بقدر ما أحب جمهور شكسبير مسرحيته الكبيرة "أوتيلو" أو "عطيل بحسب الترجمات العربية المتداولة، بقدر ما أولع فنانون آخرون بهذا العمل... وهؤلاء الفنانون بينهم رسامون وموسيقيون وشعراء انكب كل منهم على استلهام "دراما الغيرة والتردد" هذه لتحويلها الى مجالات فنية أخرى. واذ يقول المرء هذا، تحضره على الفور لوحات للرسام الفرنسي اوجين ديلاكروا، ومواطنه شابريو... ولكن تحضره في شكل خاص أعمال موسيقية عدة تمت بصلة مباشرة الى مسرحية شكسبير. فمن روسيني الى فردي وصولاً الى انطون دفوراك وجوزف راف وويليام روزنبرغ، تنوعت استلهامات "عطيل" وتفاوتت، بالطبع، مستويات هذه الاستلهامات. واذا كان في الامكان دائماً القول ان اقتباس جوزيبي فردي للمسرحية في اوبراه المشهورة، يظل الأكثر عاطفية وشاعرية في مجال تعاطيه مع الشخصيات، ما يعني - بالنسبة الى الذين يرون في شكسبير رومانسية ما بعدها رومانسية - ان عبقري الموسيقى الايطالية عند نهاية القرن التاسع عشر، كان الأشد إخلاصاً للروح الشكسبيرية، فإن في الامكان ايضاً ان نقول ان جواكيمو روسيني، مواطن فردي، كان الأشد تمسكاً بنظرة أخرى الى شكسبير ترى فيه كاتب المنطق والنزعة السيكولوجية، والتفاعل بين الاحداث والشخصيات. ذلك ان "عطيل" كما لحنها روسيني تتوقف طويلاً عند هذه الجوانب، وتحاول في تعبيرها الموسيقي ان تزاوج جوّانية مفعمة بالحيوية والعاطفة، وبرانية تحاول ان تركز على البيئة والأجواء العامة المحيطة بالشخصيات، في لحظات تأتي الموسيقى سردية باردة تكاد تخلو من اية عاطفة مفعمة. والحال ان كثراً أخذوا على روسيني هذا، فيما جاراه منهم كثر آخرون، بينما رأى جمهور ثالث ان أهمية "عطيل" على الطريقة الروسينية انما تكمن في ذلك التوليف الانطولوجي الذي توصل اليه روسيني واصلاً فيه الى حدود ان يجعل من "عطيل" صورة لبعض موسيقاه ككل. ومن هنا لا يعود غريباً ان نعرف ان روسيني في الفصل الثالث والأخير من اوبرا "عطيل"- وهو الفصل الأكثر قوة وجمالاً على أية حال - أدرج لحناً كان في الأصل وضعه لأحد فصول "حلاق اشبيلية". والطريف ان هذا اللحن، الذي كان مقصوداً منه في "حلاق اشبيلية" ان يبدو تراجيكوميدياً اي يجمع بين الهزل والدراما في آن معاً، أتى في "عطيل" ليعبر عن غضب عطيل وتمزق روحه ازاء ما اقترف. وهنا أيضاً لا بد من ان نذكر ان كثراً رأوا في هذا الاستخدام المعتاد للحن امراً لا يمكن قبوله، وخطأً من جانب الملحن، فيما رأى آخرون فيه تعبيراً عن عظمة الموسيقى وقدرتها على التعبير عن شتى العواطف ولو في "كريشيندو" واحد. ولكن مهما اختلفت الآراء وتنوعت، يبقى ان "عطيل" كما صورها روسيني موسيقياً، تظل عملاً مميزاً عاش نحو قرنين ولا يزال حتى يومنا هذا يبدو معاصراً شديد المعاصرة. فالواقع ان أوبرا روسيني هذه، قدّمت للمرّة الأولى، العام 1816 في نابولي في ايطاليا، خلال ذروة ما يمكننا تسميته ب"العصر الرومانسي" في الفنون الأوروبية، وفي وقت كانت تلك الفنون أعدت جمهورها تماماً لاستقبال شخصية درامية مركبة مثل شخصية ذلك التاجر الافريقي المقيم في البندقية عطيل، والتفاعل مع قوة غرامه وعماه العاطفي الذي يدفعه، كالقدر، الى السقوط في فخ ألاعيب الغيرة والنميمة والغدر. و"عطيل" في أوبرا روسيني، لا يختلف كثيراً عن "عطيل" الشكسبيري، وليس ثمة - على اية حال - اية اختلافات أساسية بين شخصيات هذا العمل وشخصيات ذاك. كل ما في الامر ان الموسيقي كثف الاحداث واختصر بعض الحوارات لكي يترك مكاناً لموسيقاه. وهكذا أتت هذه الأوبرا مؤلفة من ثلاثة فصول - في مقابل اوبرا فردي التي ستظهر بعدها بثلاثة ارباع القرن مؤلفة من أربعة فصول - تطاول كل الاحداث التي تتألف منها المسرحية الخالدة. اذ هنا أيضاً، تدور الاحداث في القرن السادس عشر في البندقية حيث يتم الترحيب بالبطل الافريقي عطيل بعد ان تمكن من إلحاق الهزيمة بالأتراك، وترتفع شعبيته حتى تصل الذرى. وفي الوقت نفسه يشتد الغرام المتبادل بين عطيل هذا، ودزدمونة، غير ان هذا الغرام العاطفي العنيف يصطدم منذ البداية بموقف والد دزدمونة الميرو، الذي كان أعطى يد ابنته الى مواطنه رودريغو. وهكذا يتم، حقاً، التحضير لعرس رودريغو ودزدمونة، بتأليب من اياغو الذي كان هو، في الأصل، من حرض رودريغو على التعجيل باقامة حفل الزفاف، لكي يتم الالتفاف بسرعة على غرام الحبيبين الذي - في رأيه - يجب ان يوضع حد له. وفي منتصف حفل الزفاف الباذخ، يظهر عطيل، فلا يعود في امكان دزدمونة ان تخفي حبها، او ان تواصل القبول بالزواج من رودريغو. وتكون النتيجة ان يلغى حفل الزفاف، ويفرض الأب الميرو على ابنته ان تختفي مغلقة الأبواب على نفسها داخل جناحها في المنزل العائلي. وبعد فترة، يتدخل اياغو من جديد، مشتغلاً هذه المرة على عطيل، اذ يتمكن بطريقة خبيثة من اقناع الافريقي بأن دزدمونة، في الواقع، تخونه مع رودريغو، وأن هذه الخيانة بدأت منذ زمن... في البداية لا يبدو الاقتناع على عطيل... ثم بالتدريج تحت وطأة تحريض اياغو الدائم له، يستبد به الجنون، ولا يعود قادراً على التفكير بمنطق، فينتهي به الأمر الى دعوة غريمه رودريغو الى المبارزة. ويتسبب هذا في الحكم عليه بالنفي، اذ ان مثل هذه الامور ممنوعة، قانوناً، في البندقية. واذ يذهب عطيل الى منفاه، لا تتركه الغيرة ابداً، بل تواصل أكله والهيمنة على كل وجوده وأحاسيسه... ما يدفعه الى العودة الى البندقية من دون ان يعرف أحد بذلك... وهو ما إن يصل الى المدينة، حتى يجتمع بدزدمونة،... ليقتلها. ويتمكن بالفعل من ذلك، من دون ان يخامره أدنى ريب في انها تخونه حقاً. وحين يرى اياغو، مهندس الخديعة كلها، نتيجة ما اقترفت يداه، هو الذي ما كان ليتخيل ان الامور ستصل الى هذا الحد، يهيمن عليه الحزن والندم، ويقتل نفسه بعد ان يكون اعترف بكل شيء. وهنا يصل الميرو مع الدوجي - سيد المدينة - وهما غير عارفين بالفاجعة التي حدثت. فهما اذ عرفا ان عطيل كان غرر به، سامحاه وها هما يريدان ان يبلغاه بأن حكم النفي عليه قد ألغي... اما هو فإنه يكون فقد اي مبرر للعيش، اذ خسر حبيبته على ذلك الشكل العبثي، لذلك يعترف أمام الرجلين بما فعل. ويروح ضارباً نفسه حتى الموت. اذا كان روسيني، في الفصلين الأولين من الأوبرا، قدم عملاً تقليدياً يماشي تماماً وصف الاحداث وتقديم الشخصيات في شكل وظائفي يخدم ما كان، هو، يتصوره روح العمل الشكسبيري، فإنه - على العكس من ذلك - قدّم في الفصل الثالث، عملاً خاصاً قوياً، جعل للموسيقى مكانة أساسية ووصل بها الى مستويات تعبيرية تقف نداً لتعبيرية النص الشكسبيري، ولا سيما مثلاً، حين يقدم نشيد بحار الغوندول "ما من ألم كبير"، أو "نشيد الصفصاف"، أو بخاصة الدويتو النهائي بين عطيل ودزدمونة، حتى وإن وجد نقاد ان ادخال "الكريشندو" الأوركسترالي هنا أساء الى العمل، خصوصاً ان روسيني لم يكتبه ل"عطيل" اصلاً، بل ل"حلاق اشبيلية". عندما لحن روسيني "عطيل" أو "اوتيلو" كما نفضل كان في الرابعة والعشرين من عمره، ما يجعل العمل واحداً من اكبر مؤلفات هذا الفنان الذي ولد العام 1792، ليرحل العام 1868. وروسيني هو، كما نعرف، واحد من كبار رواد فن الأوبرا الايطالي في عهده الحديث. وقد اشتهر من اعماله، الى "عطيل": "ويليام تل" و"الايطالية في الجزائر" و"قورش في بابل" و"سيدة البحيرة" و"سميراميس" وغيرها.