حتى اليوم، على العكس من كثير مما كتب، لا يبدو أن الولاياتالمتحدة الاميركية استوعبت درس 11 أيلول سبتمبر أو غيرت طريقة تفكيرها أو تصرفها. فهي اعتمدت القوة الغاشمة بلا عقل، ومحاولات فرض ارادتها، وليذهب العالم الى الجحيم! وتصرفت على مستوى الدولة العظمى كتصرف "الكاوبوي" في الغرب الاميركي. وتحاول أن تكرر ما فعلته من قبل بلا استفادة من أي درس. وأنا أشعر، اليوم، ان التغييرات التي أحدثتها الكارثة هي إنتاج مزيد من الكوارث. وذلك لأنه لا يبدو أن الولاياتالمتحدة فكرت على طريقة العالم. بل أدت بها الكارثة الى الإغراق في التفكير والسلوك على طريقتها، وطريقتها تلك يعاني منها العالم منذ سنوات. ومن الدلائل على ذلك ان الولاياتالمتحدة تصرفت مثلما تصرفت من قبل ضد العراق ويوغوسلافيا. ففي البلدين قادت تحالفاً من عدة دول. وسبق لها محاولات خطف قادة اعتبرتهم خطراً عليها. ففي 24 كانون الأول ديسمبر 1989 أرسلت قوات من فرقتها الخاصة "دلتا" الى عاصمة باناما، وقامت بخطف رئيسها، مانويل نورييغا، ونقلته الى أحد سجونها. وقوات "دلتا" ذاتها تحاول الآن القبض على أسامة بن لادن داخل أفغانستان. والظروف مختلفة تماماً بالطبع. ولذلك الاختلاف حشدت الولاياتالمتحدة جيوشها البرية والبحرية والجوية، واستخدمت أحدث ما في ترسانتها الحربية من تكنولوجيا، وشكلت حلفها العالمي. ويبدو كذلك أن الولاياتالمتحدة لم تستفد من دروس حربها في فيتنام، ولا من دورس الاتحاد السوفياتي في حربه في أفغانستان ذاتها. الهدف المعلن من حربها الحالية في أفغانستان هو القضاء على بن لادن، وتنظيمه "القاعدة"، وإنهاء حكم طالبان وإقامة حكم بديل موال لها. ولا يبدو أن أحداً في سدة الحكم والجيش الاميركي فكر في أن القضاء على أشخاص ممكن بالطبع، سواء كانوا قادة "القاعدة" أو طالبان، لكن القضاء على الشعوب غير ممكن إلا بالإبادة الجماعية التي نجحت الولاياتالمتحدة في تحقيقها مع الهنود الحمر سكان اميركا الأصليين. وكانت هذه الإبادة شرط وجود الولاياتالمتحدة التي نعرفها اليوم. فهل تطمح الولاياتالمتحدة الاميركية الى إبادة جماعية للأفغان، لتشكل ولادة جديدة للامبراطورية الاميركية العظمى؟ فحتى وجود حكم موال للولايات المتحدة غير مضمون التحقق، وإذا تحقق فهو غير مضمون الاستقرار، وإذا استقر فالمؤكد أن ذلك لن يقضي على الارهاب ضد الولاياتالمتحدة وهو شعار حربها في أفغانستان. ويوحي بعض من كتبوا أن المنطق ما زال موجوداً هنا، لأن هدف الولاياتالمتحدة، كما قالوا، ليس القضاء على الإرهاب، وإنما هو فرصة وجدتها للوجود الدائم في البحار الدافئة، على الحدود بين القوى النووية الكبيرة والصغيرة المتجاورة في تلك المنطقة من العالم، وهي الصين وروسيا والهند وباكستان وايران، والسيطرة على منابع البترول الضخمة فيها. وهذا موضوع آخر لا علاقة له بموضوع الارهاب مفجر كارثة أيلول الرهيبة. وتكابر واشنطن - حتى الآن - كلّ المبررات المنطقية التي قيلت وكتبت. فما تعتبره إرهاباً هو وليد الظلم والاضطهاد والقهر والفقر. ولم تدرك حتى اللحظة العلاج الوحيد لما تسميه ارهاباً، والمتفق عليه بين كثير من المفكرين والكتاب والساسة وغيرهم، وهو القضاء على أسبابه، لا مجرد أشخاصه. هذا هو المنطق الواضح الذي ترفضه واشنطن بعناد. وبدأ القادة الاميركيون أنفسهم يقولون بعدم الربط بين حربهم على الارهاب وبين حل القضية الفلسطينية، وأن القضاء على الارهاب لن ينتظر حل القضية الفلسطينية. بالطبع، لأن القضية لن تحل في الواقع! وقالوا بأنه يجب ألا يكافأ الإرهاب على حساب دولة اسرائيل. وأرى أن الولاياتالمتحدة لها كل الحق في ذلك. فلماذا تحل مشكلة يعجز أصحابها عن حلها؟ أميركا زادت الطين بلة. فأدخلت منظمات من المقاومة الفلسطينية واللبنانية ضد الاحتلال الاسرائيلي في قائمة المنظمات الارهابية المستهدفة بحربها. طيب! أنصح الولاياتالمتحدة الاميركية بعدم حل القضية الفلسطينية، وعدم تحقيق المطالب المشروعة للشعب الفلسطيني. وأضمن لها استمرار ما تسميه بالارهاب وعدم القضاء عليه. واذا كان هذا يسعدها على رغم أنه يحزننا، فليكن! فالمؤكد أن الولاياتالمتحدة لن تستطيع القضاء على هذه المنظمات مهما فعلت، وإلا كانت اسرائيل ذراع اميركا قد نجحت في القضاء عليها، وهي داخلها، وعلى حدودها، وليست على الطرف الآخر من المحيط. وهذه المنظمات عقيدة ومبدأ وليست أشخاصاً. والمبادئ خالدة بينما البشر فانون. ولتستمر بحار الدماء متدفقة على حساب المياه والحياة! وتصرفت الولاياتالمتحدة سياسياً كما تصرفت من قبل متجاهلة مشكلات العالم، والآراء المختلفة عن آراء قادتها. وكان آخر ما فعلته قبيل كارثة 11 ايلول يؤكد هذا مرة أخرى، ألا وهو موقفها من مؤتمر ديربان لمناهضة التفرقة العنصرية. وكما فعلت قبل ذلك بانسحابها من معاهدة كيوتو للحفاظ على البيئة، وأعلنت بجلاء، بعد الكارثة، مبدأ "من ليس معي فهو ضدي". وهذا المبدأ يؤكد أن التغيرات في الولاياتالمتحدة بسبب الكارثة تتجه للأسوأ. فمن يقف ضدها عليه أن يتوقع ضربها. وهو مبدأ لا علمي فضلاً عن كونه لا منطقي في دولة تعتبر الأولى في التقدم العلمي. الحياة نفسها، علمياً، ليس فيها أبيض ناصع وأسود قاتم. فما نراه من هذين اللونين هو نتاج انعكاس أشعة ألوان متعددة. من هنا نفهم لماذا هذا التململ الرسمي والهجوم الاعلامي الاميركي على حكام مصر والسعودية. ذلك لأنهم، فيما يبدو، تجرأوا وعرضوا لبعض الدرجات اللونية الأخرى غير الأبيض والأسود، على رغم اعلانهم وتكرار اعلانهم الصريح وقوفهم مع الولاياتالمتحدة ضد الارهاب. لم ينطلق كثير من العرب في ردود أفعالهم على الكارثة من ادراك حقيقي لامكانات شعوبهم ومقدرات بلدانهم الحضارية والثقافية والمادية. ولم يحاولوا تكوين قوة عاقلة منسجمة أو متعاونة تساعد على تبصير قوة غاشمة بحقائق الأمور لمساعدة الأخيرة على انتصار حقيقي في معركتها ضد ما تسميه الارهاب. ولم يفعلوا مثلما فعلت أوروبا داخل اتحادها. ولم يسارعوا الى أعمال ايجابية منسقة قوية لتصحيح صورة الاسلام في الاعلام الاميركي والأوروبي، ولحماية العرب والمسلمين في الولاياتالمتحدة. ولم يجتمع القادة العرب لتدارس الموقف، بل تركوا هذا لمستوى وزراء الخارجية ذراً للرماد في العيون. هكذا أكدت كارثة أيلول، في الجانب العربي، على سمات الأنظمة والمجتمعات العربية، وسحبتها نحو الأسوأ: مزيد من الديكتاتورية وقمع الحريات والفساد والتخلف. وهنا نصل الى المستوى الثقافي لنتائج الكارثة. وهو لا يقل عن المستوى العسكري أو السياسي لها، سواء في الولاياتالمتحدة أو في العالم العربي. فلقد بينت الأحداث سطحية وهشاشة في الثقافة الاميركية وضعف بنيان الحضارة الاميركية من جهة، مثلما أكدت تخلف الثقافة العربية المعاصرة من جهة أخرى. * تصرفت الولاياتالمتحدة من نفس منطلقات ثقافة الوجبات السريعة والجاهزة، والتي تعتمد على الإرضاء السريع للرغبات، والسرعة في اتخاذ القرار، وانعدام التأمل وعدم التعمق في التفكير في الظواهر، وبالتالي عدم الوصول إلى الحلول الحقيقية أو الجذرية للمشكلات، والتغطية عليها بالمسكنات والمهدئات والمنومات والمنشطات والمقويات. وهذه كلها مقومات الحياة اليومية لمعظم الاميركيين. وصلت سخرية تطبيقات هذه الثقافة في حربهم على أفغانستان إلى تصور أن إسقاط وجبات جاهزة بالفعل على الشعب الجائع يساعدهم على النصر. ما جعل حتى بعض وسائل الإعلام الاميركية تسخر من هذا التطبيق. * كشفت كارثة 11 أيلول عن وهم الاعتماد فقط على ثقافة التكنولوجيا. أ - من حيث إن التكنولوجيا سلاح ذو حدين يمكن أن يستخدمه الظالم كما يمكن أن يستخدمه المظلوم، أو يستخدمه الإرهابي كما يستخدمه الضحية. ب - ومن حيث إن كل ما لدى أجهزة الاستخبارات والأمن الاميركية الرهيبة من تكنولوجيا متقدمة وأقمار اصطناعية ووسائل اتصال حديثة لم ينفع إطلاقاً في منع وقوع الكارثة أو التنبؤ بها حتى على وجه التقريب. وما زالت هذه التكنولوجيا البائسة عاجزة عن الكشف عن مرسلي جراثيم الجمرة الخبيثة. ج - حتى في الحرب الدائرة الآن يؤكد توني كليفتون كاتب افتتاحية مجلة "نيوزويك" الاميركية الشهيرة عدد 6 تشرين الثاني نوفمبر الجاري بالنص أن "الطريقة الوحيدة للوصول إلى بن لادن والانتصار في هذه الحرب لا بد من أن تتم على الطريقة الأفغانية التقليدية، وهي إرسال عملاء يحملون عملياً عشرات الملايين من الدولارات تدفع ثمناً للكشف عن مكان اختبائه والدفع لرجال طالبان للانشقاق عنه". وعلى رغم ما في هذا الكلام من إهانة للشعب الأفغاني إلا أنه لا يجب أن يغيب عن ذهن أي أحد ما فيه من إهانة للقوة العسكرية وللتكنولوجيا الأميركية. * في العالم العربي سرعان ما برزت ثقافة الخوف وثقافة الضعف، وتمثلت في نفاق الولاياتالمتحدة واسترضائها على حساب الحقيقة ومصالح الشعوب. لم يعترف المسؤولون بالحقيقتين معاً: أن العرب ضد الإرهاب الذي يوقع بضحايا أبرياء، وأن من العرب من سعد لوقوع الكارثة، ليس حباً في الإرهاب،، ولكن كرهاً لسياسة حكام اميركا، وشعوراً بالتشفي إزاء آلاف الضحايا العرب الذين ماتوا بسلاح اميركي، وتعبيراً عن الكرامة التي تدوسها أقدام الجنود الاميركيين. ولم يصدق أحد الرئيس ياسر عرفات وهو يتبرع بدمه على شاشات التلفزيون. فها هو الضحية يعطي دمه للجلاد! * كاتب مصري.