تقول عائلة المطربة الراحلة اسمهان ان من حقها تقرير مصير اي مسلسل او فيلم او مسرحية او اي عمل فني آخر يتناول حياتها، ف"العائلة" في النهاية ادرى بما تراه "صالحاً" للمطربة اسمهان بعد رحيلها بعشرات السنين، من حيث المادة "الشخصية" والمادة "الفنية" التي ستقدم في ذلك العمل الفني، واذا كانت الوراثة العائلية امر معروفاً وقانونياً ومشروعاً في الشرق والغرب، فإن الوراثة الفنية امر لا يختلف كثيراً عندما يمس "المحرمات"! لكن، هل من حق ورثة اسمهان عائلياً ان يحرموا الاجيال العربية الجديدة التي احبتها في اغانيها وأفلامها من الاطلاع على سيرة حياتها اسوة بغيرها من الفنانات الكبيرات اللواتي عاصرتهن كالسيدة أم كلثوم مثلاً التي شاهد الملايين مسلسلها التلفزيوني الناجح الذي قامت ببطولته الممثلة صابرين وأبدعت فيه الى حد انها اعتزلت بعده لاقتناعها بأنها لن تستطيع الاتيان بأجمل منه من حيث الاداء الدرامي؟! ... وحتى في مسلسل "أم كلثوم" تدخلت عائلة اسمهان مباشرة فمحت اي أثر لها في المسلسل، وأسمهان كان لها حضور حقيقي في منافسة ام كلثوم، والتبرير الذي اعطي يومها هو ان العائلة الاطرش لا تريد ان تمر اسمهان مروراً عابراً في مسلسل يروي حياة اي مطربة اخرى أم كلثوم... وقد بدا هذا الموقف استكمالاً لمواقف سابقة ولاحقة تعترض بل ترفض اي كلام "تحقيقي" وثائقي درامي في حياة اسمهان... وآخر هذه المواقف ما تردد عن قرب الاتفاق على انتاج مسلسل تلفزيوني يحكي قصة حياتها بعدما حسمت محكمة النقض في دمشق الخلاف في هذا الشأن - كما نشرت صحيفة سورية - وقررت رفض الطعن الموجه ضد الكاتب والمخرج ممدوح الاطرش، وسمحت له بانتاج مسلسل يتناول حياة اسمهان في محطات عدة... ثم صدر نفي "عائلي" بعد ايام قليلة يقول ان المحاذير لا تزال حاضرة امام انجاز ذلك المسلسل. كأنما حياة المطربة اسمهان ما برحت مجهولة، وكأن جمهورها العربي الواسع لا يعرف شيئاً عن تلك الحياة، بل كأن وسائل المعرفة ما فتئت في القرون الوسطى حيث لا يُعرف امر الا بعد قرار رسمي عائلي خاص جداً... لا سيما ان الموضوع يتعلق بنجمة كبيرة امتلأت بطون الصحف والمجلات وصدور صفحاتها الاولى والاخيرة ومنذ عشرات السنين باخبارها الفنية والشخصية الواضحة والغامضة، الداخلية العربية والخارجية الاجنبية؟! ان هذا التكتم الذي يعتقد اصحابه انه يحميهم من خطرٍ ما، لا يحمي احداً من شيء. واذا كان خوف العائلة منطلقاً من حساسية وضعها التراثي التقليدي، فإن اسمهان التي تجاوزت تلك الحساسية في عز المناخ الاجتماعي المنغلق في الثلاثينات والاربعينات كانت تريد ان تكون مثالاً لرفض التقليد والخروج عليه، فغامرت - والبعض يقول قامرت - بحياتها فخسرتها مبكراً نتيجة حبها للغناء وحبها للحرية وهي اول الخاسرين مجدداً من الاصرار على حجبها عن الجمهور... واذا كان، ايضاً، حذر العائلة نابعاً من المستوى "الشخصي" الذي جسدته اسمهان في حياتها، فإن المستوى الفني الراقي لها يتضرر اولاً وأخيراً من عمليات الحجب، وهذا ليس سهلاً بالنسبة الى مطربة كانت ولا تزال ظاهرة ولغزاً وحقيقة في آن، ومن الضروري ان يكشف الغطاء عن تأثيرها الشخصي والفني على الاغنية العربية ككل تحديثاً وتطويراً وانطلاقاً في آفاق مغايرة. ثلاث وقائع هي الاكثر "خطورة" بالنسبة الى عائلة الاطرش حيال حياة اسمهان: الواقعة الاولى... هربها من زوجها الأمير الذي كانت لا تحبه متحدية المجتمع الذي تنتمي اليه تقليدياً كأميرة. الواقعة الثانية... احترافها الغناء في مصر وعلاقتها الوثيقة بالاستخبارات البريطانية ابان الاحتلال البريطاني لمصر. الواقعة الثالثة... حياتها الشخصية التي انتهت بمقتلها في حادثة سيارة انقلبت في نهر النيل... ... لكن لا بد من التذكير بواقعة اساسية اخرى في غالبية الاعمال الفنية التي تروي حياة مشاهير فن، ربما لا تتذكرها العائلة الاطرشية في موقفها القاطع ضد عرض حياة اسمهان مسلسلاً او فيلماً على الجمهور، تلك الواقعة تقول ان حياة النجم الفني العربي عندما تروى في عمل فني، تخلو غالباً من المواقف المسيئة او من الصفات بعض التي كان يتصف بها ذلك النجم، فينحو العمل الفني عندها منحى "تقديسياً" بدلاً من المنحى النقدي او حتى المنحى الواقعي الشفاف كما هو... وهذا ما حصل تماماً في مسلسل "أم كلثوم" الذي طبقت شهرته الآفاق وبدت فيه أم كلثوم كائناً يكاد يكون خرافياً في مثاليته، وهذا ما حصل ايضاً في افلام ومسلسلات اخرى تحدثت عن نجوم في الفن او في السياسة او في المجتمع من الرئيس انور السادات الى طه حسين الى جمال عبدالناصر الى قاسم أمين الى... ابي الطيب المتنبي الى الزير سالم الى... آخره من الاسماء الرنانة في الذاكرة... وهل تظن العائلة الاطرشية ان اسمهان ستوضع على مشرحة النقد والتهشيم في المسلسل المنوي تقديمه عنها اذا كان ثمة "مراقبة" للمعلومات المذكورة في المسلسل تمنعها من الانزلاق الى الاساءة، ومن دون ان تتنكر للحقيقة؟ يبحث بعض العرب عن الحقيقة في السياسة فيصطدمون ب"الواقع" الذي يريد ان يحدد لهم ما يرون وما "ينبغي" ان يتعاموا عنه... فإذا كانت الحقيقة الخاصة بحياة مطربة عربية مسألة تهدد الأمن الاجتماعي و"ينبغي" التعامي عن امرها، فهل سنفاجأ بعد ذلك بما جرى ويجري في السياسة؟