يبدو ان بين فرنسا والاولمبياد علاقة خاصة، لا تريد ان تنفك. فمن المعلوم ان الالعاب الاولمبية الحديثة، انطلقت على يد البارون الفرنسي بيار دي كوبرتان. وكرس كوبرتان كل جهوده ونفوذه لاحياء التقليد الاولمبي. والحال ان يد البارون الفرنسي وقفت وراء انطلاقة اول دورة اولمبية حديثة في اثينا 1896. ولم يكن كل جهده خالصاً لوجه الرياضة، على رغم من كل الكلام الجميل عن الرياضة وروحها الانسانية "التي تسمو فوق كل الانقسامات بين بني البشر"، الذي غلّف به مسعاه. والحال انه لم يسعَ الى بعث الحركة الأولمبية، الا لإظهار القوة "الجسدية" لفرنسا في مواجهة الجار الألماني ذي التاريخ العسكري المديد. وبعد هزيمة لويس بونابرت 1871 على يد الالماني بسمارك، اراد دي كوبرتان ان تكسب فرنسا "الحرب" الاوروبية التالية، اي ان تثبت تفوقها في مجال النزالات الرياضية! ومع عودة الالعاب الى مهدها الاثيني "المزدوج"، اي في كل من التاريخين القديم -الاسطوري والحديث، عادت اليد الفرنسية لتلعب دورها الحيوي في تلك الالعاب. وفي الاولمبياد الراهن، تصنع فرنسا "الجهاز العصبي"، بوسائل المعلوماتية والالكترونيات، للدورة. فحتى قبل ان يذوب الجليد عن دورة "سولت لايك" للالعاب الشتوية 2002، التي شهدت فضائح منشطات وتحكيم وتشدداً دينياً من المدينة التي استضافت الالعاب، انتقل فريق من خبراء الكومبيوتر والانترنت من "سولت لايك" تلك الى اثينا. ويتخصص الفريق في تركيب البنية الالكترونية التحتية للالعاب الاولمبية، الذي يعتبر بمثابة "الجهاز العصبي" للاولمبياد. ويتولى رصد الارقام المسجلة في المسابقات كافة، ويوصلها الى الجهات الرسمية والصحافة وشبكة الانترنت ومشاهدي اقنية التلفزيون في العالم. وسرعان ما تضخم الفريق. واضحى عملاقاً يضم 3400 اختصاصي في شؤون الشبكات والبث المتلفز والدوائر الالكترونية وغيرها. ويتشكل "الجهاز العصبي" لاولمبياد اثينا من 10500 كومبيوتر و900 خادم لشبكة الانترنت و400 جهاز يونيكس لقواعد البيانات و4000 جهاز الكتروني لقياس نتائج المسابقات و2000 جهاز فاكس وناسخة ضوئية و2000 طابعة الالكترونية. ويشدد جان شيفالييه، نائب رئيس "برنامج الالعاب الاولمبية" Olympic Games Program، في الشركة الفرنسية "اتوس اوريجن" Atos Origin للمعلوماتية www.atosorigin.com، على ان رصد النتائج تشكل بؤرة اهتمام هذا الفريق الالكتروني. ولن يتوقف عمل تلك الشركة عند الاولمبياد الاثيني، فستتولى ايضاً مسؤولية العاب تورينو ايطاليا الشتوية في العام 2006، واولمبياد بيجينغ في العام 2008. الاكروبولوس الالكتروني ويتجمع "الجهاز العصبي" في مقر خاص، اطلق عليه بعضهم اسم "الاكروبولوس الالكتروني". وعُرف رسمياً باسم "مركز العمليات التكنولوجية" Technology Operations Centre ، واختصاراً TOC . ويمتد على مساحة 600 متر مربع. ويحتوي على 135 مكتباً اساسياً، وعشرين شاشة تلفزيون عملاقة تعمل بتقنية البلازما، مهمتها نقل النتائج، لحظة بلحظة، وكذلك مواعيد المسابقات، الى فريق الخبراء، لتأمين حسن سير العمل كله. ويتضمن النظام عشر قنوات من البث المتلفز عبر الدوائر المغلقة. ويمكن وصل الدوائر المغلقة بالنظام العالمي للبث المتلفز والإذاعي. وعلى شاشة مركزية في TOC، تظهر خريطة الكترونية كبيرة لمدينة اثينا. وتعطي الخريطة تفاصيل البنية التحتية في المعلوماتية والاتصالات للعاصمة اليونانية. ويعتبر TOC قلب الجهاز العصبي الالكتروني للاولمبياد. والحال ان الالعاب الاولمبية صارت ظاهرة تلفزيونية كلياً. ويتابع الاولمبياد الراهن اربعة بلايين مشاهد يتوزعون في دول الكرة الارضية. ويعمل الفريق الالكتروني بدأب لإيصال النتائج والأسماء، حيث تسيل بسهولة ويسر، من المضمار الرياضي الى العاملين في شركات التلفزة. وطورت "اتوس اوريجن" برنامجاً للمعلوماتية ينقل المعلومات الى الجهات المعنية، بما في ذلك 21500 ممثل لوسائل الاعلام المختلفة، خلال اقل من كسر من الثانية من تحقيق النتيجة فعلياً. وبعبارة اخرى، قبل ان يبدأ الجمهور في الهتاف للفائز، تكون النتائج التفصيلية قد وصلت الى شبكات التلفزة والانترنت والمكاتب الاولمبية والجهات الحكومية والصحافة وغيرها. ووضعت الشركة 21500 الف حزمة وثائق ورقية في تصرف الصحافة. تتوزع الحزم عبر 1500 منفذ في عشرين مقراً. وتلعب الشبكات الالكترونية الداخلية انترانت دوراً محورياً في توفير المعلومات للصحافة. وللمرة الأولى في تاريخ الاولمبياد، وفر منظموه موقعاً الكترونياً خاصاً للصحافة اسمه "ميديا انفو 2004" www.mediainfo2004.gr. يتكون الموقع من خمسين الف صفحة من المعلومات. وتحوي سيراً ذاتية لأبطال الالعاب الاولمبية على مر العصور. وتضم ثبتاً بالنتائج التفصيلية للمسابقات، بدءاً من اولمبياد اثينا 1896. "الوطنيات" الألكترونية لايخلو صنع الموقع من مفاخرة "وطنية" على الطريقة اليونانية. فقد صمم ليكون الرديف الالكتروني للمركز الصحافي الفعلي الذي جُعل في معبد "زابيون" Zappeion الأثري. وتحيط به حدائق غنّاء. والطريف ان مدخله شهد اول مسابقة مسايفة اولمبية في العام 1896. وحرص مصممو الموقع على تكريسه لترسيمة "وطنية"، تتمثل في التعريف باليونان ومدنها وتاريخها وآثارها، اضافة الى تقديم النشاطات المصاحبة للاولمبياد الرياضي، مثل "باراليمبكس" و"الاولمبياد الثقافي" وغيرها. ويمتلئ الموقع بصور الرياضيين الذين تراهن عليهم اليونان في الحصول على أكاليل الغار في الدورة الراهنة. وتبرز صورة العداء قسطنطينوس كونتيرياس، الذي خذل الرهان اليوناني عليه، بتورطه في فضيحة منشطات! واضافة الى ذلك، صنعت شركة "اتوس اوريجن" مئتي الف هوية ممغنطة، مع صور شخصية، للرياضيين والحكام والاداريين والمرافقين والرسميين والصحافيين والمتطوعين وغيرهم. وثبتت معلومات شخصية عن كل منهم في قواعد بياناتها. ويعمل فريق الشركة بدأب لضمان انتظام عمل "الجهاز العصبي" المعلوماتي للدورة. ويُعطى اهتمام خاص لخوادم الانترنت التي توزعت على 61 مركزاً، لتغطية انواع المسابقات كافة. وكما حال الجهاز العصبي في الانسان، يتمثل الشرط الأساسي لنجاح عمل هذا الجهاز العملاق، في ان يكون غير منظور وغير محسوس على الاطلاق! فالمطلوب هو ان تسير كل الامور بسلاسة، وليس ان تسود الأعطال، فيخرج الاختصاصيون الى العلن، ليصلحوا الكومبيوترات او الشاشات! واذا مر الأولمبياد ب"سلام الكتروني"، اي من دون اعطال ولا توقفات، فإن الهدف القديم للبارون دي كوبرتان، اي اظهار القدرات الفرنسية، ربما يتحقق على يد شركة فرنسية لا تعير ادنى اهتمام سواء للهوية الوطنية او للصراع بين القوميات. والحال انها ترسم صفحتها الاولى على الانترنت باللغة الانكليزية. وتجعل من اللغة الفرنسية مجرد اختيار آخر من ضمن مجموعة كبيرة من لغات العالم. وتضع منجزاتها في الاولمبياد الاثيني على لسان مكتبها في... لندن! أموال الرياضة الأولمبية تكلفت المنشآت الاولمبية 962.1 بليون يورو. وأثار الرقم نقاشاً سياسياً في اليونان، رافقته اتهامات بالفساد. والمعلوم ان الرياضة الحديثة باتت متداخلة مع عالم المال ومصالح الشركات والدول، على نحو يثير الكثير من الاسئلة الصعبة. وفي انطلاقتها المعاصرة، استخدم مؤسسو الحركة الاولمبية عبارات فخمة في التشديد على روح الهواية الاولمبية. ويعرف كل متابعي الألعاب ان "الهواية" لم تكن سوى اسطورة كبرى. ولم تحترم القوتان العظميان في حقبة الحرب الباردة، على سبيل المثال، قوانين الهواية ابداً. وتلاعبتا بالقوانين الاولمبية الى اقصى حد. ومع زوال الاتحاد السوفياتي، تولت الشركات الكبرى اموال الرياضة الاولمبية. وفي دورة لوس انجليس 1984، اسقطت "اللجنة الاولمبية الدولية" نهائياً شرطها "النظري" بأن تكون الألعاب الأولمبية حكراً على الهواة وحدهم. ودخل رجال الاعمال الى قلعة ألعاب جبل الأولمب، بدعم من رئيس اللجنة المنتخب حديثاً، حينها، خوان انطونيو سامارانش. والحال ان سامارانش جاء الى الاولمبياد من كرة القدم، التي كانت كرست الاحتراف منذ ثلاثينات القرن العشرين. وهكذا، دخلت الاموال، مع كل ما تحمله من امكانات وفساد، الى الرياضة الاولمبية من الباب الكروي. وعلى سبيل المثال، اختير الاميركي بيتر اوبيرروث، رئيس شركة سياحية، على رأس اللجنة المنظمة للاولمبياد في لوس انجليس، وكأنه تدعيم لسياق المال. سمح اوبيرروث للشركات الراعية ان تضع الشعار الاولمبي، ذا الحلقات الخمس، على كل شيء تريد بيعه مثل القمصان واكواب الشاي والقبعات وعلب المشروبات واكواب الفُشار وحتى ...الملابس الداخلية. استطاع اوبيرروث جمع 225 مليون دولار لتمويل اولمبياد مدينته، التي تشتهر باستضافتها هوليوود وكبريات شركات الترفيه التلفزيوني في العالم. نال أوبيرروث حصته من المال، اذ مُنح مكافأة بلغت 475 ألف دولار. سجلت دورة لوس انجليس سابقة بسماحها لشركات التلفزة التجارية بشراء حقوق البث التلفزيوني للألعاب الأولمبية. واشترت تلك الحقوق شركة "ايه بي سي- الرياضة" لقاء مبلغ 435 مليون دولار. وهكذا لم يأنف منظمو اولمبياد اثينا من وضع قسم خاص للشركات الراعية للدورة، على الصفحة الاولى من ذلك الموقع. والمفارقة ان القسم "يبرر" علاقة الاموال بالرياضة عبر استعادة الماضي اليوناني نفسه. ويشير الى ان نبلاء اثينا درجوا على وهب الاموال للدورات الاولمبية القديمة، وان منظمي تلك المسابقات حفروا اسماء الرعاة - النبلاء على نقوش تتحدث عن تلك الدورات الغابرة! وعلى رغم غرابة المقارنة، الا انها تندرج ضمن ظاهرة اوسع تميز الاولمبياد الراهن: استعادة الاسطورة. وهكذا استخدم الماضي الاسطوري، ضمن هوية وطنية ضيقة، لاعطاء تبرير ما لمصالح الشركات العابرة للقارات في عصر العولمة! ويتفق المزيج المتناقض الذي يجمع بين الاسطورة والهوية الوطنية الضيقة من جهة والعولمة من جهة اخرى، مع ذائقة عامة تميز عالم ما بعد الحداثة الذي نعيشه راهناً. ويوضح الموقع ان اكثر من نصف بليون يورو جاءت من شركات مثل كوكاكولا للمشروبات، وسامسونغ للالكترونيات، واتوس اوريجن للمعلوماتية، وكوداك للتصوير، وفيزا كارد لبطاقات الائتمان، وباناسونيك للالكترونيات، وزيروكس للطباعة والنسخ الضوئي، وغيرها.