ما لقي حقل أو اختصاص ما لقيه "فن التاريخ" من اهتمام لدى العرب قديماً وحديثاً، ومع ذلك ما لقي اختصاص ما لقيه من استسهالٍ أو استخفاف. اذ كل أحد تقريباً وهو نفسه مؤهلاً للكتابة فيه او ممارسته. وغني عن البيان هنا ان كلمة "تاريخ" ليست عربية الأصل، وقد استخدمت أول ما استخدمت أيام عمر بن الخطاب في بدء التأريخ بالهجرة النبوية لتنظيم معاملات الدولة، ومراسلاتها مع الخارج، وتسجيل تجارات الناس وتعاملاتهم وعقودهم الأخرى. أما الموضوعات المتعارف عليها للتاريخ في الماضي واليوم فكان يُطلق عليها قصص الأقدمين. وفي القرنين الثاني والثالث للهجرة / الثامن والتاسع للميلاد ظهرت أجزاء ومصنّفات تحت اسم "التاريخ" تتضمن أسماء رواة الحديث، وتواريخ وفياتهم فقط. وتطورت تلك الكتب أواخر القرن الثالث الى ذكر سائر أحوال الرواة، لاستخدامها في مسائل الحرج والتعديل، لكن تلك المؤلفات ما لبثت ان سمّيت أيضاً "طبقات". لكن في القرن الثالث أيضاً بدأ ظهور أجزاء في التأريخ للعرب والأمم الأخرى، وفي وقائع الفتوحات وتاريخ الإسلام الاول، ليس تحت اسم "الأخبار" و"القصص" فقط" بل وتحت اسم التاريخ، ويقال بحسب عالم السريانيات بروك ان هذا العنوان ظهر ويظهر في الكتب السريانية في تواريخ الأمم منذ القرن السابع الميلادي. وكما كان مفرد "التاريخ" مشتركاً بين وفيات الرواة والحوادث في القرن الثالث، الى ان انفرد بذلك منذ القرن الرابع الهجري" فإن الأخبار والتاريخ تداولا على عناوين الكتب حتى القرن الخامس، ثم سيطر مصطلح "التاريخ" بمفرده أيضاً باستثناء بعض النوادر. وقد قلنا في البداية ان هذا الاهتمام بالحديث عن ماضي الأمة وحاضرها ومستقبلها وفي المقدمة النخبة العالمة بدأ منذ القرن الاول الهجري تقريباً، لكن حتى القرن التاسع الهجري كان هناك أناس يكتبون في تسويغ الكتابة التاريخية" في الوقت الذي كان فيه ذلك الجنس الأدبي ينازع وينافس الفقه في كثرة الكتابة فيه وأحسب ان العلّة في ذلك مقصورة على رجال الحديث والرواية والوعي المتخصص الذين كانوا يملكونه، بحيث لم يروا أهمية استثنائية إلا لنقلة العلم وحَمَلَته، أي للتاريخ القدسي أو شبه القدسي. بيد ان كبار المؤرخين منذ خليفة بن خياط والدينوري والطبري والمسعودي وحمزة الأصفهاني والى ابن الأثير وابن كثير وابن خلدون والمقريزي، كانوا يملكون وعياً مهدوياً ايضاً، ويعتبرون ان تدوين تلك الوقائع إنما هو تأكيد على رسالة الأمة المهدية وعملها في التاريخ بتسديد من الله وعهد منه "ليُظهره على الدين كله". فالرؤية التي تظهر في القرآن، وفي الشعارات أيام الفتوحات، تذهب الى ان هناك خطين للعمل الإلهي في التاريخ: خط الأنبياء، وخطّ الأمم والملوك. وقد التقى هذان الخطان لفترة لدى بني اسرائيل ثم عاد للافتراق، ليحدث اللقاء الدائم والباقي في نبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ومُلكه ومُلك أمته. وذلك واضح من مقدمة تاريخ الطبري، وسائر الكتب التي تلته بالتاريخ العالمي، أو بتواريخ الأمم القديمة. وقد كان المنتظر وسط سيطرة فكرة التاريخ هذه ان لا تكثر التواريخ على السنين، وأن يسود أسلوب كتابة "السيرة النبوية" أخبار بدون أسانيد ورواة بالتفصيل. لكن يبدو ان سيطرة رواة الحديث على الكتابة التاريخية الأولى غلّب الأسلوب الذي لا يخدم النهج المهدوي، وكان ذلك في الحقيقة لصالح الكتابة التاريخية، التي تحررت في ما بعد على الأسانيد ايضاً. نعرضُ في صفحة "تراث" لهذا الأسبوع قراءات لمناهج العرب المعاصرين في الكتابة التاريخية، والوعي التاريخي. وهو موضوع من الأهمية بحيث يستدعي متابعات حول فكرة التاريخ لدى العرب القدامى، وتأثيراتها في الكتابة التاريخية.