القادة الذين يعانون من انعدام الأمن، مثل ارييل شارون في إسرائيل وفلاديمير بوتين في روسيا، لا يمكن أن يتحملوا أي تهديد لسلطتهم. إن رد فعلهم، فيما يجابهون أي تهديد هو البطش بلا هوادة، ولكن هذا التصرف في المدى البعيد لا يمكن أن يؤدي إلا إلى هلاكهم. لا بد أن شارون قد بات يعرف الآن أن ولايته كانت كارثة على شعبه: إذ لم يذق الإسرائيليون طعم الأمن، ولا عانوا من الشظف الاقتصادي أكثر مما هم عليه اليوم. كما لم يكن الشرق الأوسط العربي أكثر ممانعة في قبولهم، ولم تتدنَ سمعة بلادهم في العالم كما تتدنى الآن. إن محاولة شارون لتدمير حركة التحرر الوطني الفلسطيني بالقوة والبطش هي السرطان الذي يعاني منه المجتمع الإسرائيلي اليوم. ولا يقل موقف بوتين هشاشة: فعلى رغم أنه حقق لروسيا شيئاً من الازدهار في السنتين المنصرمتين، فإن نظامه ازداد سلطوية وتفرداً، وعادت الحرب الوحشية التي يخوضها ضد الشيشان إلى عاصمته، تحمل له الكوابيس، كما ظهر بوضوح في الأسبوع الماضي بعد المجزرة الدموية في مسرح موسكو. والأمر الملفت أن لا شارون ولا بوتين توصل بعد إلى الإقرار بأنه لا يوجد حل عسكري للحروب التي يخوضانها، انهما "يعيشان بحد السيف ويواجهان خطر الموت بحد السيف" كما يقول المثل. وسيفهمان، في نهاية المطاف، أو سيفهم خلفاؤهما، ان التسوية إما أن تكون سياسية أو لا تكون. هناك تشابه صارخ بين موقف الاثنين: لقد وصف أحد الشهود الأساليب الروسية في اصطياد المجاهدين الشيشان، قال: "قبل البدء بعملية التطهير، تُحاصر القرية المستهدفة بالدبابات والمصفحات والشاحنات العسكرية - ويمكن لمثل هذه العمليات أن تحدث في أي ساعة من النهار أو الليل - ثم يُقبض على المواطنين من دون تمييز، ويخضعون للتعذيب للحصول على ما بحوزتهم من معلومات "مفيدة"، ثم تستخدم الأسلحة الثقيلة ضد المناطق السكنية مع ما تسببه من خسائر فادحة في الأرواح البريئة، ثم ينفذ حكم الإعدام في المشتبه بهم، أو يُجرّون إلى المعتقلات الوحشية، ثم تدمر المنازل على رؤوس أصحابها ولا أثر للمواد الغذائية أو الأدوية في أي مكان، ويستمر ترويع السكان على هذه الشاكلة المرة تلو المرة...". أليس هذا وصفاً دقيقاً وصورة طبق الأصل لما يجري في المدن والقرى الفلسطينية؟ وكما يرفض بوتين التفاوض مع أصلان مسخادوف الرئيس المنتخب للشعب الشيشاني، فكذلك يرفض شارون ان يتفاوض مع ياسر عرفات الرئيس المنتخب للشعب الفلسطيني، كلاهما يحلمان بالعثور على "زعيم عميل" يقبل شروطهما، على رغم أن المراقبين السياسيين المستقلين مجمعون على أنه لا يمكن التوصل إلى أية تسوية من دون "اللاعبين الرئيسيين". فقد دان كل من مسخادوف وعرفات، المرة تلو الاخرى، الهجمات الإرهابية ضد المدنيين، وأعلنا عن استعدادهما للبدء بالتفاوض من دون شروط مسبقة، ولكن ما زال الاتهام مسلطاً فوق الاثنين بأنهما مسؤولان عن كل عمل إرهابي ارتكب في أي مكان. وفي تشابه صارخ آخر، يربط بوتين بين هجمات الشيشان و"الإرهاب الإسلامي الدولي" بالطريقة ذاتها التي يربط بها شارون حربه ضد الفلسطينيين بالحرب على الإرهاب الدولي. كلاهما، بوتين وشارون، يُطالب بأن يتعامل المجتمع الدولي مع جرائمه بشيء من "التسامح" باعتبار أن ما يفعلانه هو جزء من "حرب الولاياتالمتحدة على الإرهاب". وكلاهما يسعى الى الحصول على شراكة استراتيجية مع الولاياتالمتحدة، وإسرائيل متقدمة على روسيا في هذا المضمار بسبب وجود جيش من المناصرين لهما في قلب حلقة اتخاذ القرار الأميركي. وهناك قاسم مشترك آخر بين الاثنين: فلقد استخدمت القوات الخاصة الروسية غازاً غريباً غير معروف، للتغلب على محتجزي الرهائن في مجزرة مسرح موسكو، وقد تسبب هذا الغاز بمقتل ما لا يقل عن مئة رهينة. وحاول الأطباء، من دون طائل، الحصول على معلومات عن طبيعة هذا الغاز ليتمكنوا من معالجة الضحايا بشكل فاعل. أفلا يذكرنا هذا بما فعلته الموساد سابقاً، حين استخدمت غازاً مجهولاً وغير معروف في محاولة اغتيال خالد مشعل احد قادة "حماس" في عمّان، مرغمة الراحل الملك حسين على أن يتلمس من إسرائيل أن تزوده الترياق الذي أنقذ حياة خالد مشعل؟ ينبغي على المجتمع الدولي - في محاولة جادة لوضع حد للعنف المتصاعد الذي يوقع المزيد من الضحايا الجدد يوماً بعد يوم - أن يضع قضيتي الشيشان وفلسطين في رأس اهتماماته السياسية، ولكن مثل هذه النزاعات الاقليمية الحادة لا يمكن حلها إلا سياسياً، ويبدو أنه لا بد من سفك المزيد من الدم البريء قبل أن يتحقق هذا الأمر. إن الهجوم الإرهابي الشيشاني، للأسف الشديد، رفع من شكيمة الصقور في الجيش الروسي والمجتمع الروسي، تماماً كما كانت العمليات الاستشهادية الفلسطينية قد دفعت بأعداد كبيرة من الإسرائيليين إلى الالتفاف حول شارون وأساليبه القمعية الوحشية. دروب روسيا الاستعمارية ضد الشيشان يبدو أن القادة الغربيين، من أمثال الرئيس جورج بوش ورئيس وزراء بريطانيا توني بلير، في اسراعهم إلى تهنئة بوتين على "النهاية الدموية" لحصار مسرح موسكو، قد نسوا أو تناسوا أن روسيا كانت ضالعة في قتل الشيشان منذ أكثر من مئتي عام، مما دفع بهؤلاء إلى مقاومة الاذعان والخضوع مقاومة بطولية، غير متورعين عن ارتكاب بعض "الأعمال الإرهابية". لقد اذعنت بلاد الشيشان، منذ أوائل القرن التاسع عشر، للامبراطورية الروسية، بعد عشرات الحروب في شمال القوقاز. وكان قائد الحملات الأولى ضد الشيشان هو الجنرال الكسي يرمولوف 1819-1820 الذي يعتبره الروس "بطلاً قومياً"، في حين يعتبره الشيشان "جزاراً متعطشاً للدماء". لقد أحرق يرمولوف قرى الشيشان وقتل أئمتهم، وكان ينسب إليه قوله: "انني ارغب في أن يبث اسمي الرعب، وأن يحمي هذا الرعب الحدود بكفاءة أشد من القلاع". وحينما تداعى الاتحاد السوفياتي قام الشيشان بتحطيم تمثاله ورميه في قاع النهر. انتشر الإسلام في بلاد الشيشان في القرن الثامن عشر، حيث انضم معظم الشيشان إلى الفرق الصوفية مثل النقشبندية والقادرية، ولكن حرب يرمولوف الدموية دفعت بالشيشان إلى مقاومة العدوان عليهم تحت راية الإسلام. وكان يقود الشيشان خلال ال25 سنة الأخيرة القائد الفذ إمام شميل الذي جعلته منه مقاومته الاسطورية ضد الروس بطلاً مشهوداً له بالشجاعة على امتداد أوروبا. وكان كارل ماركس يُطلق عليه اسم "الوطني الكبير"، لكنه ارغم على أن يستسلم عام 1859، وارسل إلى بطرسبورع حيث كرس ك"بطل قومي" في عصر كانت تحترم فيه الشجاعة حتى من جانب الأعداء. وحين اكتشف النفط في غروزني، عاصمة الشيشان، عام 1891 تضاعفت رغبة الروس في السيطرة على هذا الاقليم "المتمرد"، ولا تزال روسيا حتى اليوم حريصة على أن تتحكم بآبار النفط في القوقاز وبأنابيب النفط التي تمتد من بحر قزوين، ولعل هذا النفط بالذات، هو بلا أدنى ريب، السبب الرئيسي في الحروب الروسية - الشيشانية. ولكن القرن العشرين هو الذي حمل أكبر قدر من الآلام والمآسي التي لا يمكن تصورها إلى بلاد الشيشان. فخلال سنوات الحكم السوفياتي حصل تدمير منظم للمجتمع الشيشاني وحُرمت تقاليده "الرجعية" وصفيّ أكثر قادته وأئمته من علماء المسلمين، ولم يُسمح بافتتاح مسجد في بلاد الشيشان إلا في العام 1978، وحينما قاوم الشيشان محاولات ستالين لفرض التعاونيات الزراعية، جُمع 14000 شيشاني في تموز يوليو 1937، ونفذ فيهم حكم الإعدام رمياً بالرصاص، ثم قبروا جميعاً في مقبرة جماعية ضخمة. وخلال الحرب العالمية الثانية وجد بعض الشيشان في قوات الاحتلال الألماني درعاً لحمايتهم. وتداعوا إلى الانخراط في الجيش الألماني، ولكن حين انسحب الألمان من القوقاز قام ستالين ب "معاقبة الخونة" شر عقاب، وأمر كل سكان بلاد الشيشان - ويقدر عددهم بنصف مليون نسمة - بمغادرة موطنهم ونفاهم إلى صحارى كازخستان. كُدس الآلاف من الرجال والنساء والأطفال في قطارات لا مراحيض فيها ولا مياه غسيل، وكان كل من يحاول أن يبتعد خمسة أمتار عن القطار يُقتل فوراً، وقد مات الآلاف في هذه الرحلة المشؤومة التي استغرقت ثلاثة اسابيع. وتؤكد التقارير الرسمية ان ما لا يقل عن 100 ألف شيشاني قضى في المنفى مرضاً أو جوعاً، في السنتين الأوليين، ولم يلغ النفي إلا بعد 13 عاماً حين استلم خروتشوف دفة الحكم، اذ سمح لهم بالعودة الى وطنهم وحياتهم، ولكن النفي ترك ندوباً لا تنسى. هذا هو جزء من الخلفية المأسوية التي قادت الى الحربين الجديدتين اللتين تشنهما روسيا ضد الشيشان الآن: الحرب الأولى شنها بوريس يلتسن الذي ارسل جيشاً كبيراً مؤلفاً من 40 ألف جندي، وتمكن من تدمير غروزني، عاصمة الشيشان بعد ثلاثة شهور من القتال، بين كانون الأول ديسمبر 1994 وآذار مارس 1995، وتحويلها الى انقاض، كما تمكن من قتل قائد الشيشان جوهر دودايف، وهو ضابط سابق في سلاح الجو الروسي بصاروخ روسي في نيسان ابريل 1996 وقتل معه ما لا يقل عن 27 ألف مقاتل شيشاني. ثم نجح خليفة دودايف المدعو شامل باساييف في استعادة غروزني وارغام القوات الروسية على عقد اتفاق سلام في ايار مايو 1997، ثم قام يلتسن وبوتين معاً بشن حرب جديدة في الشيشان لرفع شعبيتهما المنهارة، ومن المؤكد ان هذه الحرب قد ساعدت يلتسن على اعادة انتخابه رئيساً لعام 1996. كما انها ساعدت بوتين على الصعود الى قمة الهرم الحاكم. لقد أعلن بوتين، في الوقت الذي يدفن الروس موتاهم بعد مجزرة "تحرير الرهائن"، عن اتخاذ قرارات سياسية قاسية جديدة ضد الشيشان، كما أعلن عن رفضه القاطع لاستئناف المفاوضات، وكشف ان "الحرب ضد الارهابيين لا بد ان تستمر اكثر قوة وشمولية". وقد يفيد أن نذكر بأن هذا المنطق هو منطق شارون ايضاً. في استمراره ومتابعته لتدمير المجتمع الفلسطيني، بمباركة حليفته الولاياتالمتحدة. وكما جاء في تعليق للصحيفة الفرنسية "لوموند": "إذا كان صدام حسين مذنباً بارتكاب جرائم حرب ضد الانسانية، في تعامله مع الأكراد، فإن فلادمير بوتين هو الآخر مذنب في تعامله مع الشيشان، وكذلك شارون في معاملته للفلسطينيين". * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الاوسط.