كشف تصاعد ازمة النجف عن انعدام الحلول المعتدلة واعتماد سياسة التصعيد من قبل الاطراف المعنية حتى جاءت مبادرة المرجع الديني أية الله السيستاني لتضع الاعتدال والحلول السياسية في محلها الصحيح، وتطلق آفاقاً جديدة لحل الازمات في عراق متهم باستخدام العنف وبحاجته الى دكتاتور ليضمن امنه واستقراره، وهو اتهام له دوافعه ومنطلقاته الخارجية التي تحاول تبرير استخدام صدام حسين للعنف والقمع كسياسة ضرورية لحكم العراق. ظهر السيستاني اكثر قدرة ومرونة على ممارسة العملية السياسية، فقد جمع بين قدرة الاعتراض ومرونة التوافق,ووضع خيارات التحالف والحكومة الموقتة حول الديموقراطية امام الاختبار. يعيش السيستاني في النجف منذ عام 1952. درس تحت اشراف اكبر مراجعها مثل آية الله الحكيم وآية الله الخوئي. كان الخوئي مقرر دروس آية الله حسين النائيني المرجع الذي اشتهر بكتابه حول المشروطة الدستور المسمى"تنبيه الامة وتنزيه الملة"الذي صدر في النجف عام 1909. من هنا يمكن العثور على خيط يربط اجتهادات الثلاثة حول حدود الفقيه وعلاقته بالسلطة. ينتمي السيستاني الى مدرسة عريقة من التقاليد المرجعية، ترى ان دورها ينحصر في مراقبة التطورات السياسية والتدخل الحاسم حيثما كانت هناك ضرورة شرعية. ويختلف السيستاني، كاستاذه الخوئي، عن المرجعية الايرانية التي كرست مبدأ ولاية الفقيه الذي يكون بمثابة المرجعية الاخيرة والحاسمة لأي قرار. يعتبر السيستاني من المعتدلين ضمن المراجع الكبار. كما يعتبر من الواقعيين الذين يكيفون المواقف الدينية مع الوقائع السياسية على الارض. فهو لم يتعامل مع قوات الاحتلال، ورفض لقاء الحاكم المدني بول بريمر رغم الحاح الاخير وتوسيط عدد كبير من السياسيين العراقيين. وفي الوقت نفسه لم يدع الى مقاومة الاحتلال بالعنف، وانما اكتفى بموقف سياسي لا يضعف العملية. ولكي يستثمر شعار اقامة الديموقراطية فقد دعا الى انتخابات عامة، ودور اكبر للامم المتحدة في العراق. واستطاع ان يثبت قوة هذا المطلب بإنزال قواه الى الشارع في تظاهرات سلمية حاشدة وايصال رسالة الى الاميركيين بنفوذه لعدم تجاوزه في الاجراءات السياسية ومنها اعداد الدستور. لايعتقد السيستاني ان تدخل المرجعية في السياسة يجب ان يكون مباشراً بحيث تتسلم الدور السياسي لادارة الدولة. لكنه يعتقد ان المرجعية معنية بشكل مباشر في ان لا يكون الدستور العراقي مناقضاً للمبادئ الاسلامية. ومن الواضح انه يدرك ان العراق المسلم بلد متعدد الاديان، وقد اكد على هذا الادراك في بيانه الذي دان تفجير الكنائس المسيحية في العراق في شهر تموز يوليو الماضي. يظهر موقف السيستاني من العلاقة بين رجل الدين ورجل السياسة من الفتوى التي اجاب به. ابعد سقوط النظام, على سؤال حول حدود وظيفة رجل الدين وهل له ان يتدخل في الامور الادارية، فكان جوابه"لا يصح ان يزج رجال الدين في الجوانب التنفيذية والادارية، بل ينبغي ان يقتصر دورهم على التوجيه والارشاد والاشراف على اللجان التي تشكل لادارة امور المدينة وتوفير الامن والخدمات للاهالي". يعتقد كثير من الشيعة انهم دفعوا ثمناً باهظاً على مدى ثمانين عاماً من عمر الدولة الحديثة في العراق وينبغي عليهم التعامل الواقعي مع العامل الخارجي وتاثيره في السياسة الاقليمية والدولية. لذلك لم يكونوا حريصين على الدفاع عن نظام اضطهدهم وشردهم واعدم واغتال ملايين منهم على مدى ثلاثين عاماً. فتم التعامل مع الاحتلال باعتباره واقعاً موقتاً. لكن السيستاني ظل يراقب بدقة قرارات الحاكم المدني بول بريمر، خصوصاً موضوع اعداد القانون الاساسي المؤقت لادارة الدولة، وموضوع الانتخابات التي طلب السيستاني اجراءها في وقت مبكر، وطلب دوراً للامم المتحدة لكي يتعامل مع الشرعية الدولية ولا يتعامل مع الحاكم المدني الاميركي. ووافق على تأجيلها لاسباب فنية، رغم ان النتيجة لم تكن مرضية له، مما اتاح له التعامل بمرونة اكسبته ثقلاً جديداً بعيداً عن التزمت والرفض المطلق مستفيداً من الانتظار الذي وفرته سلسلة من المراحل الموقتة والانتقالية بعد اسقاط صدام حسين. كان السيستاني واحداً من ستة اشخاص شيعوا الامام الخوئي الى مثواه الاخير ليلاً وسراً عام 1992. وهو الذي صلى على جثمانه واصبح بعده المرجع الاكبر للشيعة في العالم. وقد نال السيستاني قسطه من قمع صدام، فخلال الحرب العراقية - الايرانية هجر النظام الآلاف من طلبته. وفي 1991 اعتقل مع مجموعة من رجال الدين وتعرض للتعذيب في معسكري الرزازة والرضوانية الشهيرين. وبعدما خرج من السجن اغلق النظام جامع الخضراء ومنعه من الصلاة فيه فاحتج وبقي مقيماً في داره حتى سقوط صدام. وقد كشفت وثائق المخابرات التي عثر عليها بعد انهيار النظام خططا لاغتياله . ربط السيستاني بين الفكر الحوزوي الديني وبين الثقافات المعاصرة, واضاف النظرة الاجتماعية لفهم النص الديني وفق الظروف المتغيرة. وقداطلع السيستاني على القانون الحديث، فراجع القانون العراقي والمصري والفرنسي واستفاد من الاطار الحقوقي المعاصر واجاز للمسلم الاستفادة من قوانين المذاهب والاديان الاخرى على اساس احترام تلك القوانين.ومن تاثيرات اهتمامه بسيادة القانون رفضه لمفهوم العقوبة باعتبارها نتيجة لتمرد العبد على سيده، فاعتبر ان هذا المفهوم مبني على التقسيم الطبقي للمجتمعات القديمة، كمااعتبر هذه النظرية من رواسب الثقافات القديمة للمجتمعات التي تتحدث باللغة الطبقية وليس باللغة القانونية القائمة على مبدأ المصالح الانسانية العامة.وهو في هذا المجال يقترب من مفهوم"روح الشرائع"الذي بثه مونتسكيو في كتابه المعروف بهذا الاسم. كان المتوقع بعد سقوط صدام ان تكون الانتقامات من البعثيين ومن جلادي النظام السابق عبارة عن مذابح وتصفيات دموية واسعة. لكن فتاوى السيستاني ومواقفه ساهمت مساهمة كبيرة في وقف الانتقامات الشخصية والجماعية، وهو أصر في كل فتاواه على عمل القانون وعدم تنفيذه من قبل اشخاص وانما من قبل اجهزة القانون. ولذلك أفتى باعادة جميع الممتلكات المنهوبة الى الاجهزة القانونية. ولكن الاجهزة القانونية كانت قد انهارت، لذلك افتى بحفظها في اماكن مثل المساجد وتحت اشراف لجان من سكان المناطق حتى تعاد الى الجهة ذات الصلاحية في الوقت المناسب. كما منع الاستيلاء على اراضي الحدائق العامة والمتنزهات والاراضي التي لم يشيد عليها وتحويلها الى بيوت ومساكن واعتبرها حراماً. ومنع حتى العوائل الفقيرة من الاستيلاء على المباني الحكومية وتحويلها الى مساكن واعتبر المال العام مقدسا لا يجوز الاستيلاء عليه من قبل افراد او جماعات وامتلاكه شخصياً. وكان حاسماً في موضوع اقتحام اماكن العبادة للمذاهب الاخرى والاستيلاء عليها واعتبر هذا الاجراء مرفوضاً رفضاً تاماً ودعا الى توفير الحماية لائمة تلك المذاهب واحترامهم وتكريمهم . ومنع السيستاني استخدام الاسلحة المنهوبة من مراكز الجيش حتى بحجة الدفاع عن النفس وأكد انها يجب ان تبقى ملكا للدولة ولايجوز التعامل بها ويجب جمعها تحت اشراف لجنة من اهالي المنطقة وتسليمها لاحقاً الى الجهات الرسمية ذات الصلاحية ومنع الجهات غير الرسمية من حمل السلاح واطلاق العيارات النارية . في كثير من فتاوى السيستاني تتجلى روح القانون واحترام الحق العام واعطاء الجهات القانونية وحدها حق التصرف والحكم. ولذلك كانت"ازمة الدستور"بين السيستاني و الحاكم المدني الاميركي ازمة رئيسية حشد لها السيستاني الرأي العام العراقي وضغط على اعضاء مجلس الحكم السابق لتغيير كثير من بنود الدستور الموقت , حتى انه ضغط على الاممالمتحدة التي لم تضمن قرارها بتسليم السلطة الى العراقيين وجوب الالتزام بقانون الدولة الاساسي المؤقت . في لقاء مع السيستاني في غرفته في المستشفى في لندن في آب اغسطس قال لي ان قلبه لم يكن بيد الاطباء اثناء معالجته وانما كان في العراق، وذلك بسسب الاحداث المأسوية في النجف. وحدثته عن اعجاب كثير من الغربيين بمواقفه واستطردت بأن الديموقراطية تتجلى في مواقفه وانه يبدو في فتاواه ومواقفه منسجماً مع اربعمئة عام من صياغة الفكر الديموقراطي في اوروبا، وهذا بدوره ينسجم مع الفكر الديموقراطي في وثيقة الامام علي، المعروفة بعهد الاشتر الذي ارسله ليحكم مصر وحدد له الاطر الحقوقية لمهمته . واجه السيستاني ظاهرة نشأت في التسعينات وانشأت تيار الصدر. فقد كان في تاريخ المرجعية نفوذ للمراجع ذوي الاصول الايرانية، منذ النائيني والاصفهاني في النصف الاول من القرن العشرين. وحاول المرجع محسن الحكيم في عقد الستينات توسيع مفهوم وكلاء المرجع الدينيين باشراك عدد من التجار ووجوه المدن العراقيين في جمع الاموال الشرعية التي تجمع عند المرجع الاكبر. كانت العشائر خاضعة كلياً لنفوذ المرجعية رغم ان ولاء ابناء العشائر انتقل منذ الاربعينات للاحزاب السياسية. لكن المرجع محمد صادق الصدر الذي اغتيل عام 1999 خطا خطوة راديكالية بتفويض شيوخ القبائل جمع الاموال الشرعية فمنحهم صفة دينية لم يحلموا بها وشحن المرجعية بالعنصر العربي واعطاه صفة تمثيل المرجع فانضوت العشائر تحت لواء الصدر وهو ماورثه ابنه مقتدى وتمتع بالنفوذ السياسي والميليشياوي الذي هو عليه. وكان على السيستاني ان يوفق بين ولاء العشائر للمرجعية المتمثلة به وبين اندفاع ابنائها نحو مقتدى الصدرالذي ورث تيار والده من العشائر وفقراء المدن التي كانت ضحية لنظام التمييز في عهد صدام حسين. واجه السيستاني هذا التحدي باتخاذه موقفاً معتدلاً يتعامل مع المستقبل اكثر مما يتعامل مع ظواهر موقتة، فركز جهوده على الدستور الدائم وقبل الانتظار حتى موعد اعداد ذلك الدستور، واضاف خطوة اخرى بالتزام موقف حذر من الصراع بين مقتدى وقوات التحالف والحكومة العراقية بتأكيده ضرورة التزام الحكومة الموقتة بالعمل على الوصول الى الانتخابات المقررة في مطلع عام 2005. وباقتراب اقتحام النجف، شكلت عودته اليها من لندن واطلاق مبادرته ونجاحها في انهاء الازمة، صعوداً جديداً في قدرته على التدخل في الوقت المناسب وتحقيق النجاح الشعبي الذي يمكن توظيفه سياسياً في أي وقت عصيب أخر. ان اعتدال السيستاني، ومفاهيمه الحقوقية عن الديموقراطية، وقدرته على التوازن واختيار الاوقات ستكون عاملاً مساعداً على ارساء نظام ديموقراطي دستوري في دولة لكل الاديان مع الاخذ بنظر الاعتبار الغالبية المسلمة في بلد اسلامي مثل العراق. كما انه اثبت انه قادر على تحشيد الاتباع بشكل سلمي في الوقت المحدد، فالرسالة التي يسعى لايصالها لا تستخدم العنف او التطرف وانما الضغط الشعبي والوسائل الديموقراطية المتاحة. حتى الان ظهر السيستاني كصمام أمان للعملية السياسية في اتجاه الديموقراطية. وهو بعد عودته الظافرة الى النجف من مقر علاجه في لندن، استقبل اكبر المراجع وهم آيات الله محمد سعيد الحكيم واسحاق فياض وبشير النجفي ودار بينهم حوار تم تسريبه الى العراقيين كرأي حول اهمية نبذ العنف وعدم جواز استخدامه من اجل استتباب الامن والاستقرار وصولاً الى الانتخابات مما اعطى دفعة قوية للاعتدال والمرونة اللذين افتقر اليهما العراق، كما اعطى دفعة جديدة للمرجعية باعتبارها قادرة على جذب الجمهور وقيادته في الاوقات العصيبة ولا يمكن القفز على وجودها وقرارها. فهل يمكن لهذا الثقل ان يدفع العملية الديموقراطية نحو التحقق في العراق في وقت بدأت الاصوات ترتفع لتوحي بأن الوضع الامني سيكون عاملاً لتاجيل الانتخابات او لاجرائها في المناطق حسب مستوى الامن في هذه المنطقة او تلك؟ * كاتب عراقي مقيم في لندن.