يعتقد كثيرون من مراقبي الوضع في الشرق الاوسط ان"شيئاً ما مفيداً يتحرك داخل المعسكرين الاسرائيلي والفلسطيني"[افتتاحية في مجلة"ذي ايكونوميست"، 31 تموز]. ويبدو ان رئيس الوزراء شارون برز باعتباره نصير براغماتية جديدة تتحدى دوغمائية ليكود والمستوطنين اليمينية فيما يسعى الى الانسحاب من غزة. فيما برزت ايضاً مجموعة من الحرس الفلسطيني الشاب، جديدة عازمة، فلم تتخدّ بطانة فاسدة تحيط بياسرعرفات فحسب بل تتحدى ايضاً قائد الحركة الوطنية الفلسطينية نفسه. ويستند تفاؤل هؤلاء المراقبين، للأسف، الى قراءة خاطئة كلياً للواقعين الاسرائيلي والفلسطيني معاً. فرئيس الوزراء شارون ليس على وشك ان يوافق على الشروط الأدنى كلياً لاقامة دولة فلسطينية قابلة للبقاء. ويدحض هذا التفكير القائم على تمنيات تصميم شارون الراسخ على تجنب التعامل مع الفلسطينيين، حتى لدرء الفوضى في اعقاب الانسحاب الموعود من غزة، وعلى توسيع النشاط الاستيطاني في ارجاء الضفة الغربية. انه وهم لا يفسده حتى اعلان شارون مشاريع بناء ضخمة جديدة في مستوطنات الضفة الغربية، أو تأكيده الصريح انه لا ينوي الانسحاب من غزة إلاّ بسبب اعتقاده انه الثمن الذي يجب ان تدفعه اسرائيل مقابل الاحتفاظ بما يكفي من الضفة الغربية لضمان سيطرة اسرائيل الدائمية على المنطقة. أما بالنسبة الى الفلسطينيين، فإن الحرس الشاب الناشىء لن يوافق ابداً على فكرة شارون بشأن اتفاق سلام: اتفاق"موقت"يترك اسرائيل تسيطر على الضفة الغربية ويرجىء لعقود اقامة دولة فلسطينية حتى في الوقت الذي تستمر فيه اسرائيل بتفتيت ما تبقى من الاراضي الفلسطينية الى كانتونات معزولة. ويطالب الحرس الشاب بوضع حد لفساد زعمائه وبموقف استراتيجي متماسك من الكفاح من اجل اقامة دولة فلسطينية، وهو ما فشل عرفات في تطويره. ومدى نجاح الحرس الشاب في إنضاج موقف استراتيجي كهذا، وما اذا سيتبنى العنف او يرفضه، سيتوقف الى حد كبير على استعداد اسرائيل لتطمين الفلسطينيين بأنه يمكن تحقيق دولة قابلة للبقاء بوسائل غير عنفية. وهو تطمين لا يتضمنه من قريب او بعيد اقتراح شارون الاحادي الانسحاب من غزة. الفرق بين شارون ومنتقديه اليمينيين يكمن بشكل اساسي في طريقة العرض، لا في جوهر مواقفهم. أنهم يختلفون بشأن ما اذا كان ينبغي ان يسمح للفلسطينيين بأن يطلقوا اسم دولة على ترتيب اشبه بنظام ابارتايد يتألف من كانتونات غير متصلة ومعزولة. ويصرّ شارون على أنها ينبغي ان تسمى دولة، لأنه بخلاف ذلك سيرفض هذا الترتيب من جانب الولاياتالمتحدة. ويجادل كثيرون في ليكود، من ضمنهم بنيامين نتانياهو، بأن التسليم بحق الفلسطينيين في اقامة دولة سيطلق دينامية في اتجاه السيادة تعجز اسرائيل عن التحكم بها. واياً كانت الخلافات بين هؤلاء بشأن الالفاظ والتكتيكات وحول خيار التخلي عن غزة، فإن شارون ومنتقديه في ليكود يتقاسمون رؤية متماثلة جوهرياً. وافضل من قدم عرضاً لمنطق هذه الرؤية هو عوزي آراد الذي كان مستشاراً لشؤون السياسة الخارجية لنتانياهو عندما كان رئيساً للوزراء، ويعمل حالياً في معهد فروع المعارف المتداخلة في هرتسليا الذي يلقي رئيس الوزراء ورؤساء المؤسسة الامنية الاسرائيلية في اجتماعاته السنوية اهم خطبهم. وكان شارون اعلن في اجتماع كهذا في كانون الاول ديسمبر الماضي نيته الانسحاب بشكل أحادي من غزة. سخر آراد في مقالة كتبها في هآرتس 6 آب/ اغسطس 2004 من الرأي القائل بأنه يتعين على اليهود، لأنهم سيصبحون اقلية في فلسطين، ان ينسحبوا من الاراضي المحتلة او يفرضوا نظام ابارتايد على الفلسطينيين اذا ارداوا الاحتفاظ بدولة عبرية. وقال ان"كل الحكومات الاسرائيلية، على امتداد العقد الماضي، نفذت فك اشتباك سياسياً عن سكان الاراضي الفلسطينيين. لقد اخليت مدن وبلدات الضفة الغربية منذ وقت طويل. ولم يعد عدد الفلسطينيين بين النهر والبحر ذا صلة بالنسبة الى كون اسرائيل دولة ديموقراطية عبرية". بالاضافة الى ذلك، فإن المشكلة بالنسبة الى الفلسطينيين، بحسب آراد، لا تدور حول تحقيق مبدأ"صوت واحد لكل رجل"، لأن الفلسطينيين لديهم بالفعل حق التصويت في انتخابات المجلس الفلسطيني! "انسحبت"حكومة جنوب افريقيا ايضاً من البانتوستانات التي كانت انشأتها كمواطن للغالبية السوداء. ويبدو ان آراد واولئك الذين يؤيدون سياسات شارون لا يفهمون، او لا يعيرون اهتماماً، لحقيقة ان هذا"الانسحاب"الجنوب افريقي بالضبط هو الذي كشف بوضوح طبيعة نظام جنوب افريقيا العنصري، وانه سيفعل الشيء ذاته بالنسبة الى اسرائيل اذا واصلت الاقتداء بنموذج جنوب افريقيا. ويمثل شارون والجناح اليميني في اسرائيل خروجاً جذرياً على الحس العقلاني المهيمن لمؤسسي الحركة الصهيونية: تيودور هرتزل وماكس نوردو وحاييم وايزمان وغيرهم. هؤلاء المؤسسون حفّزتهم مفاهيم ديموقراطية غربية تقدمية، ولم يكن بامكانهم ان يتصوروا دولة عبرية تبسط حكمها على شعب يحرم بشكل دائم من حقوقه المشروعة. احدى مفارقات التاريخ ان اليهود، الذين ساهموا بقسط يفوق حجمهم في الكفاح من اجل حقوق الانسان العالمية والحريات المدنية - ونظروا الى عودة اليهود القومية الى فلسطين بطريقة تنسجم مع هذه القيم - يؤيدون في الوقت الحاضر سياسات حكومة اسرائيلية يمينية تهدد بتحويل الدولة العبرية الى مشروع عنصري. فاذا كان شارون سيستمر في تلقي دعم الاسرائيليين ويهود العالم والولاياتالمتحدة فيما يحوّل انسحابه الموعود من غزة الى وجود اسرائيلي في الضفة الغربية تكون زحزحته مستحيلة، ستنتج سياسات شارون بالتأكيد مشروعاً عنصرياً. لقد سبّب الكفاح الوطني الفلسطيني، ناهيك عن الارهاب الذي جرى اللجوء اليه باسم هذا الكفاح، مشاكل امنية كبيرة لاسرائيل. لكن هذه المخاوف الامنية لا يمكن ان تستخدم مبرراً لسياسات ستجلب حكم فصل عنصري الى الضفة الغربيةوغزة. ليس صحيحاً ان العنف الفلسطيني يمثل خطراً على وجود دولة اسرائيل. بل اياً كانت جدية هذا الخطر يمكن التعامل معه من جانب اسرائيل، من داخل حدودها قبل 1967، بفاعلية لا تقل عما كان الحال في ظل ظروف الاحتلال. كانت الغالبية الساحقة من الاسرائيليين تؤمن بقوة لوقت طويل بأن مصالحهم الامنية الحيوية تتطلب منهم البقاء في جنوبلبنان. وهم يرون الشيء ذاته بشأن وجودهم في مرتفعات الجولان. وفي الواقع، تحسن امن اسرائيل على امتداد حدودها الشمالية على نحو مثير منذ انسحاب الجيش الاسرائيلي، ونعلم في الوقت الحاضر ان موشي يعالون رئيس اركان الجيش، مثل اسلافه، لا يعتقد بأن مرتفعات الجولان مهمة لأمن اسرائيل. ومن المحزن ان اسرائيل لا تزال موجودة هناك - وفي الضفة الغربية - لأنه بالنسبة الى زعمائها السياسيين، والى اسرائيليين كثيرين، اصبحت الارض أكثر اهمية من العدالة، او السلام، او المبادىء التي قامت عليها الصهيونية. * زميل متقدم في شؤون الشرق الاوسط في مجلس العلاقات الخارجية. وهذه الآراء تعبر عن وجهة نظره. وهو رئيس سابق للهيئة التنفيذية للمؤتمر اليهودي الاميركي ولمجلس معابد اليهود في اميركا.