لا نرمي من هذا العنوان الى إقامة فصل وهمي بين الثقافي والسياسي، بقدر ما نتوخى الإشارة الى حقيقة شد ما وقفنا عليها، وواقع طالما عانينا منه، خصوصاً في العقود الاخيرة، وهو ان مثقفي الغرب ويسارييه، الذين غالباً ما يلوحون بشعارات الكونية وحقوق الانسان، بما فيها من حق في الاختلاف، والذين يتشبثون بنزعة إنسانية صريحة، فيشاركوننا همومنا ويبدون تفهماً لقضايانا ومشكلاتنا، لا يستطيعون في بعض اللحظات وأشدها حرجاً، ان يسيروا بمواقفهم حتى النهاية. لقد أبان العقد الاخير من هذا القرن وربما بوضوح مؤلم، ان هناك نقطة تذوب عندها النزعات الانسانية وتنتهي اليسارية، بل ويقف التحليل العقلاني، فتسود لغة "الدوكسا" والإجماع، وما يترتب عنها من عنف رمزي ومادي، وتمحي الاختلافات، أو على الاصح، يظهر الاختلاف الاكبر، ويغدو التناقض غرب / عرب هو التناقض الاساس، وينادي يسار الغرب يمينه قائلاً "فلنتظاهر عليهم فعند الشدائد تذهب الأحقاد". على حد قول صاحب التهافت. ليست نادرة لحظات التاريخ المعاصر التي لمسنا فيها هذا "التظاهر"، والتي تحول فيها الغرب الى وجود فعلي وكائن غريب وكيان موحد، لا تفرقه مصالح اقتصادية ولا توجهات سياسية ولا اختلافات لغوية، ولا تناقضات اجتماعية، ولا مواقف فلسفية او اعتقادات دينية او آراء ايديولوجية. في تلك اللحظات يتحول اختلاف الغرب مع نفسه ائتلافاً، ويغدو تعدده وحدة، وتصدعه هوية. فيتبين ان السياسي ينفصل فعلاً عن الثقافي. او انقل إن الثقافي هو الذي يتخلى عن نفسه لينفض عنه الشعارات والآراء ولكي لا نسيء الى الاحياء علينا ان نستقي امثلتنا من الاموات. ولنتذكر، على سبيل المثال، حال جان بول سارتر الذي طالما رأينا فيه، نحن معذبو الارض، زعيم اليسار الغربي، بل زعيم اليسار وكفى كما تقول العبارة الفرنسة، حتى أنه اقنعنا أن المثقف لا يمكن ان يكون الا يسارياً. لكن احداثاً متلاحقة سرعان ما كشفت اختلافه معنا وائتلافه مع غيرنا. وأظهرت ان اليسارية ليست في دمه. بل انها حررتنا من وهمنا الابدي وسذاجتنا التاريخية بان الثقافة يسار، والسياسة يمين. هذا الشرخ العميق الذي يظهر من حين لآخر هو ما يهدف العنوان اعلاه الى ابرازه، وهو ليس مجرد انفصال نظري، بل انه واقع وجودي نعيشه ونعانيه نفسياً وجسدياً. وهو يتخذ اشكالاً يومية للإقصاء والنبذ وعدم الاعتراف. بل انه يتبلور من حين لآخر في احداث لا تخلو من عنف جسدي تعاني منها جميع الاطراف المتفاعلة. وعلى ذكر المعاناة استسمح في ان انطلق هنا من تجربة شخصية لم استطع هضمها نفسياً وفكرياً إلا بعد مرور وقت غير قصير. فقد دعيت ذات مرة الى المشاركة في ندوة فكرية اقيمت بهولندا تحت عنوان "الآخر وفكر الاختلاف". وقد كانت الندوة بالفعل فضاء للاختلاف باكثر من معنى: اختلاف المدعوين اولاً، وتنوع مشاربهم واوطانهم وجنسياتهم. واختلاف اللغات التي القيت بها العروض، واختلاف وجهات النظر المعروضة بطبيعة الحال. غير ان الامر لم يقف عند هذا الحد. فقد كانت الندوة بالنسبة اليّ، تجربة اختلاف عميقة، او على الاصح "صدمة" تمايز لا تخلو من مرارة. ترددت كثيراً في اختيار الموضوع. ما خطر ببالي اول الامر، هو ان استدعائي كان ولا شك، قصد تنويع التجارب المعروضة في الندوة، والحديث عن تجربة الآخر من خلال منظور عربي اسلامي ثالثي جنوبي عاش تجربة الاستعمار والاحتكاك بالآخر الاجنبي، ويعيش تجربة التخلف ومحاولات التحديث... إلا انني فضلت تناول موضوع نظري صرف كان يشغلني وقتئذ يتعلق بما آل اليه مفهوم الايديولوجيا عند مفكري الاختلاف. ترددت كثيراً قبل الحسم في المسألة. وقلت في نفسي إنهم ليسوا في حاجة الى مثلي ليحدثهم عن قضايا نظرية، فهم معلمونا في هذا المجال. لكنني بررت المسألة بكوني سأتناول الموضوع بشكل تركيبي اربط فيه بين اسماء مفكرين غربيين ما عهدنا الربط بينهم. خالجني بعض الاطمئنان عند بداية الندوة عندما تبينت ان الجميع تقريباً، يتحدث عن الفكر الفرنسي المعاصر. صحيح ان المساهمين الالمان كانوا يوظفون تراثهم الفلسفي فيتحدثون عن كانط وهيغل ونيتشه وهايدغر، إلا انهم كانوا يعرجون عليهم عبر فوكو ولاكان ودولوز ودريدا. والغريب ان فرنسا نفسها لم تكن ممثلة في الندوة الا من طرف فلاسفة ذوي اصل غير فرنسي. وان كانوا يدرسون بفرنسا ويكتبون بلغة البلد. احدهم ذو اصل إغريقي والآخر من اوروبا الشرقية. لقد كان فضاء الندوة إذاً فضاء الاختلاف بامتياز. فالجميع، حتى اهل الدار من المشاركين الهولنديين، كان يتحدث عن فكر آخر، وبالتحديد الفكر الفرنسي، او عن الفكر الالماني ولكن عبر القراءات الفرنسية. ولم يكن يشذ عن هذه القاعدة الا احد المساهمين الافارقة الذي كان يدرس بإحدى الجامعات الالمانية، والذي فضل ان يتحدث عما دعاه "تاريخ الفلسفة الافريقية". ما اثار انتباهي - وربما قليلاً من الغيرة - هو الاهتمام الشديد الذي ناله العرض الذي قدمه زميلي وجاري واخي في الاختلاف، والنقاش المهم الذي عقب العرض خصوصاً في النقطة التي تحدث فيها عن فعل الكون في بعض اللهجات الافريقية. عكس ذلك تماماً ما لقيه العرض الذي قدمته. فما عدا ملاحظة الفيلسوف الفرنسي - الإغريقي الذي ابرز ما في العرض من تركيب لا يخلو من جدة، اشعرني الجميع ان ما تناولته ليس هو ما كان منتظراً مني. فكأنني دخلت في ما لا يعنيني. او على الاقل: كان من الافضل ان اطرق قضية "الآخر والاختلاف" في سياق التراث العربي - الاسلامي. اعترف بأنني ملت انا ايضاً الى مؤاخذة نفسي. لكنني كنت ارفض في الوقت ذاته ان اكون خلال الندوة مجرد عينة. وعلى رغم ذلك فأنا لم استطع هضم الانزعاج الذي خلفه العرض الذي قدمته لدى البعض. ولم يكن مصدر ذلك الانزعاج مضمون الافكار او منهج العرض، وإنما اختيار الموضوع. لقد قبل جمهور المشاركين الاستماع الى المرجعية الفكرية ذاتها من فم فيلسوف إغريقي يتكلم الفرنسية، لكنه لم يكن ليعطيني أنا الحق نفسه. ذنبي هو انني لم احترم "المهمة" التي انطت بها، وهي ان "امثل" خصوصية وربما كل القضية انني لم اميز بين خصوصية وخصوصية. هناك خصوصية تمتزج بالكونية، صاحبها يتكلم باسم الجميع عندما يتحدث عن نفسه، ثم هناك خصوصية خاصة لا يمكن ان ترقى الى مستوى الكونية. فأنا عندما "تجاوزت الحدود المرسومة" ولم اكتف "بتمثيل" عينة، وعرض قضايا تاريخية تراثية، والحديث عن المشكل المطروح "كما قد يكون عرفه الفكر العربي - الاسلامي ايام عزه" فتجرأت على الخوض في الفكر المعاصر، وطرق قضايا نظرية، ومناقشة مفاهيم مجردة، عندما سمحت لنفسي بكل هذا، فقد اقتحمت ابواب الكونية. فالمجرد والنظري والمعاصر يجعلني في مستوي الشمولية ويضعني ندا لند مع من يستمعون اليّ. وهذا عين المحظور. ذنبي إذاً، وبالضبط في هذه الندوة التي تطرق مسألة "الآخر وفكر الاختلاف"، والتي تتم على ارض اوروبية، هو انني تناسيت ان الاولى بي كان ان انحو منحى زميلي الافريقي، وان اتحدث عما هو "غريب عجيب"، فأعرض مسألة الآخر في التجارب "الاخرى". ذنبي هو انني تناسيت ان خصوصيتي ليست كباقي الخصوصيات: إذ ان هناك خصوصيات تدخل في دائرة الآخر الصغير اما خصوصيتي ففي دائرة "الآخر الاكبر". هل يعني هذا ان هناك خصوصيات ستظل دوماً مطرودة من تلك الدائرة، معزولة عنها، ام ان هناك امكاناً لإقامة شراكة قد تتلاقى عند مفاهيمها انساق ثقافية طالما تعارضت. لا بد ان نلاحظ، في البداية، ان الانساق الثقافية لا تنتظر نيات الافراد وقراراتهم الارادية كي تتفاعل في ما بينها. ان العلامات والدلائل تحيا حياتها الخاصة وتعمل بحسب منطقها. والثقافات غالباً ما تتفاعل بكيفية لا شعورية فتدخل في "شراكات" عفوية. وهذا ما نلحظه اليوم في مجالات متعددة كالملبس والمطبخ والموسيقى والفنون التشكيلية والمعمار. صحيح ان هذا اللقاء البطيء البارد غالباً ما يلاقي اشكالاً من المقاومة الواعية الساخنة، مما يجعلنا مضطرين الى إعادة النظر في الركائز التي تتحكم اليوم في جميع اشكال المثاقفة، فنعيد إنتاج الاسئلة التي تتعلق بالاسس النظرية والمفاهيم الكبري التي تقوم عليها نظرية الآخر، ومفهومي الشمولية والكونية. ولعل النقطة الاساسية التي يلزمنا الانطلاق منها هنا، وانطلاقاً من المثال السابق، هو التوحيد الذي يقيمه الغرب بينه وبين الكونية. فما مشروعية هذا التوحيد؟ لنستق جوابنا من الفكر الغربي ذاته، ولنذكر بما بينه احد المفكرين الغربيين من ان الكوني لا يحيل لأي معنى عرقي او جغرافي او قومي. الكوني عصر من عصور العالم، وليست هناك معادلة بين الغرب والكونية. ذلك ان الغرب هو ايضاً انا وآخر، تراث ومعاصرة، حداثة وتقليد. والمماهاة بينه وبين الثقافة المعاصرة تتناسى امرين اثنين: كونية الحداثة من جهة، وتاريخية الغرب وتصدعه من جهة ثانية. إن ثقافة المعاصرة تتكلم اليوم لغات عدة. وليست هناك في عصر التقنية، مدنية يمكن ان تكون هي وحدها الاسم الآخر للمعاصرة، ولا لغة بإمكانها ان تتكلم وحدها لغة الحداثة ولا خصوصية تختص وحدها بالكوني او الشمولي. لا إمكان إذاً "لانفتاح نحو تعارف صحيح" ما لم يتخل الغرب عن هذا التوحيد الوهمي. لكن ذلك الإمكان لن يتأتى لنا، نحن كذلك، ما لم نقم نظرية مغايرة عن الآخر، فنعتبر ان الغرب يقيم في كياننا، وليس بإمكاننا ان نجعل منه "آخر" إلا بخوض عملية مزدوجة تمزج بين التذويب والموضعة، والتملك والفقدان والادخال والاخراج، والهدم والبناء والنفي والاثبات والايجاب والسلب. إن الغير لا يصبح آخر من تلقاء ذاته، فمثلما ان الذاتي ينبغي تملكه، ومثلما ان الهوية يلزم اكتساحها وغزوها، فإن الغير لا يغدو آخر إلا اذا حول عن تحديداته المهيمنة. ليس آخرناً صخرة صلبة ولا هوية ثابتة ولا حدوداً سياسية او جغرافية وليس هو بالاولى الواناً ولغات واعلاماً: إنه فضاء مفتوح للانفصال اللامتناهي واللاتقاء اللامتناهي. هذا الفضاء المفتوح لالتقائنا وانفصالنا اللامتناهيين يتخذ اليوم، واليوم بالضبط نغمة خاصة لانه غدا مجسماً في فضاء ثقافي ربما لم يكن له وجود من قبل. هذا الفضاء هو ما اصبح يدعى عالماً. فحتى وقت غير بعيد كانت عوالم. وإن كان هناك عالم فلم يكن الا طبيعياً. اما اليوم فإننا على ابواب ميلاد عصر جديد فانكشاف عالم جديد، او على الاصح، انكشاف العالم. لقد غدا الفكر اليوم، ولأول مرة في التاريخ، وبفضل سيادة التقنية، فكراً كوكبياً كونياً، وهذا ليس لافتراض كونية ميتافيزيقية وفكر شمولي، فالكوكبي Planژtaire ليس هو الشمولي L'universel، وإنما للتغير الذي لحق الوجود بفضل اكتساح التقنية فأرسى تبعاً لذلك مفهوم "العالم". فما يطبع الوجود اليوم هو انتشار موحد موحد لنماذج التنمية والتصاميم والمخططات، وتطور ادوات التواصل، واكتساح الاعلاميات لكل الحقول، وفرض لمفهوم جديد عن الزمان، بل وتحويل المكان الى زمان، وكل هذا لم يعد حكراً على منطقة او جهة او هوية او عرق او جنس او لغة. إن الكوكبية لا هوية لها، بل إنها هي التي تحدد كل هوية. على هذا النحو يغدو الانخراط فيها، او عدم الانخراط، ليس وليد قرار إرادي، وإنما هو قدر تاريخي يرمي بإنسان اليوم، أنى كان، جنوباً او شمالاً، غرباً او شرقاً، يرمي به في الكون، ويجبره على الانفتاح على الآخر والالتقاء اللامتناهي معه والانفصال واللامتناهي عنه. هو التقاء وانفصال لا ينبغي ان ينظر اليه كأنه نعمة ينعم علينا بها التاريخ. إنه، على العكس من ذلك، نضال ضد الذات وضد الآخر، وجهاد ضد كل أشكال سوء التفاهم وكل المسبقات التي تراكمت عبر التاريخ. ذلك ان الوضعية البشرية وضعية بابلية يتحكم فيها سوء تفاهم اصلي، ويطبعها التغالب والنزاع. وكل تفاهم وحوار هو انتصار على ذواتنا وفوز تاريخي. وإرساء لأسس شراكة ابداعية تكون فيها كل ثقافة آخذة مانحة، مستقبِلة ومستقبَلة، محولة ومتحولة، شراكة تفتح الطريق امام تفاعل ثقافي يصون الثقافة ويحفظها من ان تتلون بألوان السياسة او تتقلب بتقلباتها. * كاتب مغربي.