتها السياسية والاقتصادية والثقافية، وأهمية صوغ نظام عالمي يقوم على تحقيق المساواة بين الدول من دون تمييز، وإعادة تقويم فكرة "العدو" الذائعة في المناخ الثقافي، وتوزيع القوة بين الدول مع مراعاة المصالح المتعددة لها، إضافة الى تأسيس المسؤولية الفردية عن القرارات السياسية، وإقامة التحالفات المختلفة وفقاً للمواضيع الأساسية التي تواجه الانسانية. أما الفصل الأخير فعنوان: "سبتمبر وإعلان الامبراطورية الأميركية"، يشير فيه الكاتب الى التحول الكيفي في الهيمنة الأميركية التي تحاول تأصيل فكرة الامبراطورية على أساس ان الولاياتالمتحدة تظهر بعد الحادي عشر من أيلول "امبراطورية بازغة" ولذلك نجده اتجه الى الدراسة التاريخية لفكرة الامبراطورية وتجلياتها في امبراطوريات متعددة شهدها التاريخ في الغرب والشرق على السواء. ان هذه الاشكاليات التي طرحها الكاتب تكشف في الواقع عن روح العصر الذي نعيشه، والتي توثر تأثيراً بالغاً في المشاريع الفكرية للباحثين، والتي أدت الى انتاج خطابات سياسية وفكرية تعبر في الواقع عن المعركة الكبرى التي تدور في عالم اليوم بين اتجاهات الهيمنة العالمية التي تتبناها الامبراطورية الأميركية، وقوى الاعتدال والسلام، والتي بدأت تتبلور داخل القارة الأوروبية ذاتها، والتي كانت في ما مضى حليفة للولايات المتحدة. وهذه الخطابات المؤيدة منها والمعارضة تحتاج الى تحليل نقدي متعمق، يكشف عن طبيعة الصراع بين رؤى العالم التي تتبناها القوى العالمية المتنافسة والتي تسعى كل منها للسيطرة الكاملة على العالم في الوقت الذي ضاقت فيه المسافات بين الدول، وتكثفت التفاعلات بين البشر.