انه سجن ال"آساييش" في مدينة السليمانية شمال العراق، التابع لجهاز امن الاتحاد الوطني الكردستاني. في هذا السجن عشرات من عناصر "انصار الاسلام" والخلايا "الجهادية" الموازية والمرتبطة بأمراء "الجهاد" العالمي، او ما يطلق عليه مجازاً اسم تنظيم "القاعدة"، الذي تحول وعاء افقياً يضم شبكات لا يربط بينها الا التشابه في الأفكار وخروجها على المجتمع وتكفير الدول والأنظمة وأحياناً المجتمعات. في سجن ال"آساييش" هذا عناصر كردية وعربية وأفغانية، وأخرى مغاربية وآسيوية. رجال وفتيان ألقي القبض عليهم في ساحات "الجهاد" في العراق. بعضهم كان على وشك الانتحار قبل ان يعتقل، وآخرون اعتقلوا اثناء توجههم الى "الجهاد" بعدما ارسلتهم مجتمعاتهم الى بلاد لا يعرفونها، ومنهم ايضاً من كان على حافة التورط في "الجهاد"، لكن اعترافات من سبقهم الى السجن انقذتهم من دماء "المجتمع المرتد". رزكار شريف وآراس امين ومصطفى عقاب وقيس ابراهيم، انها الأسماء الحقيقية لعناصر "انصار الإسلام" وتنظيم "التكفير والهجرة" و"جند الإسلام" وغيرها من الأسماء. وقضاء ايام مع هؤلاء في سجن ال"آساييش" في السليمانية، والجلوس في الغرف المجاورة لزنازينهم كان اشبه بالجلوس مع الرجل وقناعه في آن. فلعبة الأقنعة في السجون تكاد تكون تقنية الاتصال الوحيدة، فما بالك اذا كانت حال اصحاب هذه الأقنعة تتفاوت بين هذيان فتيان غير راسخين في "الجهاد" وبين من يقول انه في اليوم الأول للإفراج عنه سيتوجه الى اقرب سوق ويفجر نفسه فيه لأن "الفساد" وصل الى السوق. لن تتمكن من مقاومة ميلك الى محاولة رد الكلام الى الوجوه والملامح. وجه قيس يقع على مسافة متأرجحة بين الملاك والشيطان. ذلك الهدوء هو النهاية، او انه جاذبية الموت والفناء. اما رزكار غير النادم على "جهاده" فهو في سجنه اشبه بالنائم المنتظر ساعة الصحوة. اليقين الذي يجمع ملامح الوجوه المختلفة هو الطبقة الثابتة التي لا تخفيها الأقنعة. ويقول مسؤول ال"آساييش" في السليمانية دانا احمد شاسوار انه "من بين نحو مئة من عناصر انصار الاسلام الذين سلموا انفسهم او اعتقلوا بعد هزيمتهم في جبال حلبجة عام 2003، افرج عن نصفهم تقريباً بعدما اعلنوا ندمهم وتعهدوا قطع علاقتهم بهذه المجموعات. لكن جميع المفرج عنهم باستثناء واحد او اثنين جددوا علاقتهم بالشبكات وهم اليوم إما معتقلون او متوارون او مقتولون". الأردني مصطفى عقاب الذي يعتقد غير جازم ان من ارسله الى كردستان ل"الجهاد" هو فرع لتنظيم "القاعدة"، يبدو وضعه في سجن السليمانية غريباً، فهو ابن العشيرة الأردنية التي تبدو الإقامة في غير مضاربها مستحيلة، ولم يجد الا السجن لكي يتعرف على تسامح الأكراد وكرمهم. وتجمع الغرابة مصطفى مع قياس الدين، ذلك الشاب الأفغاني الذي وصل الى جبال هورمان على الحدود العراقية - الإيرانية ظاناً بأنه وصل الى فلسطين، ليكتشف ان الجماعة وضعوه على جبهة مع الأكراد لا مع الاسرائيليين. يتفاوت انسجام روايات المسجونين بين التحفظ المتعثر وسوق الوقائع في اتجاه يبقي حلقات من حكاياتهم مع تنظيماتهم غامضة وغير كاملة، لكن ثمة روائح اخرى ترشح من هذه الحكايات. فقد عرّض هؤلاء الشباب بانتمائهم الى خلايا الجهاد العالمية ضائقتهم المحلية الى اختبارات كونية، فاختلطت في رواية "المجاهد" الكردي صور الجهاد الآتية من افغانستان وإسبانيا بصور الجهاد في العراق، وترك الأردني ساكن الصحراء عشيرته وعالمه وتوجه الى جبال هورمان الوعرة والغريبة عنه غربة توازي غربته في افكاره وعنفه. لكن الحكايات المتعثرة والمساقة قد تفضي الى رواية مهتزة للجهاد، ففي وضوحها وعدم انسجامها تقع اسطورة "الجهاد" غير المنسجمة اصلاً. البحث مثلاً عن ابو مصعب الزرقاوي في الوقائع المروية يجب ان يتم من خلال ملاحظة دفع "المجاهدين" للوقائع في اتجاه استبعاد الرجل عن افعالهم، وتبرئة الملا كريكار من التورط في الأعمال الأرهابية غالباً ما تتم في اللحظة الأخيرة من الرواية، فهو مرشد "انصار الاسلام" وليس قائدهم الميداني، وبين هذين التعريفين تقع براءة الرجل او ادانته في المحكمة النروجية. قبل نحو اربعة اشهر وأثناء عودة رزكار من مدينة الموصل العربية في شمال العراق الى مدينته السليمانية اعتقله رجال الأمن التابعون للاتحاد الوطني الكردستاني. كان يحمل هوية مزورة وحاول مباغتتهم والفرار منهم، لكنهم اطلقوا رصاصة على قدمه واعتقلوه مجدداً. رزكار كان احد عناصر "انصار الاسلام" التي يتزعمها الملا كريكار، وبعدما قصفت القوات الأميركية مواقع هذه الحركة في نيسان ابريل من العام 2003 هرب الى ايران حيث اختبأ لمدة شهر تقريباً ثم قرر العودة الى العراق، فوصل الى السليمانية ووضع نفسه بتصرف رجال الأمن في الاتحاد الوطني الكردستاني الذين حققوا معه لأيام قليلة وأطلقوا سراحه. لكن رزكار جدد بعد اسابيع قليلة من اقامته في السليمانية اتصاله بجماعة "انصار الاسلام" الذين كانوا انتقلوا الى المدن العراقية بعد ضرب مواقعهم في منطقة هورمان على الحدود العراقية - الايرانية، وتحولوا الى مجموعات تعمل في امرة ابو مصعب الزرقاوي. اعادت جماعة "انصار الاسلام" الاتصال برزكار من خلال الملا خسرو الرحمن، وهو كردي من بلدة آزاد في قضاء السليمانية. وخسرو كان صديقاً لرزكار من ايام الاقامة في جبال بيارة في هورمان، وهو بحسب رزكار رجل مثقف ويعرف الاسلام حق معرفة، وقبل ان يلتحق ب"أنصار الاسلام" كان عضواً في الحركة الاسلامية في كردستان، ثم انشق عنها والتحق بالأنصار في امارتهم في جبال بيارة، ثم رجع الى السليمانية بعد القصف الأميركي. قصد الصديقان "المجاهدان" مدينة الموصل بهدف البحث في اعادة تأسيس خلايا الجماعة التي انفرط عقدها بفعل القصف الأميركي. فالموصل الوجهة الأقرب لإسلاميي كردستان. معظم الخيوط التي انكشفت والمرتبطة بأنشطة هذه المجموعات كانت الموصل حلقة اساسية فيها. تؤكد هذه الحقيقة روايات كثيرة جمعتها "الحياة" في سجن السليمانية التابع للاتحاد الوطني الكردستاني، وتؤكده وقائع مقتل عدد من امراء "الجهاد" الأكراد في الموصل، ويؤكدها ايضاً المسؤولون الأمنيون الأكراد. الملا خسرو ورزكار حين ارادا التحضير لبعث الخلايا "الجهادية" انقطعا في الموصل لأكثر من شهرين، وفيها راحا مع مجموعة اخرى من الأكراد يلتقون "أمراء الجهاد" العرب والأكراد. يقول رزكار: "التقينا في الموصل مع شخص يدعى سيد، وهو ابن عم الملا كريكار. في منزل سيد في الموصل بدأت التحضيرات لإعادة تأسيس خلايا جديدة للأنصار في السليمانية. كنا اربعة اشخاص إضافة الى سيد، خسرو وأنا وأيوب وريبوار، والأخيران من السليمانية ايضاً وكانا معنا في الجبال قبل القصف الأميركي". وخلال اقامة رزكار في الموصل تردد اكثر من مرة الى مدينته السليمانية ثم عاد الى الموصل، فقد كانت المهمة التي كلفه بها سيد شراء السلاح وتجنيد الأعضاء السابقين ومراقبة تحركات القوات الأميركية في السليمانية، وكذلك مراقبة احد المسؤولين الأمنيين الأكراد ويدعى زياد. الأسلوب الذي عمل فيه رزكار في السليمانية يكشف وجهاً اساسياً من وجوه عمل هذا النوع من الشبكات بين السكان. فقد سبق لرزكار في العام 2000 ان جند صديقاً له في الأنصار اسمه امانش، لكن حظ امانش العاثر جعله قتيل انفجار قنبلة كان يضعها في صدره في جبال بيارة. وامانش من مدينة السليمانية وما زال رزكار يعرف منزل عائلته فيها ويعرف ايضاً ان اشقاءه يمكن استدراجهم الى الجهاد. اتصل رزكار بآراس شقيق امانش وأقام معه علاقة عمادها سيرة شقيقه في الجبل، وبعد مدة فاتحه بضرورة الالتحاق بطريق الشقيق "الشهيد". آراس يبلغ العشرين من العمر وهو معتقل ايضاً في سجن السليمانية. لا يبدو عليه انه محترف "جهاد"، ولم يُبد اي قدر من التماسك الذي يبديه عناصر الأنصار في سجنهم. من يرى آراس يدرك سر انقياده لرزكار، فهذا الشاب غير الممسك زمامه متنازع في سجنه بين خوفين، الأول من السجان ومن حجم تورطه الذي يجهل حدوده، والثاني من الأنصار الذين سبق ان ابلغوه ان الافشاء يعني التصفية الجسدية. ويقول آراس: "مهمتي اقتصرت على شراء السلاح، فقد كلفت شقيقي الأصغر الذهاب الى السوق وشراء ثماني قطع كلاشنيكوف وقاذف آر بي جي وسلمتها الى رزكار الذي اصطحبني لاحقاً في مهمة رصد ومراقبة مسؤول في الاتحاد الوطني الكردستاني". هذه التقنية في الاتصال والانتشار الأفقي تحولت بعد القضاء على جيوب "انصار الاسلام" في الجبال الى نوع اساليب تنظيم الخلايا. فأمراء الخلايا الصغيرة هم المرجع الأخير للعناصر وهم من يقرر العمليات وهم من يحدد للمجاهدين اهدافهم. ويقول دانا شاسوار: "التنظيمات الإرهابية في العراق مرتبطة بتنظيم القاعدة ولكنها تعمل بأسماء كثيرة. مثلاً هناك مجموعات انصار الإسلام وهم اكراد يتعاونون مع الزرقاوي، وهناك انصار السنّة وهم تحت إمرته وهناك مجموعات تعمل تحت اسم التوحيد والجهاد وآخرون يعملون تحت اسم الحركة السلفية الجهادية. الأمير الأكبر في العراق هو الزرقاوي، ولكن هناك امراء وسطاء. فللزرقاوي مساعد اردني والمسؤول العسكري العام في العراق هو ابو محمد اللبناني وهو فلسطيني من مخيمات لبنان. وهناك امراء محليون، فأمير حركة التوحيد والجهاد التي تنشط في بغداد هو عمر بازياني الذي اعتقل قبل اسابيع، وأميرالحركة السلفية الجهادية التي تنشط في الموصل اسمه ابو طلحة، وهناك ادريس امير بعقوبة وهيمن بابيشاري امير اربيل والسليمانية ودهوك". الهدف من كثرة الأسماء كما تشير الوقائع التشويش على اية محاولة ربط بين العمليات ومنع انكشاف المجموعات من خلال فصلها تنظيمياً، ولكن يؤكد دانا ان هذا الأمر ادى ايضاً الى انهدام البنية التنظيمية لهذه الجماعة بحيث تحول الأمراء الصغار الى قادة يقررون كل شيء وصار من الصعب على هذه الجماعات ضبط عملها على ايقاع، فانعدم دور القيادة السياسية والتنظيمية المركزية لها. ثمة تشابه بين الوضعين الكردي والأفغاني في علاقتهما ب"المجاهدين" العرب، فزائر افغانستان وخصوصاً مناطق العشائر البشتونية فيها سيلمس مقدار الاعجاب الذي يكنّه مقاتلو هذه العشائر للأفغان العرب، هذا الاعجاب ثمة ما يوازيه في كردستان، فحديث "المجاهدين" الأكراد عن مدينة الموصل العربية وما تؤمنه من بيئة ومأوى للجهاد والمجاهدين يشعرك بأن هؤلاء يتحدثون عن عاصمة الخلافة. اعجاب سكان الجبال الوعرة سواء في افغانستان او كردستان بمدن الصحراء في الجزيرة العربية والموصل والفلوجة ادى الى تصدر الجماعات العربية الجهاد في تلك الجبال. "المجاهدون" العرب سبق ان اختاروا الجبال في كلتا المنطقتين مأوى لهم، وقادوا جماعات محلية فيهما الى الهلاك. قيس ابراهيم الذي نزل من الجبال بهدف الاشتراك بمحاولة اغتيال رئيس حكومة كردستان برهم صالح العام 2002 في السليمانية، قال "ان المقاتلين العرب الذين كانوا يتمركزون في جبال هورمان الى جانب عناصر منظمة انصار الاسلام الكردية كانوا اكثر اصراراً على القتال من العناصر الكردية، ولهذا وعندما قررنا انا والشهيدان كامران وأبو عبدالله القيام بعمليتنا ولم تكن جماعتنا راغبة بذلك فأعلنا فك عقد البيعة معها بحيث تحررنا شرعياً من قراراتها، في حين وجد قرارنا اصداء طيبة في اوساط المجاهدين العرب". المسؤولون الأمنيون في سجن ال"آساييش" يعيدون ما قاله قيس الى امرين، الأول هو ان التاريخ الذي حصلت فيه العملية هو التاريخ نفسه الذي وصل فيه ابو مصعب الزرقاوي الى جبال بيارة، وان الانفصال عن الجماعة الكردية كان بهدف الانتقال الى العمل تحت قيادة الزرقاوي وهذه الأمور من الشكليات الشرعية في هذا النوع من الجماعات وهم يعتقدون ان الذي خطط للعملية وأعطى الأمر بتنفيذها هو الزرقاوي نفسه. اما الأمر الثاني فهو تبرئة مرشد جماعة الأنصار الملا كريكار المقيم في النروج والخاضع للرقابة القضائية والأمنية فيها من هذه العملية في حال انكشفت المجموعة. فهؤلاء العناصر خرجوا من امارة الملا الكردي المهاجر الى اوروبا والمستمر في الاشراف "الروحي" على جماعة "انصار الاسلام" في كردستان. يشكل الملا كريكار مفصلاً في نشاط هذه الجماعات وخصوصاً الكردية منها. صحيح انه من الصعب تحديد قربه او بعده عن الوقائع الميدانية، لكن حضوره في كلامهم دائم. ويبدو انه لفهم طبيعة انشطة هذه الجماعات التكفيرية في العراق اليوم لا بد من ردها الى بعض ملابسات نشوئها. فإضافة الى انها استمدت افكارها وأساليب عملها من نظريات "الجهاد العالمي"، الا ان لخصائصها المحلية دوراً في اندفاعتها اليوم. فكما معظم هذا النوع من الشبكات في العالم، يشكل "الاخوان المسلمون" الذين بدأوا نشاطهم في كردستان العراق في خمسينات القرن الفائت البيئة والحاضن لجماعات الجهاد في كردستان. واستفادت هذه الجماعات الى ابعد الحدود من الانتشار والوجود الشرعي لأحزاب الاخوان، فاستعملت هذا الوجود وتقنعت به، علماً انها في الأصل انشقاقات عن الاخوان. فالتداخل السياسي والاجتماعي والجغرافي بين هذين النوعين من الاسلاميين في كردستان كان احدى العلامات الثابتة في سيرة "انصار الاسلام". وبدءاً من العام 2000 كان جيب حلبجة الاسلامي في كردستان موزعاً على ثلاث قوى اسلامية جميعها من اصل واحد. هناك مدينة حلبجة التي تسيطر عليها الحركة الاسلامية الكردستانية بقيادة الملا علي عبدالعزيز وهي الحركة الأم، ويمتد نفوذ هذه الجماعة الى محاذاة الجبال التي ترتفع شاهقة فوق حلبجة. علماً ان الحركة الاسلامية لم تكن جزءاً من الحرب بين الاتحاد الوطني الكردستاني وبين "انصار الاسلام"، بل كانت تربطهما علاقة عادية ومشاركة في ادارة المنطقة. في المنطقة الوسط بين حلبجة وأعالي جبال هورمان، وتحديداً في منطقة خورمال كانت تسيطر "منظمة خورمال الاسلامية" التي يتزعمها الملا علي بابير وهو معتقل اليوم لدى الأميركيين في حين لم يتم حظر عمل جماعته. علي بابير وجماعة كوملة هم انشقاق اول عن الحركة الاسلامية، وهم ايضاً لم يكونوا جزءاً من المعركة مع الاتحاد، ولكنهم اقرب عقائدياً وفكرياً الى الأنصار من الحركة الاسلامية. وفي اعالي جبال هورمان، تحديداً في منطقة بيارة القريبة من الحدود مع ايران، كان يتمركز عناصر "انصار الاسلام" وحلفاؤهم من الأفغان العرب. هذا الانتشار التدرجي للمنظمات والشبكات الاسلامية امن ل"أنصار الاسلام" وللأفغان العرب هامش تحرك واسعاً في شمال العراق، اذ ان بداية الجيب الاسلامي كان يعتبر جزءاً من منطقة نفوذ حكومة كردستان، وهو كان يؤمن للمقاتلين العرب والأكراد المتمركزين في اعالي الجبال طريق امداد للمؤن وأيضاً للمناصرين. مصطفى عقاب حين توجه من عمان الى العراق، كان هناك من ينتظره في حلبجة ليصطحبه الى الجبال، ورزكار حين كان يريد الاتصال بوالدته كان ينزل من بيارة الى خورمال التي تسيطر عليها حركة كوملة وحيث تتوافر الاتصالات الهاتفية. هذه التشكيلات الاسلامية الثلاث كانت شديدة التقارب من حيث نوعية المقاتلين وروابطهم، فهم تنويع على اصل واحد، وتربط بينهم علاقات تتجاوز الأفكار والاعتقادات. وعندما قصف الأميركيون مواقع "انصار الاسلام" في جبال بيارة وانتشر من بقي حياً منهم في المنطقة، صار من الصعب على الأكراد تمييز عناصر كوملة عن الأنصار، واختبأ عشرات من الجماعات القادمة من افغانستان في زي عناصر الحركة الإسلامية الكردستانية. ويبدو ان امومة الحركة الإسلامية الكردستانية ل"الأفغان الأكراد" تعود الى ثمانينات القرن الفائت وتسعيناته حيث توجهت مجموعات من هذه الحركة الى افغانستان وعادت محملة بأفكار مختلفة شرعت تبثها في اوساط الحركة. ومن بين من ذهبوا الى افغانستان في تلك الحقبة الملا كريكار وعلي بابير اللذان تزعما لاحقاً انشقاقين عن الحركة. ويؤكد مسؤول الأمن في حكومة جلال طالباني، دانا شاسوار، انه قبل 11 ايلول سبتمبر 2001 بأيام استدعي قادة "انصار الاسلام" و"حركة كوملة" الى افغانستان، وتم البحث معهم في امكان توفير ملجأ لعدد من الأفغان العرب في منطقة هورمان العراقية. ويشير دانا الى ان ذلك كان في سياق تأمين قواعد احتياطية بعدما توقع قادة "القاعدة" ان عمليتهم المزمعة في نيويورك وواشنطن ستؤدي الى مجيء الأميركيين الى افغانستان، وأن اختيارهم جبال هورمان يعود الى مشابهتها للجبال في افغانستان. وفي هذا السياق يفسر دانا وصول ابو مصعب الزرقاوي الى المنطقة بعد هذا التاريخ بقليل قادماً من افغانستان. قبل نحو شهر اعتقلت القوات الأميركية آسو هوليري في مدينة الموصل، وهو احد امراء "انصار الاسلام" الذين نزلوا من الجبال للجهاد في المدن بعد سقوط النظام في العراق. وفي الفترة نفسها تقريباً اعتقلت عمر بازياني امير بغداد وخريج جبال بيارة ايضاً، والملا برو الذي اعتقل في كركوك والملا قدس اعتقل ايضاً في نواحي المدينة وهما ايضاً من الناجين من القصف الأميركي على بيارة. قرائن وإشارات كثيرة تعيد حكاية "الجهاد" في العراق اليوم الى جبال بيارة، ثم ان اقليم حلبجة حاضن "الجهاد" الكردي والعربي في السنوات السابقة مستمر في تغذية "المجاهدين" بالصور والمثالات. صحيح ان علي عبدالعزيز يعيش شيخوخته اليوم من دون تأثير كبير في هذه الشبكات، ولكن اولاده ومساعديه حاضرون في ميادين القتال وفي روايات المعتقلين في سجون الاتحاد الوطني الكردستاني، وحاضرة ايضاً في كلام من بقي طليقاً ومنتمياً بالاعتقاد فقط الى الجماعات التكفيرية. فآزاد وهو كردي من مدينة اربيل يقول انه من مريدي الملا كريكار من دون ان ينتمي تنظيمياً الى "انصار الاسلام"، وهو دفع ثمن ذلك بأن اعتقل لأشهر بسبب التزامه الزي الإسلامي الأفغاني. ومدينة اربيل تعتبر قاعدة الاسلاميين الأكراد الأولى، ومنها كان الخروج الأول الى الجبال. ويشير آزاد الى انه من عائلة صوفية في الأصل، وجده كان شيخاً في الطريقة النقشبندية، اما هو فصار يعتبر ان الصوفية هرطقة، وان الاسلام الحقيقي هو اسلام السلف الصالح. ويقول عُمر وهو صحافي كردي ان 40 في المئة من اهل اربيل كانوا من اصحاب الطرق الصوفية، وان الكثير من ابناء العائلات الصوفية هم اليوم اعضاء في تنظيمات اسلامية متطرفة. المحاولات الدؤوبة التي يقوم بها الأميركيون والأكراد لتوضيح العلاقة بين هذه المجموعات وبين النظام العراقي السابق ما زالت عاجزة عن تفسير الكثير من الوقائع. لكن متقصي ظاهرة "انصار الاسلام" و"القاعدة" في العراق سيقع على الكثير من الأبواب التي لم تجد مفاتيح حتى الآن. فمصطفى عقاب وصل الى السليمانية من عمان عن طريق بغداد ثم الموصل، وقيس ابراهيم حين قرر السفر من بيارة الى عمان واليمن قصدهما عن طريق بغداد ايضاً. الأول اردني تمكن من التنقل بين المدن العراقية في ظل نظام امني من الصعب اختراقه، والثاني كردي عراقي قصد بغداد بجواز سفر عراقي كان من الصعب الحصول عليه من الأكراد في ذلك الوقت، كذلك كان من الصعب على الحائزين على مثل هذه الوثيقة من الأكراد السفر بين المدن وعبر الحدود من دون ملاحظة الأجهزة الأمنية. ثم ان النظام العراقي سبق وأنشأ علاقة مع الحركة الاسلامية في كردستان في بداية حربه على ايران وفي حلبجة تحديداً عندما قرر اقامة حزام سني على الحدود مع ايران الشيعية في ثغر حلبجة. قبل سنوات قليلة هاجر الأفغان العرب الى جبال الأكراد في شمال العراق وباشروا منها "جهادهم"، اما اليوم فثمة هجرة معاكسة، اذ يؤكد المسؤولون الأمنيون في الحزب الديموقراطي والاتحاد الوطني ان عناصر "انصار الاسلام" الذين فروا من جبال حلبجة هم اليوم في المدن العربية في العراق. في الموصل والفلوجة وبعقوبة، وأن الكثير من الانتحاريين المجهولين هم من مقاتلي جبال بيارة، ثم ان عدداً من الأمراء المعتقلين بدأوا يكشفون عن اسماء منفذي العمليات الانتحارية، ما يؤكد هذه المعلومات. ومن المعلومات التي يسربها المسؤولون الأكراد عن التحقيقات ان تحسين عبدالعزيز نجل الملا علي عبدالعزيز الموجود اليوم في عاصمة مجاورة هو احد محركي جماعة "انصار الاسلام" اليوم، وهنا يصبح العمق العربي لجماعة الأنصار اوسع من الحدود العراقية. * غداً: "مجاهدان" يرويان سيرتهما مع "القاعدة" و"الأنصار".