هناك فجوة كبيرة بين القوى الاقليمية يمكن تجسيرها ولا شك بتعديل كامل في السياسات الحالية والأساليب السائدة في هذا المجال الحساس والذي يتحاشى الكثيرون الخوض فيه، اذ يعتبرون ذلك بمثابة السير في حقل الغام مليء بالشراك الخداعية، ومحاولة تحول في الوقت نفسه من دون أن تقتضي جوائز الدولة التقديرية أو التشجيعية أو حتى الجوائز المتنوعة التي تعطى في دول الخليج عن الشعر وقصص الأطفال والتاريخ لأن قراءة الجغرافيا والتأمل في ما يحدث فيها أمر غير مرغوب لأن الحديث عن الماضي وفرسانه وأمجاده أسلم من التحدث عن الحاضر وأتراحه وأحزانه فالتاريخ يتحدث بخير أو شر عن أفعال الموتى أما الجغرافيا فتتحدث عن عبث الاحياء الذين في قدرتهم تقديم الجزرة أو الضرب بالعصا. واستخدام القوة ليس سيئاً في كل الأحوال فهناك القوة العاقلة العادلة التي تدافع عن الحقوق المشروعة وتتصدى لعدوان القوة الغاشمة التي تزيح الحقائق التاريخية وتفرض الأمر الواقع الظالم لتحول دون انتشار نوازعها الشريرة لأن الأمن القومي لبلد ما أو لمجموعة من البلاد يتوقف على توافر العزيمة لاستخدام القوة أكثر من الرغبة في التفاوض. لأن المفاوضات لا تحتاج الى البلاغة أو مجرد الحجج التي ترتكز على الشرعية بقدر حاجتها الى القراءة الصحيحة لموازين القوى على مسارح الأحداث. لأن القوة هي التي تفرض الحق بينما لا يكسب الحق صاحبه في أغلب الأحيان القوة. فللقوة منطقها وتأثيرها وقوة إقناعها سواء كانت صلبة أو ناعمة او رشيقة، لأن توافر القوة رسالة الى الطرف الآخر أنها موجودة وجاهزة، ولهذا حساباته سواء استخدمت القوة بعد ذلك وهي صلبة أو ناعمة أو رشيقة. وصدق الرئيس ريتشارد نيكسون حينما يقول في كتابه "1999 انتصار بلا حرب" الآتي: "البشر هم القادرون فقط على المشاكل التي يخلقونها فلا يمكن للتكنولوجيا الا حل المشاكل المادية وليست السياسية. والسلام نوعان: السلام الكاملPerfect Peace ومعناه نهاية الصراع وهذا وهم، والسلام الحقيقي Real Peace وهو يعني استمرار الصراع مع معايشته بإدارة خلافات وطموحات الدول المتنامية ولا يحول دون القتال في ظل هذه الحقيقة إلا توافر القوة. فالقوة لا تصنع السلام فقط ولكنها تحافظ عليه ايضاً وليس أخطر على السلام من وجود دولة قوية مجاورة لدول ضعيفة لأن هذا الوضع فيه إغراء كامل لانطلاق القوة لأنها حينئذ لا تخشى العقاب، فالمال السايب يشجع على السرقة والنفس أمارة بالسوء لا يردعها إلا العصا. أرجو ألا يظن أحد أننا ونحن نتحدث عن القوة فإننا نتحدث عن الحرب. فكما أكدنا فإن القوة لا تصنع السلام فقط ولكنها تحافظ عليه ايضاً. لأن أساس الصراع في نظام عالمي يسوده السلام الحقيقي - الذي يتعايش اعضاؤه فيه مع تناقضاتهم - هو القدرة على استخدام القوة والخوف من استخدامها، القدرة على الردع والقدرة على الردع المضاد، أي الخوف من التدمير المتبادل، الخوف من العقاب و"أعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم". فالعالم الذي نعيش فيه هو في حقيقته مخزن هائل للبارود وللأسلحة الفتاكة بكل أنواعها، ولكن الذي يحول دون انفجاره ليس الشرعية الدولية بنظمها ومجالسها ولكن آلية معقدة هي القدرة على توجيه الضربة الأولى والقدرة في الوقت نفسه على توجيه الضربة الثانية أي القدرة على الفعل والتصدي لذلك بالقدرة على رد الفعل، الرغبة الكامنة في العدوان والقدرة المتوافرة على العقاب. والقدرة على رد الفعل أي القدرة على العقاب هي التي تمنع الفعل أو العدوان وهذا هو السر في حالة الاستقرار السائدة على المستوى العالمي وفي حالة عدم الاستقرار والفوضى على المستوى الاقليمي. على المستوى العالمي تعيش الدول الكبيرة كأنها عقارب كتب عليها أن تعيش في أنبوبة واحدة فاذا لدغت احداها أخرى لدغتها الملدوعة قبل أن تموت، على المستوى الاقليمي تعيش الدول في مناطق يكثر فيها القتال والعدوان يظن كل منها انها قادرة على اغتيال من هي أضعف قوة وقدرة، على المستوى العالمي استقرار أساسه قدرة الكل على العقاب. على المستوى الاقليمي استقرار مراوغ لإنعدام قدرة البعض منها على العقاب. فالقوي قادر على توجيه الضربة الأولى إما لقدرته على امتصاص الضربة الثانية ثم القيام بتوجيه الضربة الثالثة وإما لانعدام القدرة لدى الآخرين على توجيه الضربة الثانية. أننا نطالب بتوفير القوة لا للعدوان أو الطغيان ولكن طلباً للاستقرار، فهي الدرع الذي يحول دون تغيير الأمر الواقع أو تعديل الحقوق التاريخية. إن السبب الرئيسي في عدم استقرار المنطقة، أقصد منطقة الشرق الاوسط ومشكلتها الأساسية الصراع العربي - الاسرائيلي، هو اختلاف الرؤية عند مناقشة القضايا الآتية: ما المقصود بالأمن؟ هل هو أمن دولة واحدة؟ هل هو أمن اقليمي؟ هل هو أمن متبادل بين الدول المعنية؟، لمن العدالة؟ لصاحب القوة؟ لصاحب الحق؟ لصاحب المصلحة؟، الشرعية ومفهومها؟ هل هي شرعية الجغرافيا؟ أم شرعية التاريخ؟، الحدود.. هل هي الحدود السياسية المعترف بها دولياً؟ أم هي الحدود الآمنة التي ترسمها القوة؟، الحكم الذاتي هل هو للشعب من دون أرض؟ أم أنه للشعب والأرض؟، الارهاب؟ هل يقوم به من يسعى لاسترداد حقوقه؟ أم من يستولى على أرض غيره وقتل اصحابها ويحاول طردهم منها؟، الشرعية الدولية ومن يحترمها؟ هل هو الاقوى أم هو صاحب الحق؟ ومن ينفذ قراراتها؟ ومن يضرب بها عرض الحائط؟. طبيعي ان تكون إجابة صاحب القوة عن هذه الاسئلة مختلفة تماماً عن إجابة صاحب الحق ويفتقر الى القوة، والسبب في ذلك هو الخلل في توازن القوى. لأن الجانب الذي يكون هذا التوازن في مصلحته يمكنه ان يفعل ما يريد ويمنع الطرف الآخر من فعل ما لا يريد. وعلى ذلك فلا بد وأن نعمل ليل نهار على التصدي لقضايا ثلاث: كيف نحقق توازن القوى في المنطقة؟ كيف نملك الرادع المناسب للتصدي للعدوان؟ كيف تكون لدينا القدرة على العقاب؟ كيف يمكن امتصاصنا للضربة الأولى ثم القيام بالضربة الثانية؟ لأنه اذا اقتنع العدو ان مكاسبه من الضربة الأولى، أي العدوان أقل من الاضرار التي ستلحق به من جراء ضربتنا الثانية فحينئذ سيعمل للعدوان ألف حساب. نقول ذلك لأن عدوان إسرائيل تجاوز كل حد. إن ديبلوماسيتنا حالياً بلا أنياب وفي الوقت نفسه فإن أنياب العدو تعمل بلا ديبلوماسية، الأمر الذي لن يقيم استقراراً في المنطقة. فالاستقرار الحقيقي في المنطقة له جناحان: توازن القوى وتوازن المصالح وان نحقق ذلك يمكن ان تصل المنطقة الى اتفاقات عاقلة تحقق العدالة لجميع الأطراف وإلا ظل الاستقرار أعرج لا يمكنه ان يستكمل المشوار، فالقوة وحدها عاجزة كما نرى عن تحقيق الاستقرار والديبلوماسية وحدها أضعف من أن تحقق السلام. الأمر الذي يحتم استخدام القوة في الديبلوماسية أي نركب لها - أي للديبلوماسية - طاقم أسنان. واذا استخدمت القوة لحسم التناقضات فهي مجرد وسيلة لتحقيق واقع سياسي. فالأمر باستخدامها وتوجيهها وتحديد الأغراض من ذلك بل وتوقفها كلها إجراءات سياسية، والقتال لا يمكن أن يستمر الى الأبد، والكل يحرض على توقف القتال في موقف أو موقع استراتيجي حاسم الذي يجعل له اليد الطولى عند بدء الاتصالات السياسية وعلى مائدة المفاوضات او الذي يهيئ له الموقف الأفضل اذا استؤنف القتال من جديد. والموقف الاستراتيجي الحاسم يتحقق اذا كانت الخسائر المادية كبيرة أو إذا فقد مساحة كبيرة من الأرض، اما الموقع الاستراتيجي الحاسم فيتحقق اذا هددت مؤخرة الجانب الآخر وقطعت خطوط مواصلاته واذا تم الاختراق قريباً من جبهة العمليات فإنه يتم بسرعة ويكون اقل حسماً، أما إذا تم الاختراق بعيداً عن العمق فإنه يتم بطريقة ابطأ ولكنها أكثر حسماً. والاتصالات السياسية بعد توقف القتال مجرد محاولة لنقل أوضاع القوى على الأرض على الأوراق والخرائط، فالجانب الأقوى يحاول إملاء شروطه وتحقيق أهدافه، والجانب الأضعف يحاول التقليل من تنازلاته واذا شعر أنها تنازلات تتعدى خطوطه الحمر فقد يستأنف القتال من جديد على أساس قاعدة "قتال قتال - كلام كلام" وهنا يحاول الوسطاء - وهم غالباً سيئو النية يؤيدون الجانب الأقوى - حل الموقف من طريق الأغراض الناقصة هذا يعطي وذاك يأخذ والأخذ والعطاء يكون دائماً بحجم ودرجة تأثير القوى المتاحة والتي لا تكون بالضرورة عسكرية اذ قد يضاف إليها قوى سياسية أو اقتصادية مؤثرة. حتى نقل السلاح والتكنولوجيا أو أسواقها لها قوانينها الخاصة التي تحدد النوع والكيف والمدى والحجم فهي ليست توافر المال واستلام البضاعة فقط بل تسيطر عليها المصلحة الاستراتيجية للصانع حتى تبنى موازين القوى لخدمة مصالحه، ولذلك يقال إن الحروب الاقليمية هي حروب بالوكالة في جزء كبير منها علماً بأن امتلاك القوة لا يعني توافر الكفاءة القتالية، كما أن حجم القوة لا يعني تفوقها لأن تحقيق ذلك يلزمه القيادة الماهرة والتنظيم الجيد والتخطيط الواعي والتدريب الكامل، لأن وسائل القوة من عتاد وسلاح هي مجرد قطع جامدة لا تتحرك بكفاءة إلا إذا كان لها روح وإرادة. وعود الى بداية المقالات فقد كان حديث جوزيف ناي عن القوة الصلبة والناعمة والرشيقة، موجه للولايات المتحدة الاميركية التي يعلم أنها تملك القوة الساحقة وهو يوجه لها النصيحة عن كيفية استخدامها بقسوة أو بنعومة أو برشاقة، فنحن بدورنا نؤجل هذا الترف في الحديث حتى نحصل أولاً على القوة، وحتى نحقق ذلك نأمل ممن يملكون القوة أن يستخدموها في رشاقة وان لم يرغبوا فليستخدموها في نعومة رجاء. والموضوع كما نرى طويل طويل وخطير خطير لا بد أن ينال اهتمام أصحاب القرار والذين يهيمون في الشوارع لأنهم في النهاية هم الذين يذوقون مرارة القوة وهي منهزمة وحلاوتها في حالة الانتصار ولا يفعلون كمثقفي مؤتمر مكتبة الاسكندرية للإصلاح يتجاهلون القضية تماماً خوفاً من السير في حقول الالغام!. * كاتب. وزير دفاع مصري سابق.