في شوارع النجف الضيقة التي لا تهدأ من عمليات القنص ويصعب توقع ما قد يحدث فيها لا يحظى الموتى بالاحترام. ما أن عرف جابر قصيم 74 عاماً ان أحد القناصة قتل ابنه حتى سعى الرجل الى استعادة الجثمان. وحين اقترب من الجثة المنتفخة رافعاً يديه ليثبت أنه غير مقاتل انهال عليه الرصاص فارتد سريعاً الى الوراء. قال: "لم أستطع أن أفعل شيئاً. لم يكن في وسعي المجازفة. لم تكن هناك وسيلة لاستعادة ابني. كنت أستطيع أن أرى جاسم. كانت احشاؤه ظاهرة وجثته منتفخة". عند عودته الى المنزل كان على قصيم أن يبلغ زوجته بموت ابنهما. فأخذت "تبكي وتبكي". لقد حولت المعارك بين القوات الاميركية والميليشيا الشيعية اجزاء من النجف الى مرتع للقناصة الذين يصوبون أسلحتهم من أعلى البنايات الى الشوارع التي كانت فيما مضى ملتقى للاصدقاء والجيران وساحات يلهو فيها الاطفال. لا أحد يستطيع رؤية القناصة ويصعب تحديد هويتهم. هل هم من القوات الاميركية أم من الميليشيا الشيعية. لا أحد يعرف. ويقول بعضهم ان المسؤولية تقع على عاتق أنصار الزعيم الشيعي مقتدى الصدر الذين يتحصنون داخل مسجد الامام علي أو يتمركزون في أعلى بنايات مهجورة لاصطياد القناصة الاميركيين المتحصنين في الدبابات. غير ان الغالبية مثل قصيم يقولون أن الاميركيين والحكومة العراقية الموقتة المتحالفة معهم يتحملون مسؤولية أعمال القتل والتدمير في النجف. وقال قصيم "نعرف انهم الاميركيون. دبابة أميركية مرت أيضا على ساق جاسم". ولم تكن ثمة طريقة للتيقن مما اذا كان القناصة الاميركيون هم قتلة ابنه الذي كان يبلغ ال36 عاماً. بعد سقوط نظام صدام الذي حكم البلاد بقبضة من حديد وحمل على الشيعة، سادت الامال في أن تنتعش النجف التي تحظى بمكانة مقدسة لدى ملايين الشيعة في شتى أنحاء العالم والتي تعد مركزا للتعليم الديني ورجال الدين البارزين. غير ان سكانها يعيشون مواجهات ليس ثمة ما يشير الى انها ستهدأ. وفيما كان قصيم يصف آخر مرة شاهد فيها ابنه انطلق الرصاص من بنادق "اي.كي -47" فوق منزله الصغير. لم يبد عليه أي رد فعل. لقد كان حزيناً للغاية غير آبه بأي خطر. بدا كأنه أيضاً لا يلحظ الدبابات الاميركية بصوتها الهادر وهي تتحرك على مقربة. وقال وهو يقف في منطقة احترقت فيها أرفف بيع الخضراوات "ابني كان في طريقه للعمل حيث كان يدفع عربة يد مليئة بالخضراوات كان يسعى لبيعها للعمال الذين يعملون قرب السوق. ثم هرع الي صديقه الذي أصيب برصاص القناص وأبلغني الخبر". واستمرار المعارك يعني انه لا يمكن للعائلة اقامة سرادق لتلقي واجب العزاء بجاسم حسبما تقضي التقاليد. وعندما تراجع نشاط القناصة استعادت العائلة جثمانه ودفنته في بلدة الكوفة القريبة. وعلقت لافتة تنعى فيها الى الجيران والاصدقاء وفاة جاسم . غير ان قلة من الناس يغامرون هذه الايام بالخروج الى الشارع. وقال حسن شقيق جاسم "ابنته لم تتعد الخمسة أعوام. قلنا لها ان والدها سافر".