أدهشني كثيراً ما كتبه السيد محمد صادق الحسيني في "الحياة" تحت عنوان "الصدر الثالث بين التشيع العلوي والتشيع الصفوي" الذي حاول أن يثبت فيه أن السيد مقتدى، أو الصدر الثالث، هو الممثل الشرعي والوحيد، الآن، للتشيع العلوي. افتتح الأستاذ الحسيني مقاله باقتباس من الدكتور علي شريعتي يصف فيه المسجد بأنه "معبد المسيح وأكاديمية أفلاطون ومجلس أعيان روما". أما الوظيفة الجديدة التي يسعى الأستاذ الحسيني على ما يبدو لإضافتها لوظائف المسجد فهي أنه قاعدة لإطلاق الهاونات! فهو يقول: "إن خلاصة ما يؤخذ على مقتدى الصدر هو لجوؤه إلى المسجد، حيث هو حصنه الأخير الآن، أما أتباعه من المحرومين فلم يلتزموا التكايا، فتنطحوا المساجد ليعلنوا من على منابرها صوت الرفض للتبعية والاستبداد والانقياد للأجنبي". من الواضح أن الكاتب يحاول أن يلصق ما لا يلتصق، أو يقرب ما لا يتقارب، واضعاً من سماه بالصدر الثالث في مواجهة من سماهم بمراجع التشيع الصفوي الممالئ للاحتلال والمتماهي معه. أسرف الأستاذ الحسيني كثيراً، على ما يبدو، في ذم المخالفين للصدر الثالث، وألصق بهم كماً لا يستهان به من التوبيخ والاتهام بالعمالة، قبل أن يعود ليناقض نفسه ويهدم ما بناه ويقول في آخر المقال: "إن الصدر الثالث لم يأل جهداً في اللجوء إلى الحوار سواء بينه وبين القوى العراقية الداخلية أو مع القوى الأجنبية الغازية". أليس هذا الحوار الذي سعى إليه الصدر الثالث هو نفسه الذي مارسه المراجع والقادة العراقيون، وهو ما حدا بالسيد الحسيني لاتهامهم بأنهم من الممالئين للاحتلال، والمتماهين مع سياساته، بل وزاد تهمة التشيع الصفوي، والتكايا وتفريغ المسجد من دوره؟ لقد حاولنا، نحن المراقبين للساحة العراقية عن بعد، أن نفهم ماذا يريد "الصدر الثالث". ولكنه، في كل مرة، كان يطلع علينا بمفاجأة ومن بين تلك المفاجآت كانت تكفيرياته العنترية التي أطلقها قبل أيام في أحد مؤتمراته الصحافية، عندما طرح عليه سؤال عن الدكتور إياد علاوي رئيس الوزراء العراقي، فرد حفظه الله ذخراً للإسلام العلوي كما يزعم السيد محمد صادق الحسيني قائلاً: "شنو شيعي؟ مو مسلم أصلاً... هذا علماني خارج عن الملة". ومعلوم أن الإمام علي لم يكفر أحداً من أهل القبلة، ممن خرجوا على خلافته ورفعوا السلاح في وجهه، متسببين بذلك في سفك دماء عشرات الآلاف من المسلمين. ومعلوم أيضاً ذلك الصدام الذي وقع بينه وبين الخوارج، عندما شَهَروا سلاح التكفير وسفك الدماء، وأعملوا سلاحهم في أمة لا إله إلا الله. ومنذ أن اندلعت أحداث ما بعد سقوط النظام الصدامي، وأطل علينا السيد مقتدى من مغرزه الذي كان فيه، ومعه ملايين العراقيين ممن أجبروا إما على الهروب إلى المنافي أو التزام صمت القبور أو الرقاد في القبور الجماعية، ونحن نراقب تصرفات الفتى مقتدى. وكنا نظن به خيراً، فهو شاب لم يتلوث وهو قائد حركة للجياع والمحرومين تفتقد للنضج السياسي، وسرعان ما قد تنضج، إلى آخر تلك الاعتذارات التي يقدمها له الإعلام مجاناً. ثم أعلن الرجل عن تأسيس ما سماه ب"جيش المهدي". ثم عاد وأعلن عن تشكيل حكومة خاصة به. ثم تمادى أكثر وأكثر، وأعلن النجف عاصمة لدولته المفترضة. وقال من قال إن هذا يدخل في إطار الضغط السياسي على المحتل. وتواترت الأنباء عن محاكم مقتدى التي تطبق "الشريعة" وتجاوزاتها الواسعة. والرجل لا يفتأ يكرر أنه ليس طالب سلطة. ولا طالب منصب، بينما يناديه الأتباع تارة ب"سماحة القائد"، وتارة أخرى ب"السيد مقتدى دام ظله". فماذا تكون كل هذه الأشياء؟ أليست كلها سلطة ومناصب؟ أريد من السيد محمد صادق الحسيني، وفي ضوء الوضع العراقي الراهن، أن يجيبني عن سؤال: "ماذا يريد الصدر الثالث؟" هل يريد أن يكون حركة مقاومة لطرد الاحتلال وحسب؟ أم يريد أن يكون سلطة حاكمة على المناطق التي سيطر عليها في ظل هذا الاحتلال، وبالتعاون معه والحوار والتفاوض؟ الحالة الأولى هي حالة "حزب الله" الذي قاوم فقط، ولم يشكل سلطة، ولم يؤسس محاكم، ولم يعلن عن جوائز لقتل رجالات السلطة الموقتة كما فعل رجالات مقتدى. والحالة الثانية تشبه الحالة الفلسطينية. وأقول "تشبه" لأن لا أحد من المنظمات المعارضة أعلن عن ممارسة السلطة في المناطق الفلسطيني.ة ولكن النتيجة العملية أن القضية الفلسطينية قد ذهبت إلى التيه بسبب ذلك التضارب بين المنظمات والسلطة، وبينها وبين بعض. أما أن المساجد أصبحت مقاراً لإطلاق الهاونات التي تنهمر على الأحياء السكنية والأسواق الشعبية، وآخرها حادثة شارع المتنبي، فتلك هي الطامة الكبرى، والنازلة التي ما بعدها نازلة. ثم يقولون لنا تشيع علوي وتشيع صفوي. وأريد أن أسأل السيد الحسيني عن معنى ما قاله "الصدر الثالث" في 14/8 المنصرم: "وما دام الاحتلال موجوداً فلا سياسة ولا ديموقراطية ولا حرية مع المحتل". هل هو شعار جديد يشبه شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"؟ وهل يستطيع "الصدر الثالث" بهذا الأسلوب أن ينقذ العراق من ورطته التي طالت، أم أن بعضهم قد قرر أن ينفخ في النار لتحرق الأخضر واليابس "ليس حباً في علي بل بغضاً في بوش"؟ مصر - أحمد راسم النفيس