Alexandre Defay. Geopolitiqe du Proche-Orient. جيوبوليتيكا الشرق الأدنى. PUF, Paris. 2003. 128 Pages. قد يكون عنوان هذا الكتاب اكبر من موضوعه. ففي كل ما يتعلق ب"جيوبوليتيكا الشرق الادنى" بحصر المعنى، فانه لا يتعدى الوصف التاريخي الذي يأتي بجديد. ومع ذلك، فان لهذا الكتاب اهميته الخاصة، لأنه، اذ يمحور جيوبوليتيكا الشرق الادنى حول النزاع الاسرائيلي الفلسطيني، فانه يتعدى نطاق المعطيات التاريخية شبه المعلومة للجميع ليدلل على رؤية ونبرة شخصيتين. وآية ذلك ان مؤلفه، على كونه استاذاً للجيوستراتيجية في المركز الفرنسي للدراسات الاستراتيجية، شغل لمدة طويلة منصب مدير المعهد الفرنسي بتل ابيب وعمل مستشاراً ثقافياً وعلمياً للسفارة الفرنسية في اسرائيل. والواقع انه ليس من قبيل الصدفة ان يكون قد آثر استخدام تعبير "الشرق الادنى" الذي نحتته الديبلوماسية الفرنسية في القرن التاسع عشر، بدلاً من تعبير "الشرق الاوسط" المرتبط بالسياسات الكولونيالية للامبراطورية البريطانية. فالشرق الادنى، المؤلف حصراً من سورية ولبنان والعراق والاردن وفلسطين/ اسرائيل، تعبير جيوبوليتيكي اكثر منه تعبيراً جيو-غرافياً نظير "الشرق الاوسط" الذي يغطي كل المنطقة الممتدة من ليبيا او حتى من المغرب وفق الباحثين الاميركيين الى شبه الجزيرة العربية وايران وحتى افغانستان وباكستان. فمن منظور "الشرق الاوسط" فان الغلبة الجيوبوليتيكية والجيوستراتيجية هي للنفط والاسلام. اما من منظور "الشرق الادنى" فان الغلبة بلا منازع للنزاع الاسرائيلي - العربي، او حسب التعبير الذي فرض نفسه في السنوات الاخيرة: النزاع الاسرائيلي - الفلسطيني. وبالفعل، ان نقطة انطلاق مؤلف "جيوبوليتيكا الشرق الادنى" هي هذا التحول الاصطلاحي البليغ الدلالة جيبوبوليتيكياً. فمنذ بداية النزاع وحتى عام 1967 كان هناك اجماع اسرائيلي وعربي وفلسطيني على توصيفه بأنه نزاع اسرائيلي - عربي. فمن الجانب الاسرائيلي كان رواد الهجرة اليهودية الى فلسطين والجيل الثاني من القادة الصهيونيين هم الأشد حرصاً على توكيد "عروبة" النزاع بهدف نفي "الفلسطينية" عنه. ذلك ان مؤسسي الحركة الصهيونية الاوائل كانوا افترضوا ان فلسطين "ارض بلا شعب لشعب بلا ارض". لكن الصدام على ارض الواقع، او بتعبير ادق على واقع الارض يعود تاريخ او ل صدام عنيف بين العرب والمستوطنين اليهود الى 29 آذار/ مارس 1886 حينما هاجم السكان العرب من قرية "يهودية" مستوطنة "بتاح تكفا"، أقدم المستوطنات المدنية في فلسطين جعل الجيل الثاني من القادة الصهيونيين يعدلون استراتيجيتهم الاصطلاحية. فقد لاحظ حاييم وايزمان، رئيس المنظمة الصهيونية العالمية ابتداء من 1920 واول رئيس لدولة اسرائيل عام 1948، في معرض اعتراضه على السياسة البريطانية، عقب صدور وعد بلفور مباشرة، ان الادارة البريطانية لا تزال تتصرف "كما لو ان هناك شعباً عربياً في فلسطين". وانطلاقاً من المعايير الاثنية والاقتصادية والثقافية للقرن التاسع عشر الكولونيالي، أنكر وايزمان على سكان فلسطين العرب الأهلية لتكوين شعب، وهذا على عكس حال اليهود المؤهلين، هم وحدهم، لخلق دولة في فلسطين تنطبق عليهم معايير تقدم الغرب وقيمه الحضارية والديموقراطية. لكن ازاء اعتراض بعض "العادلين" من المفكرين الصهونيين، وفي مقدمهم الفيلسوف النمسوي الاصل مارتين بوبر، ممن طالبوا بقيام دولة ثنائية القومية في فلسطين، بادر بن غوريون، الذي سيشغل لاحقاً منصب اول رئيس للحكمة في اسرائيل، الى تطوير أطروحة وايزمان من خلال تأويل جديد: فانطلاقاً من التصور الالماني الموروث عن هردر وفيخته والقائل ان لا دولة الا حيث يكون هناك شعب متميز بهويته الثقافية واللغوية، قال بن غوريون انه لا يوجد في الشرق الادنى سوى شعبين وشعبين فقط، مؤهلين لإقامة دولة قومية، هما الشعب اليهودي والشعب العربي. وبما ان عرب فلسطين ينتمون الى الشعب العربي بلغتهم وتقاليدهم وديانتهم السائدة الاسلام والمسيحية، فليس من حقهم ان يؤسسوا انفسهم في شعب فلسطيني. وبحكم انتمائهم ايضاً الى الشعب العربي الذي يحوز اراضي شاسعة للغاية. ففي مقدورهم ان يقيموا لانفسهم دولة قومية حيثما شاؤوا من الارض العربية، على حين ان اليهود ليس لديهم ارض اخرى يقيمون عليها دولتهم سوى ارض اسرائيل التي هي اضيق اصلاً من ان تتسع لدولتين، لا سيما انها مدعوة لأن تؤوي جميع يهود العالم. اطروحة وايزمان - بن غوريون هذه ظلت هي العقيدة المتبناة من قبل غالبية الاسرائيليين حتى مطلع الثمانينات. وقد شرعت بالاهتزاز، لأول مرة، عقب الانتصار العسكري الكبير لاسرائيل في حرب 1967. فضم الضفة الغربية وقطاع غزة أعاد طرح المعادلة الديموغرافية بين اليهود والعرب، في الوقت نفسه الذي طفق الاسرائيليون يكتشفون فيه وجود "واقعة فلسطينية". فعلاوة على انشاء منظمة التحرير الفلسطينية اواسط الستينات وقبولها عضواً مراقباً في منظمة الاممالمتحدة عام 1974، فان الاحتكاك اليومي في الاراضي المحتلة مع مليون عربي يعلنون عن تمسكهم بهويتهم الفلسطينية أجبر الاسرائيليين على الاعتراف - ولو ضمنياً - بوجود شعور قومي فلسطيني غير قابل للاختزال الى محض انتماء الى العالم العربي، لا سيما أن الفكرة القومية العربية كانت دخلت هي نفسها في العالم العربي في طور أزمة وأفول، وبخاصة بعد توقيع مصر على معاهدة السلام مع اسرائيل 1979 التي قرعت عملياً ناقوس موت القومية العربية وكرست في الوقت نفسه فلسطينية القضية الفلسطينية. والواقع انه رغم رد الفعل العنيف الذي صدر في حينه عن جملة الدولة العربية وفي مقدمتها دول جبهة الرفض، فانها لم تلبث ان سارت على خطى مصر في "تطبيع" علاقاتها مع إسرائيل بصورة كلية أو جزئية الأردن، المغرب، موريتانيا، البحرين. ولم تحجم سورية نفسها عن الدخول في مفاوضات للهدف نفسه، وإنما من دون الوصول إلى نتيجة. لكن المفارقة الكبرى في هذا الانسحاب العربي من الصراع مع إسرائيل أنه بقي محصوراً بالصعيد الرسمي، دون أن يأخذ بعداً شعبياً. ويعود دور حاسم في هذا المجال إلى وسائل الإعلام التي، على كونها رسمية في معظم الدول العربية، ما زالت تمارس أشد أنواع العداء اللفظي والايديولوجي لإسرائيل، وهذا بتحريض أو تساهل من نفس قادة الدول التي اعترفت بإسرائيل بصورة كلية أو جزئية، نظراً إلى أن العداء لإسرائيل يظل هو المتنفس للجماهير العربية عن احباطاتها والمخرج للحكومات العربية من اخفاقاتها التنموية والاقتصادية والاجتماعية. وإنما في هذا الهامش - الواسع والحق يقال - الفاصل بين السلوكين الديبلوماسي والإعلامي للدول العربية، تجد الحركات الإسلاموية الجذرية، ذات المنطلقات اللاسامية والقائلة بأزلية الصراع بين العرب واليهود، مرتعاً خصباً للمزايدة على الأنظمة العربية ولاكتساب المزيد من الشرعية والشعبية في أنظار الشعوب. وربما هنا تحديداً تكمن واحدة من كبرى المفارقات الجيوبوليتيكية للصراع المركزي في الشرق الأدنى. ففي الوقت الذي باتت فيه جميع الأطراف المعنية، العربية والإسرائيلية والفلسطينية، على حد سواء، تنزع إلى اختزاله إلى صراع إسرائيلي - فلسطيني، فإن القوة الوحيدة في العالم التي تجد نفسها مضطرة إلى أن تأخذ في الاعتبار بُعده العربي هي الولاياتالمتحدة. فهذه القوة العظمى، التي تخوض منذ 11/9/2001 حرباً عظمى ضد الإرهاب، لا تستطيع أن تتجاهل أن النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني هو مولِّد رئيسي للإرهاب في العالمين العربي والإسلامي. وبقدر ما أنها معنية ليس فقط بمكافحة الإرهاب، بل كذلك بتجفيف منابعه، فإنه لا خيار أمامها سوى أن تسعى إلى حل ما للنزاع يكون "عادلاً" بما فيه الكفاية بحيث لا يضطر أي من الطرفين إلى رفضه. ولقد بدا للولايات المتحدة أنها وجدت مثل هذا الحل من خلال ما أسمته "خريطة الطريق" التي شاركها في رسمها الأوروبيون والروس ومنظمة الأممالمتحدة، لكن الصك على بياض الذي أعطته إدارة الرئيس بوش لحكومة شارون لاستئصال شأفة "الإرهاب" الفلسطيني أدخل "خريطة الطريق" في طريق مسدود. فقد كان من المفترض، بموجب هذه الخريطة، أن تقوم منذ نهاية 2003 دولة فلسطينية موقتة، على أن يتم تحديد حدودها النهائية قبل نهاية 2005. والحال أن شيئاً من هذا القبيل لم يتحقق، لا سيما أن الولاياتالمتحدة نفسها باتت مشغولة بردم بؤرة الإرهاب التي فجرها، من حيث لا تتوقع، تدخلها العسكري في العراق. وازاء مأزق من هذا القبيل، فإن مؤلف "جيوبوليتيكا الشرق الأدنى" لا يجد من مخرج آخر سوى عملية تحكيم دولي مشابه لما جرى في كوسوفو وتيمور الشرقية، تقودها الولاياتالمتحدة نفسها، وبمشاركة مع سائر أعضاء اللجنة الرباعية، وفق روزنامة دقيقة يوكل تنفيذها إلى قوة دولية. لكن ما ينقص مبادرة كهذه هو "الإرادة الطيبة الأميركية" التي بات كل الأطراف المحليين والاقليميين والدوليين يطلبون تدخلها ادراكاً منهم بأنها هي وحدها التي تملك مفتاح الحل المستعصي. فجميع الأطراف الأخرى يريدون، لكنهم لا يستطيعون، ووحده الطرف الأميركي يستطيع، لكنه ما زال متردداً في ان يريد. وقد تتيح الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة في تشرين الثاني نوفمبر فرصة لتمخض مثل هذه الإرادة.لكن ليس من شيء مؤكد سوى أنه ما لم تتوفر تلك الإرادة، فإن السيناريو الأكثر تشاؤماً هو ما ينتظر الشرق الأدنى المرشح على هذا النحو، لأن يكون منبعاً غير قابل التجفيف للإرهاب.