دراسة التوجهات الدولية في العلوم والرياضيات والمعروف ب TIMSS    هوكشتاين من بيروت: ألغام أمام التسوية    أمير تبوك: «البلديات» حققت إنجازاً استثنائياً.. ومشكلة السكن اختفت    فيصل بن فرحان يبحث المستجدات مع بلينكن وبالاكريشنان    السواحة: ولي العهد صنع أعظم قصة نجاح في القرن ال21    «الوظائف التعليمية»: استمرار صرف مكافآت مديري المدارس والوكلاء والمشرفين    «الشورى» يُمطر «بنك التنمية» بالمطالبات ويُعدّل نظام مهنة المحاسبة    تحت رعاية خادم الحرمين.. «سلمان للإغاثة» ينظم المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة.. الأحد    نائب أمير جازان يطلع على جهود تعليم جازان مع انطلاقة الفصل الدراسي الثاني    السعودية ترفع حيازتها من سندات الخزانة 1.1 مليار دولار في شهر    التزام سعودي - إيراني بتنفيذ «اتفاق بكين»    مصير «الأخضر» تحدده 4 مباريات    المملكة تتسلّم علم الاتحاد الدولي لرياضة الإطفاء    دعوة سعودية لتبني نهج متوازن وشامل لمواجهة تحديات «أمن الطاقة»    خيم نازحي غزة تغرق.. ودعوات دولية لزيادة المساعدات    القافلة الطبية لجراحة العيون تختتم أعمالها في نيجيريا    فيتو روسي ضد وقف إطلاق النار في السودان    المملكة تؤكد خطورة التصريحات الإسرائيلية بشأن الضفة الغربية    يوم الطفل.. تعزيز الوعي وتقديم المبادرات    ياسمين عبدالعزيز تثير الجدل بعد وصف «الندالة» !    تحالف ثلاثي جامعي يطلق ملتقى خريجي روسيا وآسيا الوسطى    تسريع إنشاء الميناء الجاف يحل أزمة تكدس شاحنات ميناء الملك عبدالعزيز    22 ألف مستفيد من حملة تطعيم الإنفلونزا بمستشفى الفيصل    نائب أمير الشرقية يطلع على جهود الجمعيات الأهلية    العامودي وبخش يستقبلان المعزين في فقيدتهما    فرص تطوعية لتنظيف المساجد والجوامع أطلقتها الشؤون الإسلامية في جازان    أمير القصيم يستقبل السفير الأوكراني    سهرة مع سحابة بعيدة    الرومانسية الجديدة    واعيباه...!!    الشؤون الإسلامية في جازان تقيم عدد من الفعاليات التوعوية والتثقيفية وتفتح فرصاً تطوعية    «قمة الكويت» وإدارة المصالح الخليجية المشتركة!    العصفور ل«عكاظ»: التحولات نقطة ضعف الأخضر    إدارة الخليج.. إنجازات تتحقق    في مؤجلات الجولة الثامنة بدوري يلو.. النجمة في ضيافة العدالة.. والبكيرية يلتقي الجندل    نجوم العالم يشاركون في بطولة السعودية الدولية للجولف بالرياض    25% من حوادث الأمن السيبراني لسرقة البيانات    أرامكو توسع مشاريع التكرير    ثقافات العالم    سفارة كازاخستان تكرم الإعلامي نزار العلي بجائزة التميز الإعلامي    المعداوي وفدوى طوقان.. سيرة ذاتية ترويها الرسائل    القراءة واتباع الأحسن    جمع الطوابع    تعزيز البنية التحتية الحضرية بأحدث التقنيات.. نائب أمير مكة يستقبل رئيس الشؤون الدينية    صدور موافقة خادم الحرمين الشريفين.. استضافة 1000 معتمر من 66 دولة    وطن الطموح    كلب ينقذ سائحاً من الموت    مراحل الحزن السبع وتأثيرتها 1-2    الاستخدام المدروس لوسائل التواصل يعزز الصحة العقلية    تقنية تكشف أورام المخ في 10 ثوانٍ    نائب وزير الدفاع يلتقي وزير الدولة لشؤون الدفاع بجمهورية نيجيريا الاتحادية    نائب أمير مكة يستقبل رئيس الشؤون الدينية بالمسجد الحرام والمسجد النبوي    محافظ الطائف يستقبل الرئيس التنفيذي ل "الحياة الفطرية"    مجمع الملك فهد يطلق «خط الجليل» للمصاحف    أمير تبوك يستقبل المواطن ممدوح العطوي الذي تنازل عن قاتل أخيه    سلطنة عمان.. 54 عاماً في عز وأمان.. ونهضة شامخة بقيادة السلطان    163 حافظا للقرآن في 14 شهرا    لبنان نحو السلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفكر المغربي ومسألة التحديث في وضع التقابل بين الهدنة والتوتر ... محاولة نمذجة
نشر في الحياة يوم 05 - 08 - 2004

لا بد اولاً من بيان الدواعي التي تجعلنا نتحدث عن "التحديث" بدل "الحداثة". وتوضيحاً لذلك ربما وجب ان نميز بدءاً بين مفهومين عن الحداثة، او لنقل بين موقفين: موقف كرونولوجي ينظر الى الحداثة كحقبة تاريخية، ثم موقف لا أقول بنيوياً، وإنما افضل ان انعته بالاستراتيجي، وهو الذي يعتبر ان موقف الحداثة وجد نفسه، ولا بد من ان يجدها في مواجهة مواقف مضادة.
لا يتعلق الأمر إذاً بالمقابلة بين البنية والتاريخ بقدر ما يتعلق بالتقابل بين الهدنة والتوتر. ذلك ان المفهوم الأول عن الحداثة يتميز اكثر ما يتميز بهمه التأريخي، وبرودته الوضعية وسمته التقريرية التي تنظر الى الحداثة كمجموعة من المميزات التي تطبع حقبة تاريخية معينة، حيث يتم ايجاد مكان لها داخل يومية تتقدمها حقبة "ما قبل" وتتبعها حقبة "ما بعد". وربما لا ينبغي ان ننعت هذا المفهوم حتى بالموقف، إذ انه لا يعدو ان يكون تقطيعاً للزمن وتحقيباً للتاريخ.
اما المفهوم الآخر فهو يعتبر الحداثة عصراً وليس مجرد حقبة. ما يميز العصر هو انه ليس مجرد فترة تمتد بين تاريخين، وإنما كونه علاقة متفجرة للماضي بالمستقبل. فعند كل عصر ينكشف عالم من العوالم، اي تنكشف بالنسبة الى إنسان ذلك العالم علاقة جديدة للماضي بالمستقبل. الحداثة اذاً شكل من العلاقة المتوترة مع ما يحدث في الوضع الراهن، واختيار واع، ونمط من التفكير والإحساس، وطريقة في السلوك والاستجابة تظهر كمهمة ينبغي الاضطلاع بها. إنها مسؤولية تاريخية وموقف نضالي، ووعي بالحركة المتقطعة للزمن. وهي اللحظة التي يصبح فيها الانفصال من صميم الوجود، ويغدو نسيج الكائن ولحمته، بحيث لا يعود الكائن مترابط العناصر سواء أكان ذلك على مستوى المعرفة او اللغة او النظم او المؤسسات، فتظهر الانشطارات داخل ما اعتبر مواقع الانسجام، ويتبين "ان كل صلب لا بد من ان يتبخر".
إن الحداثة هنا لا تقابل ما قبلها ولا ما بعدها، وإنما تقابل ما ليس إياها، اي تقابل التقليد. ولا نقصد بالتقليد هنا منظومة بعينها من القيم، وإنما الموقف المضاد للتحديث، اي الموقف الذي يغدو فيه الاتصال لحمة الكائن، ويرتبط فيه طرح القضايا الكبرى بتقصي الاستمرار والدوام، دوام الخصائص التي تميز، والسمات التي تطبع، والحقائق التي تعتنق دوام اللغة التي نتكلمها، والعادات التي نألفها، والعبارات التي نلوكها، والآراء التي نتداولها، والعمارة التي نقطنها، معنى ذلك ان التحديث لا يمكن ان يكون إلا حركة انفصال دؤوبة تطرح منطق الاتصال هذا موضع تساؤل، وتفسح للتفردات فرصة الظهور، وتجعل من الخصوصية حركة لا متناهية للضم والتباعد، ومن الآخر مجالاً مفتوحاً للانفصال والالتقاء.
ليس اختيارنا إذاً لصيغة المصدر إلحاحاً على المظهر الحركي الديناميكي للحداثة فحسب، وإنما على الخصوص، إبرازاً للطابع الجدلي الانفصالي المتوتر للتحديث، وارتباطه الدائم بما ليس هو، اي بما اصبح يسمى عندنا تأصيلاً.
لا مفر إذاً، ونحن نطرق قضية الفكر المغربي ومسألة التحديث، من ان نجد انفسنا نتحدث عن مسألة التأصيل في الآن ذاته.
هذا الربط بين التحديث والتأصيل لا ينبغي ان يفهم هنا على انه مجرد "توفيق" ذي شكل جديد، ومع ذلك فلو حاولنا ان نحدده بصيغة ايجابية لتعذر الأمر بعض الشيء: ذلك انه يتخذ صوراً متنوعة بحسب المفكرين، وهذه الصور تتراوح بين مجرد العودة الباردة الى التراث، الى محاولة إقامة علاقة متفجرة للماضي بالمستقبل تتخذ هي نفسها صيغاً متعددة. صحيح أن تلك الصيغ تكاد لا تتمايز. وقد نلفيها جميعها عند المفكر نفسه بحسب الفترات والمناسبات. لذلك فلن نقف هنا عند اشخاص ومفكرين ولا عند مذاهب ومدارس، ولا بالأولى عند تيارات، وإنما سنكتفي بصياغة نماذج كبرى تتسم ببعض الثوابت نستطيع ان نجملها هنا في ثلاثة:
النموذج الأول: يعتبر ان كل تحديث للفكر العربي مشروط بالتأصيل، كما يعتبر العكس صحيحاً. والتأصيل في نظره هو "عملية التبيئة الثقافية" ومحاولة إرساء المرجعية داخل ثقافتنا، للمفاهيم التي تشكل قوام الحداثة، وذلك بربطها بما قد يكون لها من اشباه ونظائر في تراثنا، وإعادة بناء هاته بطريقة تجعل منها مرجعية للحداثة عندنا.
ذلك ان ما هو مطلوب منا إزاء ما ننقله، بحسب هذا النموذج، سواء أتعلق الأمر بالأفكار والنظريات، ام بالنظم والمؤسسات، هو العمل على تبيئتها في وسطنا واستنباتها في تربتنا.
لا يتعلق الأمر بإثبات سبق للفكر العربي في جميع الميادين، ولا بمحاولة ايجاد المفهومات عينها هنا وهناك. وإنما بالقيام بمجهود فكري غير يسير متعدد الواجهات يحاول تجديد ثقافتنا من داخلها. وهذا "التجديد من الداخل" يتبع استراتيجية ذات ابعاد ثلاثة: نقد التراث، ونقد الحداثة نفسها والكشف عن نسبية شعاراتها، ثم التأصيل الثقافي للحداثة في فكرنا ووعينا.
ذلك ان طريق الحداثة عندنا يجب ان تنطلق بحسب هذا النموذج من الانتظام النقدي في الثقافة العربية نفسها، وذلك بهدف تحريك التغيير فيها من الداخل. فلا يعني التحديث هنا القطيعة مع الماضي بقدر ما يعني الارتفاع بطريقة التعامل مع التراث الى مستوى المعاصرة. بهذا يضمن هذا النموذج النجاة من مخاطر الحداثة المتسرعة، التي "تستوحي اطروحاتها وتطلب الصدقية لخطابها من الحداثة الغربية التي تتخذها اصولاً لها".
ما يخشاه هذا الموقف إذاً هو القيام باستنساخ ساذج للنموذج الغربي. لذا فهو يتشبث بالعودة الى الأصول. ويقوم تأصيل المفهوم هنا على نقله الى ثقافتنا "وإعطائه مضامين داخلها تتناسب مع المضامين التي يتحدد بها اصلاً في الثقافة الأوروبية".
لتوضيح الأمر لا بأس ان نستقي مثالاً من اكثر المفكرين المغاربة قرباً من هذا النموذج. يقول: "اذا كانت الحداثة على سبيل المثال تستعمل مفهوم حقوق الانسان، فإن ما نعنيه بالتأصيل الثقافي لحقوق الانسان في الفكر العربي المعاصر هو ايقاظ الوعي بعالمية حقوق الانسان، وذلك بابراز عالمية الأسس النظرية التي تقوم عليها والتي لا تختلف جوهرياً عن الاسس التي قامت عليها حقوق الانسان في الثقافة الغربية. ومن هنا يبرز الطابع العالمي الشمولي الكلي المطلق لحقوق الانسان داخل الخصوصية الثقافية نفسها. ذلك ان الأبعاد الثقافية الحضارية لحقوق الانسان هي ابعاد انسانية تشترك في التعالي بها، فوق الواقع الثقافي الحضاري القائم، جميع الثقافات. ومعنى العالمية هنا ان تلك الحقوق "تقوم على أسس فلسفية واحدة. اما الاختلافات فهي لا تعبر عن ثوابت ثقافية، وإنما ترجع الى اختلاف اسباب النزول، اي اختلاف الظرف التاريخي".
المسلَّمة الاساسية هنا هي ان لكل من التراث والمعاصرة طابعاً عالمياً، والطابع العالمي لتراثنا العربي الاسلامي، والطابع العالمي للفكر المعاصر يجعلان طرح الاصالة في مقابل المعاصرة بمثابة وضع الفكر الانساني في مقابل نفسه.
في مقابل هذه الرؤية يرى النموذج الثاني اننا لو انطلقنا من انجازاتنا الثقافية لاستحال ان نصل بمحض الاستنباط الى المفاهيم التي تقوم عليها الحداثة الفكرية.
منذ البداية يعلن هذا النموذج انفصاله عن التراث ويحكم عليه انطلاقاً من مفاهيم غير نابعة من صلبه. وهو يرى ان بين مفاهيمنا ومفاهيمه فارقاً فاصلاً. وهو بكل بساطة التاريخ. وحينما يتم فحص الانجازات الفكرية في التراث داخل هذا النموذج، فليس بهدف التنقيب عما من شأنه ان يغذي تفكيرنا الحالي. اذ ان رباطنا بالتراث قد انقطع نهائياً، وفي جميع الميادين. وان الاستمرار الثقافي الذي يخدعنا لأننا ما زلنا نقرأ المؤلفين القدامى ونؤلف فيهم إنما هو سراب. وسبب التخلف الفكري عندنا هو الغرور بذلك السراب وعدم رؤية الانفصام الواقعي. فيبقى الذهن العربي حتماً مفصولاً عن واقعه، متخلفاً عنه بسبب اعتبار الوفاء للأصل حقيقة واقعية، مع انه اصبح حساً رومانسياً منذ ازمان متباعدة. وكل من يعيش في زماننا هذا، من يعتبر نفسه ابن هذا الزمان، لا يستطيع ان يقول غير هذا. الحكم على التراث هنا ينطبق عليه في كليته ليثبت ان ذهنية عامة تسوده تخالف كل المخالفة الذهنية الحديثة. وهذه الذهنية التي تسوده يخضع لها الفيلسوف والفقيه والمتصوف. ومن اهم مميزاتها انها لا تكتفي بتحديد العقل بالمعقول، بل تجعل الثاني سابقاً على الاول. وهذا المعقول السابق على العقل الذي يحل فيه ولا يتولد عنه هو العلم. صحيح ان هذا المعقول يتلون، وهو يعرف باسم خاص في كل مذهب: يسمى الخبر كما يسمى الحكمة او التقليد او سر الإمام او الكشف. وهو في كل الاحوال العلم. إلا ان هناك اتجاهاً عاماً يقضي بأن هذا العلم حاصل، بأن هذا العلم قد حصل، قد تم وحصل. وبأن العقل تحصيل. وهو كذلك شامل ثابت لا يتبعض ولا يتفاضل ولا يتغير، انه اصل.
تتميز هذه الذهنية اذاً بالاستيفاء والحصر، وبالتالي برد الاصول المتعددة الى اصل واحد يتجلى في مسائل متساوية القيمة، محدودة العدد. وان الابيستيمولوجيا الكامنة وراء هذه الذهنية، والتي تجعل من العقل الفردي مجرد وعاء، تؤدي بالضرورة الى حد العقل الفردي ليكون موافقاً لمعقوله، ولا تجعل منه ابداً منبع المعقولات. لا تجعل من العقل غزواً واكتشافاً وارتماء في المستقبل. لا تجعل من التفكير قطيعة واقحاماً للاختلاف في كل ما يبدو تطابقاً. واذا كان الامر على هذا النحو، فلماذا العودة الى الاصول؟ وما جدوى التأصيل والحالة هذه؟ ذلك ان هاته الذهنية التقليدية ما زالت معاصرة لنا. انها ذهنية القدماء، لكنها ايضاً ذهنية بعض المحدثين بيننا. الا ان الفارق بين هؤلاء وأولئك كبير. فالمادة التي اعتمدها القدماء كانت كل ما كان متاحاً للبشرية وقتئذ. هذه قضية موضوعية غير متعلقة بشخصية مفكر بعينه. لا مجال فيها للبحث عن الاستعدادات الذاتية. الا ان ما حدث هو ان ما كان افقاً عند الأقدمين انقلب سداً عند بعض المحدثين.
وما علاقة كل هذا بالتحديث؟ ذلك انه ما كان في استطاعتنا ان نقف على مقومات الذهنية التقليدية التي ما زال يجترها بعض المحدثين منا ما لم ننظر اليهم من منظور مكتسبات الحداثة. تجاوز موقفهم لا يمكن ان يتم إلا بالانفتاح على الحداثة والتحصن بالعقلية التاريخية، والتسلح بمكتسبات العقل الحديث، اي الايمان بصيرورة الحقيقة وايجابية الحدث التاريخي وتسلسل الاحداث ثم مسؤولية الافراد عنها. لكن، الايمان اولاً وقبل كل شيء بأن المعقول لا يتقدم العقل، وان المعرفة ليست حاصلة ولا ثابتة، وان العقل الفردي ليس وعاء يتلقى وإنما فعالية وغزو واكتساح. الايمان بأن العقل فكر مولد للفروق وليس ايديولوجيا مهووسة بخلق التطابقات.
ليس التأصيل وفق هذا النموذج الثاني اذاً تبيئة للمفاهيم وإنما رداً للأمور الى اصولها، ولكن هذه المرة في شكل مبدئي كلي. الا انه ما كان ممكناً من غير تحديث، اي وقوف عند منطق الفكر الحديث الذي انفصل عن القديم.
مقابل هاته النظرة الكلية الى التراث يحاول النموذج الثالث ان يستعيد الرؤية التجزيئية للنموذج الاول وهو يسأل: هل تحصل في تراثنا رصيد يمكن ان يؤسس حديثنا اليوم بلغة الحداثة واستعمالنا لمفاهيمها؟ فالحداثة تتكلم عن العقل والديموقراطية والعلم والفاعلية والنسبية والاختلاف والحق والتعدد والكونية والمثقف والجماهير والرأي العام واللاوعي والالتزام... فهل في تراثنا ما من شأنه ان يكون اساساً وأصولاً لاستعمالنا نحن لهذه المفهومات؟
الرجوع الى التراث هنا محاولة تأصيل تفحص ما اذا كان التراث مساعداً على تكوين عقلية حديثة او عائقاً ضدها، وما اذا كان فيه ما يبرر دعوانا الآن الى اعتناق هاته المفهومات؟ والغريب ان هذا النموذج لا يعتريه يأس، فكل محاولة من محاولات التأصيل لا تنتهي عنده الا نهاية سلبية، وذلك بعد طريق غير قصير. اذ يعلن في النهاية، وكل مرة، انه لم يجد في التراث ما افترضه فيه، فيشعرك ان عملية التنقيب كانت يائسة منذ انطلاقتها.
وعلى رغم ذلك فإن لهذا الموقف ما يبرره، خصوصاً اذا وضعناه ضمن سياق ثقافي تكثر فيه الاطراف التي توظف التراث من اجل دعاوى مختلفة. حينئذ يبدو هذا النموذج تقويماً لوضع، ورد فعل ضد أولئك الذين يرون في تراثنا سبقاً مطلقاً لكل ما جاد به التاريخ وما سيجود به.
في هذا النموذج كما في السابق عليه يتم الانشغال بالتراث لتقويم اعوجاج واعادة تأويل، بحيث لا يقصد التراث لذاته، وبحيث يكون المخاطب هم المحدثين بيننا الذين يوظفون التراث ويؤولونه كما يحلو لهم. هنا يغدو التراث قضية من قضايانا المعاصرة، ويصبح الانشغال به هماً معاصراً لا تنقيباً في الماضي. وهنا يغدو التأصيل ارجاع الامور الى أصولها، ورد فعل ضد كل المواقف التي تقوم على الخلط بين العصور، اي ضد كل القراءات الايديولوجية للحداثة وللتراث معاً.
ومع ذلك فهذا النموذج يتميز عن الثاني في كونه لا يكتفي بالاعلان عن قطيعة مبدئية وتلقائية بين التقليد والحداثة، وانما يعمل على اثباتها وتأكيدها بصدد كل مسألة، بل في مستوى كل مفهوم على حدة. فالتأصيل، هنا، شأنه شأن التحديث، عملية لا متناهية.
هذه هي النماذج التي تبين لنا ان انشغال الفكر المغربي بمسألة التحديث ينحصر داخلها. وليس في نيتنا، بطبيعة الحال، ان نقترح نموذجاً بديلاً، لا لصعوبة الامر فحسب، وانما لأن الامر لا يقتضي بكل بساطة تصور نماذج مجردة، وانما استخلاصها من ممارسة فكرية فعلية. ان النماذج لا تصاغ صوغاً وانما تستخلص استخلاصاً. ومع ذلك، فلا يمكننا ان نكتفي بمجرد عرض صوري للنماذج الفكرية. ذلك ان كل نمذجة تظل باردة واصفة إن لم تبحث عن العلاقة المتفاضلة بين النماذج، اي إن لم تقحم عنصر الاختلاف بينها، وتبحث عن التفاوتات، وبالتالي عناصر الضعف والقوة في كل منها. وهذا لا يعني بالضرورة اننا مدعوون لتفضيل نموذج بعينه، بل أساساً الوقوف عند ما يبدو لنا قابلاً للنقد او التحفظ في كل ما قلناه. وفي هذا الصدد يبدو لنا اننا ينبغي ان نتوقف عند نقاط ثلاث وردت في كل نموذج:
النقطة الأولى، تتعلق بمسألة الانفصال عن التراث. فهل تتم القطيعة في شكل كلي، ام انها حركة لا متناهية تتم في مستوى كل قضية بل كل مفهوم؟ وهنا لا بأس ان ننبه الى مسألة اساسية وهي ان الطرح التجزيئي لا يعني احياء لقضايا التراث. ذلك ان قضايا التراث ليست هي قضايانا. ولكن التراث ذاته قضية من قضايانا. وقد سبق ان رأينا ان الامر لا يتعلق بالحوار مع القدماء، وإنما مع المحدثين بيننا الذين يجرون ويجترون التقليد. فما دام بيننا من يوظف التراث من دون ان ينفصل عنه، فنحن مضطرون الى انتقاد موقفه وفضح اولياته. ذلك ان المعاصرة تعني ان يعيش الانسان عصره. والعصر، كما سبق ان قلنا، هو علاقة متفجرة للماضي بالمستقبل. فبدلاً من ان يكون الماضي موجهاً للمستقبل، يغدو المستقبل ذاته منيراً للماضي على حد تعبير نيتشه. ولا بأس ان نسوق هنا ما قالته هانا آرندت عن هايدغر من انه لم يتمكن من ان يكتشف الماضي من جديد الا لكونه قد تمكن من قطع الحبل الذي يشده الى التقليد. وقطع الحبل كما نعلم، مثل قطع حبل الصرة، لا يعني انفصالا مطلقاً، وإنما هو العملية التي يتم بها ربط الوليد بأمه من جديد، انه العملية التي يتم بها ربط الوليد بأمه من طريق الانفصال. انه العملية التي بها يصبح الفكر فكراً حياً ويتمكن من استنطاق الكنوز الثقافية للماضي". هنا يغدو التحديث شرطاً لكل تأصيل حقيقي. فما كل تعلق بالماضي حوار مع التراث. وما كل ماض تراث. ذلك ان الماضي لا يغدو تراثاً الا عندما يورث، وهو لا يورث الا عندما يتملك، ولا يتملك الا عندما يغدو ذاتاً، ولا يغدو ذاتاً الا عندما يصبح آخر.
نحن اذاً امام ماض لا يمكن الا ان يصبح حاضراً. ولكنه لن يكون كذلك اذا غدا حضوره ثقيلاً جاثماً مكبلاً لكل حركة، قاضياً على الزمان. ان الحضور لا يكون كذلك الا اذا تخلله الزمان، ولن يتخلله الزمان الا اذا غدا حركة، ولن يكون حركة الا اذا كان انفصالاً وفراغات وقطيعة. هذا هو الشكل الممكن للتملك الفعلي للتراث، وهو لا يعني اطلاقاً إهمالاً او عدم اكتراث، لكنه لا يعني كذلك ذوباناً في الماضي.
وهذا يسمح لنا بأن ننتقل الى النقطة الثانية، وهي ما يمكن ان نطلق عليه الخاصية الملتبسة المزدوجة للتراث. ذلك انه في الوقت ذاته ينبوع وحاجز. فالتراث الذي لا يمكن المرء ان يتجاوزه الا بمحاورته، ولا ان "يقتله" الا بإحيائه، ولا ان يربط معه علاقة إلا من طريق القطع والفصل، هو الكفيل وحده بأن يمهد لما لم يفكر فيه، لكنه هو نفسه الذي يشكل حاجزاً دون ذلك. ولا بأس هنا ان نسوق عبارة دالة لهايدغر يقول فيها: "ان التراث الذي يفرض سيادته، بعيداً عن ان يسمح بادراك ما ينقله، غالباً ما يساهم، على العكس من ذلك، في تغليفه وحجبه، وهو يحط من محتواه، ويجعل منه مجرد بداهات، فيحول دون بلوغ "الأصول" التي نهلت منها المقولات والمفاهيم التقليدية في جزء منها على الأقل بل ان التراث قد يرمي بهذه الاصول طي النسيان فيقضي على الحاجة الى فهم ضرورة العودة الى المنابع. وهو يستأصل الانسان من تجذره التاريخي الى حد ان اهتمامه لا يعود منصباً الا على تعدد الاتجاهات والآراء". هذا ما يمكن ان نطلق عليه "حمى التراث" عند بعض مفكرينا الذين يحولون الماضي الى متاحف.
النقطة الثالثة تتلخص في كون التحديث، شأن التأصيل، لا يتمثل في مفاهيم ومضامين بقدر ما يتمثل في عمليات الانفصال ذاته. لا يتمثل في الاهداف المرسومة وإنما في المسالك المقطوعة. ولعل هذا ما يقصده النموذج الثاني بمكتسبات العقل الحديث حينما يحددها اساساً كإيمان بصيرورة الحقيقة، وكمفهوم جديد عن العقل ليس كانفعال وتلق، وانما كغزو واكتساح. ها هنا لا يغدو التحديث غايات مستهدفة، ونتائج مستنسخة، وانما دروباً مقطوعة. وربما كانت عمليات الانفصال التي تحدثنا عنها تتمثل اساساً في قطع تلك الدروب. وعلى ذكر الدروب، لنتذكر قول هايدغر: "عندما يستحث شيء ما الفكر، فإن هذا يتوجه نحوه ويلاحقه، لكن قد يتأتى له ان يتحول وهو في طريقه اليه".
* كاتب مغربي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.