وقعت المقالة التي نشرتها "الحياة" في 18 تموز/ يوليو تحت عنوان "كنديو كيبيك: حرب متواصلة بين المصلحة والكرامة"، لحازم صاغية، في خطأ منهجي كبير دفعها الى تبسيط الواقع السياسي الكيبيكي، والإشكالية الكيبيكية الكندية، باللجوء الى عبارات وكليشيهات وضع بعضها بين مزدوجات، قد يصلح استخدامها وتكون مفيدة اكثر في احوال اخرى. ما يمكن قوله هو ان هذه المقالة مبنية، في الغالب، على انطباعات فردية قد يخرج بها اي زائر او سائح يتمشى في احياء مونتريال، ومنها شارع "القديسة كاترين" الذي يعد اطول شارع تجاري في كندا. ومن المؤكد ايضاً ان هذه المقالة قد طُعّمت ب"معلومات" يتندر بها سكان المدينة من الجاليات المهاجرة، اللبنانية منها والعربية، شبيهة بما كانوا يتندرون به عندما كانوا في بلادهم الأصلية، وكأن الإقامة المطولة في مكان ما تسمح لهم بالجزم في امور ليس لهم اي اطلاع جدي عليها. وتذكرني هذه المسألة بما كتبه صاحب احدى المطبوعات، باللغة العربية، بمونتريال، متعجباً، من احتفال الكيبيكيين بعيد "الدولار"، من دون ان يدري ان المناسبة ترمز الى شخص لعب دوراً مهماً في تاريخ المدينة، في منتصف القرن السادس عشر، يدعى Dollard les Ormeaux، لا الى عملة معدنية او ورقية! وهذا العيد يقع في اليوم الذي تحتفل بقية المقاطعات بعيد الملكة فيكتوريا ويصادف في 24 ايار مايو من كل سنة. وما تحاول ان تقوم به كيبيك، احد الأطراف الأربعة التي اوجدت الكونفدرالية الكندية، هو المحافظة على ثقافة متميزة ناطقة بالفرنسية نشأت في القسم الشمالي من القارة الأميركية، تختلف عن الثقافة الكندية والأميركية والفرنسية، ولكنها جزء فاعل ومتفاعل مع الحضارة الغربية والثقافات الأخرى. وهذه الثقافة، خلافاً لما هو شائع، لم يعد بينها وبين مثيلتها الفرنسية اي رباط روحي، على رغم جذور الأكثرية الفرنكوفونية حوالى 82 في المئة من سكان المقاطعة، وعلى رغم العلاقات المميزة التي تجمع بين كيبيك وباريس. وهناك جدل بين الباحثين الكيبيكيين حول هوية كيبيك: هل هي فرنسية ام اوروبية ام اميركية؟ وتتفق الغالبية منهم على ان الكيبيكيين هم اميركيون، ولكنهم ليسوا "يانكيين"، قاموا بالبناء على إرثهم الأوروبي الفرنسي اولاً ثم البريطاني. والقضية التي تشغل كيبيك، حكومة وشعباً، هي كيفية الحفاظ على ثقافتهم ولغتهم في عالم تتوسع اللغة الإنكليزية، والثقافة الأميركية، على حساب اللغات والثقافات العالمية. ومسألة حساسة كهذه لا تشغل الدول العربية حيث يتباهى كثيرون، الى اية فئة او طبقة اجتماعية انتموا بمسخ لغتهم الأم، والتغرغر بعبارات اجنبية من باب التبجح، لا كدليل على الثقافة والانفتاح على العالم. وهذه القضية فرضت نفسها بقوة بعد ثورة 1836 - 1837 ضد الحكم البريطاني، وكان لها توجهات جمهورية اي اميركية في ذلك الوقت. واعتبر اللورد دورام Durham في تقرير عرف باسمه، ورفع الى السلطات في لندن، ان عامل الوقت كفيل بالقضاء على الظاهرة "الفرنسية" في كيبيك سميت كندا السفلى. لهذا السبب دمجت هذه الأخيرة بأونتاريو التي كان يطلق عليها اسم كندا العليا .... وبما ان اللغة صارت المعبّر الرئيس عن الانتماء والهوية، قامت الحكومة الكيبيكية بسن قوانين لحماية اللغة الفرنسية من افتراس نظيرتها الإنكليزية في اطار ما يسمى "ميثاق اللغة الفرنسية" الذي اقرته الجمعية الوطنية البرلمان لكيبيك في سنة 1977: الفرنسية هي اللغة الرسمية في كيبيك، تغلّب الفرنسية من حيث حجم كلماتها على الإنكليزية وكذلك اللغات الإثنية الأخرى في واجهة المحلات والإعلانات التجارية، تقدّم الخدمات الرسمية بالفرنسية مع إمكان استعمال الإنكليزية حيث تقتضي الحاجة، ترسل العائلات المهاجرة التي تقطن كيبيك اولادها الى المدارس الفرنكوفونية مع بعض الاستثناءات. في مجال الثقافة والفنون، تقوم حكومة كيبيك بدعم منظمات وأنشطة متنوعة في مجال الكتاب والنشر والمسرح، الخ. وفي ميدان السينما، اجبرت الحكومة استوديوهات هوليوود حبذا لو يقف احد الزعماء العرب موقفاً مشابهاً في قضايا تهم العالم العربي على إنزال افلامها في السوق الكيبيكي باللغتين الإنكليزية والفرنسية معاً. وإذا كانت السينما الهوليوودية تتسم بكثرة انتاجها وضخامته، فإن الأفلام التي تسجل اعلى الإيرادات في صالات السينما الكيبيكية هي الأفلام المنتجة محلياً بالفرنسية. اما في منازلهم فيشاهد الكيبيكيون اولاً محطات التلفزة الكيبيكية التي تبث برامجها وأخبارها بالفرنسية، على عكس المقاطعات الأخرى، حيث الحضور الأميركي تلفزيون، سينما، إعلام، مشاهير، الخ هو الطاغي. والجدير ذكره ان حكومة كيبيك كان لها باع طويل في دفع ملف التعددية الثقافية الذي تعكف على دراسته منظمة "اليونسكو". وكانت كيبيك من اكثر المتحمسين لعقد اتفاق تبادل تجاري حر كندي - اميركي 1989، وآخر ثلاثي مع المكسيك 1994 وكيبيك هي المقاطعة الوحيدة في كندا التي تملك وزارة للثقافة والدخل والعلاقات الدولية. وأختتم بالقول ان "الحرب"، وفق العبارة التي وردت في المقال، التي تخوضها كيبيك هي حرب ضد التهميش السياسي والثقافي كشرط اساس ووحيد للذود عن مصالحها وكرامتها. وأدعو الباحثين والمعلقين وأصحاب الحشرية العلمية للاطلاع عن كثب على التجربة الفريدة فعلاً التي مر بها الكيبيكيون على مر السنين، والتي تمكنوا في ضوئها من صوغ هوية خاصة بهم تمكنت من التجذّر والتقدم في واحد من اكثر المجتمعات الغربية ليبرالية قيم وعادات اجتماعية على رغم الوضعية الجغرافية والديموغرافية التي وجدوا انفسهم فيها. كيبيككندا - نمر رمضان باحث عربي