مع انتهاء عمليات تصوير الملحمة الشعبية "أبو زيد الهلالي" في صورة مسلسل تلفزيوني من انتاج تلفزيون أبو ظبي تمهيداً لعرضه في شهر رمضان المقبل وإسناد مهمة الاخراج الى السوري باسل الخطيب الذي اتكل على نخبة متميزة من الفنانين السوريين، اضافة الى وجوه فنية عربية من تونس والمغرب والعراق وفلسطين، تكون الدراما السورية وقعت في شرك الملحمة الشعبية التي أغوتها بعد تجارب عُدت بمثابة اختبار لها في هذا المجال. وفتحت السير الشعبية العربية شهية الأعمال السورية في الخمس سنوات الأخيرة، بعدما استنفدت الفانتازيا التاريخية الهدف الذي وجدت من أجله، واستشف القائمون على الدراما السورية معاني ودلالات من أحداثها، كما هي الحال في الدراما التاريخية، بهدف اسقاطها على الواقع الراهن السياسي والاجتماعي بكل ما تزخر به تقلباته من صراعات وتناقضات. وعلى رغم الانتقادات التي جوبه بها هذا النوع من التوجه لجهة ترابط حبكته الدرامية مع الحقائق التاريخية والتراث الشعبي للمناطق التي شاركت في صوغه، دعمته المؤسسات الانتاجية العربية وغدا سمة مميزة للأعمال السورية. وعزز من نهجه الحفاوة التي لقيها في الفضائيات العربية وإقبال الجمهور العربي عليه، وهو المعني بجدوى استمرار هذه العروض وصاحب هذا الإرث الشفوي الذي ظل حكراً على المقاهي الشعبية وذاكرة الأجداد في حفظه وتلقينه للأجيال التالية. وتكمن صعوبة الأعمال الملحمية في تكنيك الإخراج والإبداع البصري الذي تتطلبه عناصر المادة المصورة لمقاربة ملامح الحدث الأصلي ببعديه الزماني والمكاني، مع جهد مضاعف يبذله المؤلف في تحقيقه الدائم لإقصاء المبالغات والخرافات والأساطير عن فكرة العمل العقائدية وسياقه الاجتماعي، اضافة الى العناية بالشخصيات غير المحورية وتعدد مستويات الايقاع، بخلاف الفانتازيا الضبابية المشهد التي تترك هامشاً من الحرية ومتسعاً من عدم الالتزام ليمارس المخرج رؤاه الإخراجية بالطريقة التي يحب، يساعده في ذلك كاتب السيناريو والطاقم الفني. حفلت المراجع التاريخية والأدبية التي تناولت السير الشعبية العربية بالكثير من الاختلاف والتباين في سرد الوقائع وحتى بعض المسلّمات، ولم ترق الدراسات والبحوث الأكاديمية في هذا المجال الى المستوى المأمول منها لإزالة الريبة والشك من نفوس كتّاب الدراما الذين اختزلوا الكثير من الأحداث وأضافوا أخرى اقتضتها بنية العمل الدرامي وشكله الفني. استهل المخرج السوري حاتم علي باكورة نجاحات الدراما السورية الخاصة بالملاحم الشعبية من خلال "الزير سالم" الذي أنتجته "سورية الدولية" ويحكي قصة حرب البسوس التي دارت رحاها في نجد وامتدت نحو 40 عاماً بين قبيلتي بكر وتغلب العربيتين، وكان قبل ذلك اتكأ على السيرة الشعبية في مسلسل حمل اسم "سفر" من دون أن يرتقي الى تطلعاته وأسلوبه في الاخراج. برع علي في ملحمة العرب الشهيرة في استثمار نص ممدوح عدوان ذي الحوار العقلاني والمنطق الدرامي وتسخير عناصر الديكور والملابس والاكسسوارات والماكياج لإضفاء نوع من الواقعية والصدقية على شخوص عمله في محاولة "لكشف العلاقات والأبعاد الإنسانية التي أنتجتها الحرب بعيداً من الحرب ذاتها، وبذلك يستمد العمل معاصرته ومشروعيته" كما يرى. وحقق بذلك نجاحاً باهراً بدليل عرض المسلسل أكثر من مرة في بعض القنوات العربية. وأثار مسلسل "سيف بن ذي يزن"، الذي أنتجته شركة "لين" السورية وأوكلت مهمات اخراجه الى السوري مأمون البني وتناول الفترة التي سبقت ظهور الإسلام في اليمن، ردود فعل عدة وزوبعة لم تهدأ بعد، على الأقل، بالنسبة الى الأوساط الشعبية والمثقفين اليمنيين اضافة الى الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون اليمني الجهة الممولة والتي اعتبرت ان الجانب السوري أخلّ بشروط العقد الموقع معها. واعتبر متخصصون ان المقولات التي قدمها العمل لا علاقة لها بتاريخ اليمن، على رغم اتفاق الطرفين على التنسيق لجهة الشخصيات التاريخية، فجاء الطرح أقرب الى الأسطورة منه الى السيرة الشعبية الشفهية والسردية والمدونة لمنطقة الحدث وبعيداً من حقائقها وآثارها "ما هدد تراث اليمن متجاوزاً المغزى التاريخي والسياسي منه والصراع القبلي على السلطة، كما أنه لم يحقق أداء جيداً وفق ما هو مأمول منه"، بحسب قول أحد النقاد. ويؤخذ على الأعمال التي تناولت السير الشعبية، والتي لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، تأليهها للزعيم الفردي واعتمادها على التطويل والاستعراض وتكاليف انتاج مرتفعة بما تتطلبه من منشآت ومرافق ومعدات وأعداد ضخمة من ممثلين وكومبارس يجهل الممولون خصوصياتها، وهي المشكلة الرئيسية في انتاجها. وتؤكد ذلك أعمال نجدت أنزور التي تعتمد على الإبهار والزخرفة البصرية وعنصر الصورة كأهم مكوناتها وتسير أحداثها بتؤدة وروية لتشغل حلقاتها عدد أيام شهر رمضان، وهو ما لم يسلم منه العمل الملحمي "آخر الفرسان" الذي حاول المزج بين سير شعبية عدة تنقل البطل رشيد عساف من خلالها بين قارتي آسيا وأفريقيا للتوليف بين وقائعه.