في آخر مقالة نشرتها صحيفة"الأوبزرفر"البريطانية، اعترف الكاتب الروسي الكسندر سولجستين بأنه اخطأ في تقدير حجم النتائج التي توقعها اثر انهيار الاتحاد السوفياتي. وأقرّ بأنه نادم جداً على مساهمته في هدم النظام الذي حلّت محلّه الفوضى العارمة! ويُستنتج من ملخّص المقالة ان الكاتب الذي حارب الشيوعية من منفاه في العواصم الغربية، كان يأمل بأن تصبح بلاده اكثر ديموقراطية واكثر بحبوحة واكثر استقراراً. ولقد انضمت الى تياره الفكري مجموعات من الكتّاب والعلماء الذين تدفقوا من المنافي الى موسكو عقب هدم جدار برلين وتفكّك المنظومة الاشتراكية. وسرعان ما اكتشفوا ان وعود ميخائيل غورباتشيف في اعادة البناء والتجديد البيريسترويكا ظلت حبراً على ورق، وان بوريس يلتسن فشل هو الآخر في تحقيق الاصلاح المنشود. وحدث خلال تلك الفترة الحرجة اي فترة التغيير المتسارع ان فاز يلتسن في انتخابات الرئاسة 12 حزيران يونيو 1991 بعدما نجح في اقصاء غورباتشيف عن مركز القرار. ولقد انضم اليه اثناء تصدّيه لانقلاب الشيوعيين، اطفائي من الشيشان يدعى شامل باساييف. وتشاء الصدف ان يكون هذا الشاب القادم من أعالي جبال الشيشان مجنداً في فرقة الاطفاء التابعة للجيش. وعندما استُدعيت تلك الفرقة لإخماد حريق مبنى مجلس"الدوما"تخلى شامل عن وظيفته والتحق بالفدائيين الذين أحاطوا بيلتسن ساعة امتطى الدبابة. وهكذا فتحت امامه تلك المغامرة الخطرة فرصة الانضمام الى حركة الانفصاليين الشيشانيين الذين توقعوا من الرئيس الروسي مبادلتهم الجميل والاعتراف باستقلال بلادهم مثلما اعترف باستقلال ليتوانيا واستونيا ولاتفيا. ولقد خذلهم يلتسن عندما اعلن بقاء الشيشان داخل روسيا الاتحادية في حين كانت النزعة الانفصالية تهدد وحدة الجمهوريات الخمس عشرة. حاول الرئيس يلتسن بادئ الامر قمع حركة التمرد في الشيشان بواسطة جيشه المهزوم في افغانستان واستمرت الحملة العسكرية مدة سنة ونصف السنة تقريباً استخدمت فيها الدبابات والطائرات التي دمّرت اكثر من نصف منازل العاصمة غرزوني. ووصف المراقبون هجوم القوات الروسية سنة 1994 بأنه الأعنف منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. ولما توقف القصف وانسحبت الدبابات اكتشف المقاتل شامل باساييف ان القوات الغازية أعدمت أحد عشر شخصاً من عائلته بتهمة اخفاء معلومات عن مكان وجوده. ورد شامل باساييف على الحملة الروسية بعملية انتقامية واسعة وظّفها بمهارة لطرح مسألة الشيشان على الرأي العام العالمي. ذلك انه قاد مجموعة مسلحة عبر الحدود استولت على مستشفى تقع في منطقة"ستافروبول". ثم سمح خلال المداهمة لشبكات التلفزيون بالدخول الى المستشفى، عارضاً أمامها الحفاظ على سلامة المحتجزين مقابل انسحاب القوات الروسية من الشيشان. ولما استُشير الرئيس يلتسن بالأمر رفض مبدأ التفاوض مع المتمردين وأمر بمداهمة المستشفى. وسقط في الهجوم العشوائي 150 قتيلاً غالبيتهم من المرضى والاطباء. ويبدو ان موسكو شعرت بالحرج والقلق في وقت كانت عدسات المصوّرين تنقل وقائع المعركة، لذلك وافقت للمرة الاولى على التفاوض وأعطت المهاجمين ممراً آمناً للعودة الى الشيشان. وفي عملية ثانية وقعت بعد سنة تقريباً، استولى خلالها مسلحو الشيشان على مستشفى داخل جمهورية داغستان. وتنازلت موسكو عن تصلّبها وقدّمت للمتمردين احدى عشرة حافلة لنقلهم سالمين الى الحدود. وخامرتهم الشكوك من هذه المعاملة، الامر الذي دفعهم الى خطف مئة رهينة اعتبروا انها توفّر لهم الحماية. ولكن القوات الروسية هاجمت الحافلات بالقذائف والاسلحة الصاروخية مضحّية بالرهائن الذين قتل معظمهم في وقت تمكن المتمردون من الفرار. الهزائم الامنية المتلاحقة التي تعرض لها يلتسن فتحت امام فلاديمير بوتين ابواب الخلافة. ولقد ساعدته على بلوغ هذا المنصب اعتبارات كثيرة اهمها: دوره المميز داخل الاستخبارات كي جي بي... وتنامي المعارضة ضد الفساد الذي غرقت بأوحاله عائلة الرئيس، زائد التحدي المتواصل الذي مثّله متمردو الشيشان ضد موسكو. وتوقع مجلس"الدوما"ان يكون لاعب"الجودو"هو الشخص المؤهل لوقف النزيف الدموي، خصوصاً انه وضع مسألة الشيشان في رأس قائمة اهتماماته. لم ينتظر شامل باساييف طويلاً قبل ان يرمي قفاز التحدي في وجه بوتين الذي أقلقته العملية الأولى التي أوقعت ثلاثمئة قتيل داخل عمارة سكنية في وسط موسكو. واستغل الرئيس الجديد حادث التفجير المروع ليرسل تعزيزات عسكرية اضافية الى الشيشان، ويعزل من القيادة كل الذين زرعهم يلتسن في المناصب العليا. ثم أجرى تشكيلات بين الضباط واختار عشرة ممن عرفوا بالصلابة والقسوة لينقلهم الى"غروزني"، لعلهم ينجحون في نشر أجواء التخويف والترهيب. واستقبلهم الثوار بتفجيرات واسعة داخل مراكز القيادة أودت بحياة 54 ضابطاً وجندياً. وقبل ان يأمر الرئيس بوتين بالانتقام فاجأته احداث 11 ايلول سبتمبر في نيويوركوواشنطن، الأمر الذي دفعه الى مراجعة كل حساباته الأمنية والسياسية في شأن موضوع الارهاب العالمي. وعبر عن استنكاره لتلك العمليات واصفاً اعتداء نيويورك بأنه يشبه الاعتداءات التي تتعرض لها روسيا على أيدي متمردي الشيشان. لم يتوقف تعاطف الرئيس بوتين مع الرئيس جورج بوش على اعلان الإدانة فقط، وانما تعداه الى ما هو أبعد أثراً وأعمق تأثيراً. ذلك انه سمح لقوات الأممالمتحدة بأن تنشر قواعدها العسكرية الجديدة في افغانستان وجورجيا واوزبكستان بهدف تطويق نشاطات"طالبان"ومحاصرة عناصر الحركة الاسلامية. وكان من الطبيعي ان تغضب هذه النقلة الاستراتيجية كبار المسؤولين من أمثال وزير الدفاع سيرجي ايفانوف ووزير الخارجية ايغور ايفانوف. كما أغضبت مجلس"الدوما"الذي اتهم بوتين بأنه يبيع الفضاء الاستراتيجي الروسي لواشنطن مقابل حفنة من المساعدات المالية. ولم يتحمل بوتين اعتراض وزير خارجيته فإذا به ينقله الى موقع آخر مع مسؤولية محدودة تتعلق بمكتب الاستشارات. وكان الوزير ايغور قد أبلغ الاميركيين ان وجودهم في افغانستان يجب ان ينتهي مع انتهاء الحرب وتثبيت نظام الحكم الجديد. اما وزير الدفاع الحاصل على تأييد كبار الضباط، فقد أطلق ما يسمى"بعقيدة ايفانوف". وخلاصتها ان روسيا لا تقبل بحصر دول"محور الشر"بالعراق وايران وكوريا الشمالية، وانما هي تتحفظ على هذا التشخيص وترشح دول البلقان والصومال وجورجيا والشيشان وشمالي القوقاز. ويبدو انه استغل مجزرة مدرسة بيسلان كي يطور عقيدته الى مستوى المشاركة مع الولاياتالمتحدة في تنفيذ الضربات الوقائية. وحجته ان التمرد الشيشاني لم يعد محصوراً بالشيشان، وانما ربط موقفه ب"طالبان"و"القاعدة"و"الحركات الاسلامية"في دول آسيا الوسطى. لهذا السبب وسواه قررت موسكو توجيه ضربات موجعة الى مواقع خطرة أهمها: 1 ممر بنكيسي الواقع على الحدود الجورجية - الشيشانية. 2 الحدود الافغانية - الطاجيكية التي يستخدمها الارهابيون للعبور الى آسيا الوسطى. 3 الحدود الأفغانية - الباكستانية حيث توجد قواعد لتنظيم"القاعدة". ومعنى هذا ان روسيا خرجت عن حيادها وانضمت الى الولاياتالمتحدة في محاربة"الحركات الاصولية"بعدما اعتبرت مجزرة بيسلان - التي وقعت مطلع شهر ايلول ايضاً - جريمة جماعية لا تقل خطراً وأذى عن جريمة 11 ايلول. كذلك اعتمدت اسلوب الإغراء المادي الذي تستخدمه واشنطن للحصول على معلومات عن اعدائها. فإذا بها تعلن عن مكافأة سخية مقدارها عشرة ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات عن مكان وجود الزعيم الشيشاني الانفصالي اصلان مسخادوف والقائد العسكري شامل باساييف. وواضح من لهجة التصريح الغاضب الذي انتقد فيه الرئيس بوتين كلام الناطق الرسمي باسم الخارجية الاميركية ريتشارد باوتشر، انه غير مرتاح لردود فعل رجال البيت الأبيض والاعلام الغربي. ذلك ان الاعتراضات انصبت عليه محملة موقفه المتصلب مسؤولية مجزرة مدرسة بيسلان. وقالت غالبية تعليقات الصحف الغربية ان سياسة رفض التفاوض والحوار قادت الى مجازر متكررة بينها مجزرة مسرح"دوبروفكا"في موسكو، ومجزرة مدرسة بيسلان. ثم تراجعت هذه الحملة أمام المنطق الذي طرحه في مؤتمره الصحافي عندما عاب على واشنطن تمنعها عن محاورة اسامة بن لادن والتفاوض مع زعماء"القاعدة". فريق كبير داخل الادارة الاميركية يصر على التمييز بين ارهاب"القاعدة"الذي يضرب بخطره كل الدول تقريباً، وبين"ارهاب"المقاومة الشيشانية التي تحصر قتالها داخل الحدود. وفي كل مناسبة يذكّر شامل باساييف الروس بأن حربه تشبه حربهم ضد الاحتلال النازي. لذلك فهو يطالب موسكو بأن تنفذ وعدها بمنح بلاده استقلالها الذاتي ضمن روسيا الفيديرالية. وكان ذلك في سنة 1999 بعدما سقط من الثوار والمدنيين 70 ألف قتيل ومن القوات الروسية عشرة آلاف جندي. يرجع المؤرخون نزاع روسيا والشيشان الى سنة 1830 عندما اجتاحت قوات القيصر حدود جارتها الصغيرة لكي تحمي سيادتها من تمدد الامبراطورية العثمانية. وبعد نزاع طويل استمر حتى سنة 1859 نجحت الامبراطورية الروسية في ضم الشيشان اليها بقوة السلاح. ولكن الاحتلال الطويل لم يسمح بانصهار الشعبين بدليل ان أهل الشيشان تعاطفوا مع النازيين أثناء غزو ستالينغراد. ولقد عاقبهم ستالين على هذا الغدر وأمر سنة 1944 بتهجير نصف مليون مواطن الى كازاخستان عملاً"بسياسة الترويس". ولم يلبث خروتشيف ان أمر بعودة من يرغب منهم مناقضاً بذلك قرار ستالين. وفي ضوء الموقف المستجد الذي وقفته روسيا من موضوع"الشيشان"واعتباره جزءاً من حركة الأصولية الاسلامية، فإن مؤشرات المرحلة المقبلة لا تبشر بأي انفراج دولي. بل ان هذا الموقف سيوغل في مفاقمة الأزمة السياسية الشاملة عندما يضع تنافس القوى الاقليمية في عهدة القوى العظمى. والمؤكد ان عمليات خطف الرعايا الفرنسيين والايطاليين والاسبان ستزيد من حدة الانقسام حول مواضيع مختلفة، بدءاً بفلسطين، مروراً بالعراق، وانتهاء بالشيشان. والمؤسف ان الأخطاء والسلبيات التي ترتكب في هذا المجال، تجعل من نظرية"صدام الحضارات"محاولة قابلة للتطبيق والممارسة، لأن القوى الخفية التي تحرض على افتعال المجازر يهمها أن يبقى العرب والمسلمون في صفوف الشعوب المعزولة المفتقرة الى صداقة الدول وتأييدها. * كاتب وصحافي لبناني.