تلقيت دعوة تجمع الكتاب والمثقفين ورابطة أبناء بيروت وندوة الإبداع لإقامة حفل تكريمي لي بمناسبة صدور كتابي القصصي الجديد، واصطحبت الى بيروت زوجتي وولدي لمشاركتي غمرة السعادة التي زهوت بها بين الأصدقاء في سورية، رافعاً رأسي. فها هي بيروت ترحب بي. واستقبلت بود من الأصدقاء، ... الى أن حلّت ليلة السرقة المشؤومة. هكذا شاء قدري، أن أحتفظ بجميع وثائقي الشخصية في محفظة زوجتي، من جواز السفر الى الهوية وبطاقات قيادة عربة وصحافي وكاتب ووثيقة العائلة الشخصية، وتلك التي تحمل اسمي وعملي ورقم هاتفي. كان ذلك حين داهمني "الموتوسيكل" الصغير، وبطريقة "لوبينية" متقنة التدريب، وبسرعة لمح البصر غدوت فاقداً لكل الوثائق، مجرّداً من أي اثبات مع زوجتي وابني. وقتذاك كنت في شارع عمر بن الخطاب، رجل العدالة التاريخي، أودع الأصدقاء لألتحق بالفندق، استعداداً للتكريم مساء اليوم الثاني. وبدلاً من ذلك التحقت بمخفر للدرك في منطقة البسطة، كما وجهتنا قيادة العمليات بعد اتصال هاتفي معها. ورحنا نسرد الحكاية للدركي المناوب، وزوجتي ترتجف وتدخن. وهي المرة الأولى التي ندخل بها مخفراً، مدعى علينا أو مدعين على أحد. وكنا ننتظر في الممر الضيق للمخفر حين أغلقوا باب الغرفة التي تواجدنا فيها قبل قليل. وأجروا تحقيقاً مؤذياً مع موقوف لبناني راحت صرخات استغاثته تلغي ما تبقى بنا من إرادة بسبب الضرب المؤلم الذي يتلقاه. وصارت زوجتي تردد: "أرجوكم أخرجوني من هنا لم أعد أستطيع الاحتمال أكثر". وكان من الممكن تأجيل هذا التحقيق الى وقت مغادرتنا. لكن عقلية الدركي هشمت أعصابنا ونحن في حال لا نحسد عليه، وكان لا بد من تصوير أوراق الضبط. وفي الواحدة صباحاً رحت أبحث في الشوارع عمّن يصورها، وزوجتي وولدي وقوفاً أمام باب المخفر الخارجي. وحظيت بعطف جندي موانئ كما فهمت، أعلمني بأنه ثمة جهاز للتصوير في الطابق العلوي. وكان على الدركي أن يرشدني اليه، وهو يعلم انه في مثل هذه الساعة لا يوجد من يصور ضبوطاً لأناس حكم عليهم بالتشرد القسري. ووضح الدركي إياه بأنه من خلال هذا الضبط يمكنني دخول سورية. واكتفيت بهذا الاجراء كي أنجز على ضوئه ما يتطلبه القانون. ... وأقول صادقاً: ان ما رأيته في التكريم دفعني لأجتاز نفسياً حالة قلقي وتعبي. وليلاً غادرت بيروت لأصل نقطة العبور في منطقة العريضة. ولن أسميها الحدود فهي ليست موجودة. وهناك لم يسمح لي بالدخول. وأخبرتهم بأن مخفر درك البسطة قد أبلغني بأن هذا الضبط وثيقة رسمية، لكنهم رفضوا، وحملوني مسؤولية أي تصرف قد أقوم به مثل الهرب مثلاً، وبأنني الآن كما هو المطلوب أمنياً، ومعاملتي كمعاملة أي مهرب أو فار. وليس هناك من حل الا مراجعة الأمن العام في بيروت أو طرابلس. وكانت الساعة بحدود الثانية صباحاً، وكدت أصرخ قهراً أو غضباً: "يا ناس أنا كاتب وأديب ولي مكانتي في بلدي وأتنقل من محافظة الى أخرى من دون هوية وأدخل الى أي مكان أرغب"، الى حد أصيبت معه زوجتي بشبه الانهيار العصبي. وكدت ألحقها بعد أن أتخمت إذلالاً. وعدت الى طرابلس كونها الأقرب، أجوب شوارعها من الرابعة صباحاً حتى الثامنة، متشرداً لا أدري الى أين أمضي. راجعت الأمن العام، وطلبت مقابلة السيد العقيد، فقيل لي بعد نصف ساعة، كونه يقوم بجولة. ثم بدأت مشكلة اثبات شخصيتي بوثيقة تؤكد بأنني أنا هو أنا. ودهشت مما يحدث وقلت: "يا شباب! اتصلوا بسورية، بأي مكان فيها باتحاد الكتّاب، بالصحافيين، بوزارة الداخلية، يمكنني إحضار من يعرّف بشخصي من مدينة طرابلس". وأجابوا بأنهم لا يستطيعون الاتصال بأحد بسبب عدم وجود الصفر الدولي لديهم. وسمحوا بإجراء اتصال داخلي، فطلبت من صديقي الدكتور محمد النابلسي الحضور، وهو المعروف في مدينة طرابلس. وبقي التأكيد على وثيقة باسمي وعليها صورتي، فربما أكون أنا ليس بأنا، الى أن تذكرت موقع اتحاد الكتاب العرب على الانترنت. وحصلت على الوثيقة وصورتي عليها، مع ملخص لمجمل المهمات التي كلفت بها خلال حياتي المهنية. وقال لي أحدهم بأنها وثيقة ليست نظامية لكنه "سيمشيها". ومشيت كما رغب. وبعد تحقيق طويل وممل ورسوم وطوابع، أحلت الى النائب العام، ثم الى الأمن العام، ثم انتظرت جواباً للبرقية، حيث طلب فيها تحديد نوعية دخولي الى لبنان، وحقق مع زوجتي وولدي. وطالبت أن أعامل بغير هذا الأسلوب، فأنا لست نكرة، وشخصيتي معروفة، وأتحمل مسؤولية نفسي ليس في لبنان فقط، بل بأية دولة أحل عليها زائراً أو ضيفاً. وفي الثانية ظهراً أنجزت الإضبارة. وغادرت طرابلس مشرداً، جائعاً، متعباً، مستلفاً بعض المال، غاضباً، متألماً، متسائلاً: أيعقل أن أعامل في لبنان بهذا الشكل؟ من خلال هذا الاستعراض لا أريد سوى استرجاع صورة لبنان الجميل الغالي التي انطبعت في ذهني وحملتها عبر سنوات طويلة، لبنان الأدب والشعر والموسيقى والحب والحضارة واحترام الآخر وتقديم المساعدة. أيعقل أن تتلاشى تلك الصورة ليحل مكانها انطباع الإساءة المقصودة أو غير المقصودة وأجد انه من حقي المطالبة باسترجاع الصورة الأولى وترسيخها مجدداً، ومعالجة جرحي الذي نزف نتيجة تصرف أرعن من لص مستهتر بالقيم وبالناس وبالوطن؟ كنت أتمنى لو أنه اكتفى بالمبلغ ورمى الحقيبة وما فيها من وثائق في الشارع نفسه. وجميعهم توقعوا ذلك، لكنه لم يحصل، لتأتي معاناتي القاسية. وكل شخص يقذفني للآخر من دون أية مساعدة تذكر، وبلا أي احترام لكاتب وصحافي أحب لبنان. هذه حقيقة. وما أرجوه أن توجهوني لأبقى محافظاً على هذا الحب والعلاقة الطيبة الرائعة التي أقمتها عبر سنوات من عمر مضى لا أستطيع التفريط بذكرياتها، ولا يمكن لها أن تعود من جديد لأحياه مرة أخرى. هذا ما حدث، أرجو سماع تعليقكم. اللاذقية - زهير جبور