في الثامن والعشرين من شهر آب أغسطس، قبل أربعة وثمانين عاماً، ولد الأديب الفلسطيني جبرا ابراهيم جبرا، الذي رحل عن عالمنا قبل عشر سنوات. ومع أن كلمة "أديب" تحيل، تقليدياً، على مفرد صنعته العمل في اللغة، فقد شاء جبرا ان يكون أديباً بصيغة الجمع، أو أن يكون جمعاً من الأدباء في شخصية مفردة. لهذا استهل حياته، ولم يبلغ الثلاثين بعد، بكتابة الرواية والترجمة ومزاولة الرسم، ووضع في الاستهلال المبكر مشروعاً ثقافياً، زامله بإخلاص حتى اللحظة الأخيرة. بدأ جبرا روائياً في عمل عنوانه: "صراخ في ليل طويل"، كتبه قبل الخروج من فلسطين بعامين، رأى فيه الراحل المصري علي الراعي عملاً حداثياً سابقاً لغيره، أعقبته روايات أشهرها "البحث عن وليد مسعود"، وأجملها "السفينة"، وهي من عنوان الرواية العربية. وبدأ الروائي، الذي ولد في بيت لحم، رساماً وأصبح، بعد هجرته الى بغداد، الناقد الأشهر في الحركة التشكيلية العراقية، واستمر في الرسم والنقد كما أراد. وبدأ الرسام مترجماً، قبل الهجرة، فترجم "الغصن الذهبي" لجيمس فريزر، ووصل لاحقاً الى شكسبير وبيكيت وفوكنر وأوسكار وايلد وإيليوت، وظفر بجائزة جامعة كولومبيا عن ترجماته الإبداعية، قبل موته بثلاث سنوات، وبدأ المترجم قاصاً ونشر مجموعته الأولى: "عرق وقصص أخرى"، بعد الهجرة بثماني سنوات. ولم يفته الشعر فنشر في الخمسينات "تموز في لمدينة"، وكتب في النقد الأدبي والفني كتباً كثيرة، أشهرها "ينابيع الرؤيا"... ولعل تأمل الأسلوب الذي كتب به مقالات نقدية مبكرة، بعد وصوله مباشرة الى بغداد، يكشف عن ألق غير مألوف، تترافد فيه ثقافة واسعة ولغة فردية وذلك البعد الغامض، الذي يفصل المبدع عن غيره، ويهبه مساحة لا يُشرك فيها غيره ولا يتطلع الغير الى احتلال جزء منها. وربما يكون جبرا قد لامس بعده الغامض في سيرته الذاتية "البئر الأولى"، إذ الطفل، الذي كانه، مزيج من الفقر والفرح والتفوق والبراءة، ومزيج من وميض الروح وعبق الأراضي المقدسة. في تعدديته الثقافية كان جبرا، الذي ذهب الى جامعة كامبردج عام 1942، مثقفاً شاملاً، وكان في شموله الثقافي تعبيراً عن "ثقافة نوعية"، تنشر لواءها نخبة ثنائية ممتازة، ترى الى المستقبل بتفاؤل كبير، وترى الى "جمهور" بعيد عنها سيدرك، بعد حين، معنى الثقافة والنخبة الثقافية. رأى جبرا الثقافة في أعمال المبدعين المختلفين الذين يخلقون الثقافة، أو في ذلك الإبداع الكبير المتنوع، الذي يعرّف الثقافة وتتعرّف الأخيرة به. فلا وجود للشعر في ذاته لأن الشاعر الحقيقي هو الشعر، ولا وجود للرواية إلا في الروائي الذي يذيع جوهر الرواية الصافي، ولا نقد إلا بناقد لا يطاوله غيره، يرى النقد فيه مجلاه وآيته المبدعة. في هذا التصور، الذي نظر له مبكراً في مجلة "حوار"، وقع جبرا على قران غير مألوف، يكون المثقف فيه بطلاً نوعياً، وتكون البطولة الثقافية بطولة شامخة فوق غيرها. تتعيّن البطولة المغايرة بتفوق مَنّ يعرف على من لا يعرف، وبحق الأول في قيادة الثاني وفي واجب الثاني في الانصياع الى الأول والانجرار وراءه. غير ان جبرا، الذي يحتفي بالفرح ويرفض الاستعلاء، يربط العلاقات جميعاً بفكرة: "الإنسان الكامل"، الذي يأخذ بمفردات المحبة والتسامح والتعليم، ويعرض عن التعيينات الاجتماعية والفوارق الطبقية. اتكاء على فكرة البطولة الثقافية، التي تضع في الثقافة الراقية نصراً أكيداً، قرأ جبرا انتصار العرب القدماء في انتصار ثقافتهم على غيرها، وهزيمة العرب المحدثين في فقر ثقافتهم التي دحرتها ثقافات حديثة. وهذا ما جعله يرى في "التجربة الفلسطينية" امتحاناً ثقافياً، ويضيف الى الامتحان عبق الأراضي المقدسة، الذي ينصر، لزوماً، الفلسطينيين، الذين سينصرون ثقافتهم العربية. تصبح "التجربة الفلسطينية"، بهذا لمعنى، تجربة ثقافية ثنائية البعد: فعلى الفلسطينيين، الذين ينتظرهم الانتصار، أن يتطلعوا الى الكمال الثقافي، وعلى الفلسطينيين، الذين يحرر تحررهم الثقافي أرضهم السليبة، أن يحررّوا، ثقافياً، الأمة العربية. هكذا تبدو الثقافة مبتدأ ومنتهى، في مفارقة جميلة مؤسية، تساوي بين الشعب الفلسطيني كله وولده النجيب جبرا، وتساوي بين الأمة العربية كلها والشعب الفلسطيني. شيء قريب من زواج متخيّل بين الحلم والكابوس، ففي رحم الحلم جنين ليس منه. وفي رحم الكابوس أجنة حالمة. وفي الحالين، كان جبرا رومانسياً وجامحاً في رومانسيته، وثورياً غريباً يوزّع المبدع والقراء على زمنين لا يلتقيان، ويؤمن بانتصار قادم يوحد الطرفين. وإذا كان في رومانسيته الجامحة يشتق تحرير فلسطين من "قصيدة الرؤيا"، التي ترى الى روح ملتهبة ولا تلبيها اللغة، فقد كان في ثوريته المتطهرة يطرد السياسة خارجاً ويستبقي الثقافة، كما لو كانت الثقافة تجاوزاً كلياً للسياسة. في كتاباته المبكرة، وفي شكل أقل في كتابات لاحقة، اشتق قسطنطين زريق معنى "القومي العربي" من جملة القيم الأخلاقية الراقية التي تقرّب بين "القومي المفترض" والإنسان الكامل، وهو ما يقرّر الجذور التاريخية للقومية أمراً نافلاً. قام جبرا، الذي لم يقرأ بالضرورة زريق الشاب، باشتقاق الفلسطيني المنشود من فضاء القيم الناصعة، من دون أن يلتفت، وهو المأخوذ بجمالية الإرادة، الى امكانات التاريخ الفلسطيني ولا الى امكانات الخصم الذي يقاتله. وقد يبدو سعيه الغريب مثقلاً ببراءة فادحة، من دون أن يكون فعلياً على ما يبدو عليه، ذلك أن جبرا كان مسكوناً بفكرتين أساسيتين، لا يستقيم "أدب المضطهدين" إلا بهما أولهما: فكرة "السوبر مان"، أو الإنسان الأعلى، الذي تسيطر عليه رغبة فاتنة تسيطر على ارادته، ويسيطر على اللحظة كي يسيطر على مستقبل ينتهي الى فلسطين التي لم يغادرها، لأنها قائمة في ثقافته ورغباته وارادته، وقائمة في العناصر التي خلقته انساناً يختلف عن غيره. وفكرة الإنسان الأعلى هي التي فرضت "الصخر" مجازاً في روايته "السفينة"، إذ طبيعة الفلسطيني من طبيعة صخور بلاده المقدسة، بينهما صلابة مشتركة، وبينهما ما يوهن الزمنَ ولا يوهنه الزمنُ. بعد "الصخر العظيم" تأتي الفكرة الثانية عن "جمالية الحق" التي تضمن انتصار "الصخر العظيم". فالحق منتصر لأنه حق، وصاحب الحق منتصر لأنه جزء من الحق، وفي الحق وصاحبه ما يحيل على "مهد المسيح"، الذي نصر الخير ونصره الخير منذ زمن طويل. اقترح جبرا، على طريقته، صيغة ل"أدب المضطهدين"، ونثر الأمل على "هؤلاء الذين لا أمل لهم"، قائلاً بجمالية الإرادة والصخر والمعرفة، مبتعداً كلياً عن إميل حبيبي، الذي استنكر ظلم التاريخ وردّ عليه بسخرية واسعة تقارب العبث. ابتعد جبرا عن "إميل"، ولم يلتقِ مع غسان كنفاني، فالأخير آمن ب"روح الجماهير" والأول آمن ب"روح الثقافة". انشد الروائيان الى "عالم الأرواح" وبحثا بشغف عن مفتاح ذهبي لصندوق مفقود، رأى أحدهما السياسة في كل مكان، وواجه الثاني "سياسة العوام" ب"ثقافة الخاصة"، التي تثق بمستقبل يختزل الحاضر المهزوم الى زمن طارئ يستعد للرحيل. يولد "الإنسان الأعلى" حراً ويأخذ بيد "الإنسان الأدنى" الى درب الخلاص. وبرهان ذلك أن بطل جبرا في روايته الأولى: "صراخ في ليل طويل" ولد حراً وأحرق ما لا يستحق الحياة. وارتحل البطل الكامل، الذي لا يتغير، الى بغداد وحررّها من أسار العادة والانغلاق، وبقي في "السفينة" خارج عسف الضرورة التي ضربت غيره، الى أن تجسّد في "وليد مسعود" واحتفى، ذلك أن الإنسان - الأصل يحتفي ولا يموت، يولد منتصراً ويعود منتصراً. ولعل الإنسان - الأصل، الذي يُذكر بالشاعر - الأصل عند أدونيس، هو الذي يلزم الفلسطيني - الرسول بأن يعتصم بخوافيه الذهبية ولا يلتفت الى ما عداه، طالما أن في جوهره ما يهزم غيره. لا غرابة، والحالة هذه، أن يظهر الإسرائيلي في رواية جبرا كشرّ عارض، يتكشّف في منازل مهدومة تبنى مرة أخرى، وفي أطياف شهيد فلسطيني، من الصخر جاء والى الصخر ذهب. تمسك جبرا ب"رؤيا" صحيحة مسكونة بالمفارقة: يتراءى الصحيح في أولوية الثقافة على السياسة، فالأخيرة بلا ثقافة ادارة تقليدية ترى الى المفيد اليومي ولا تعترف بالصحيح الذي يستمر في كل العصور. أما المفارقة فتعلن عن ذاتها في مثقف الإنسان - الكامل، الذي يُضاف الى شعبه قبل أن ينبثق منه، الأمر الذي يجعل من المثقف نبياً جديداً في زمن حديث أغلق صفحة الأنبياء. لهذا يستطيع جبرا أن يتحدث عن الثقافة طويلاً، ولا يستطيع الحديث عن الوسائل التي تنشر الثقافة وتستولد المثقفين، طالما ان في "التوزيع الثقافي المجتمعي" ما يستدعي أمراً لا يقبل به "المثقف المتعدد"، أي: السياسة. على رغم أسئلة كثيرة عن المثقف - الرسول وعن "الدور الثقافي التاريخي للشعب الفلسطيني"، يظل جبرا ابراهيم جبرا حالاً ثقافية فلسطينية غريبة، ان لم يكن، ربما، الحال الأكثر فرادة وتنوعاً، من "زمن النكبة" حتى اليوم. وهذا ما يجعله جديراً بتكريم واسع، يتجاوز اليوم الضيق الذي قرره الفلسطينيون له في الثامن والعشرين من شهر آب الفائت، حيث الذين لا يزالون ينتسبون اليه، يقتفون مدارج طفولته في "بيت لحم"، التي كتب عنها بعذوبة غامرة في سيرته الذاتية: "البئر الأولى"، التي لم يجف ماؤها حتى الآن.