ندور في دائرة مغلقة جديدة، وما أكثر دوائرنا المغلقة ! ندور الآن في دائرة جدل عقيم حول صدقية الإصلاح من الداخل وخطورة الإصلاح من الخارج. هذه الدائرة الجديدة التي دخلنا فيها، أو أدخلنا فيها، لا أقول إنها بالضرورة شرك منصوب، ولكنها بالتأكيد إهدار هائل لوقت ثمين في ظرف دقيق. لم نستفد شيئاً من هذا الجدل إلا المزيد من اتساع الفجوة بين الطبقات الحاكمة والمحكومين في العالم العربي. وتتردد أسئلة كثيرة تفوح منها رائحة الشك، يسألون لماذا قبلنا ضغوطاً من الخارج تحدد لنا مواصفات منتجاتنا ومقاييسها، وتقرر نيابة عنا أثمانها وأثمان ما نستورد. قبلنا ضغوطاً غيرت مسارات الاقتصاد وقيدت حريتنا في اختيار ما يناسب أذواق شعوبنا وخصوصياتها. جاءت هذه الضغوط كتوجيهات في شكل نصائح من صندوق النقد الدولي والبنك العالمي ومنظمة التجارة العالمية ومؤسسات اقتصادية ومصرفية ومنتديات للدول الغنية فرضت علينا التغيير باسم الإصلاح، ولم نناقشها طويلاً أو ندخل في جدل وننحشر في دائرة مغلقة مثل حالنا الآن. المشكلة أن الضغوط الجديدة للإصلاح تأتي ضمن صخب مدوي تثيره قوى في الغرب وخاصة في الولاياتالمتحدة الأميركية. ويبدو أن الغرض من هذه الضجة الصاخبة إقحام الرأي العام العربي. لم يحدث هذا عندما ضغطت الصناديق الدولية من أجل تغيير الاقتصاد أو تحرير التجارة. لم تأت الضغوط وقتها في كتمان ولكن أتت بهدوء، وعن طريق رسائل رسمية ودبلوماسية ووقعت الاستجابة من دون غضب شديد. كان واضحاً أن الإصلاح الاقتصادي سيفيد بالدرجة الأولى مصالح الطبقات الحاكمة قبل أي طبقات أخرى في المجتمع. أما الضجة المصاحبة لحملة الإصلاح السياسي الاجتماعي فقد أثارت قلق الطبقات الحاكمة العربية التي تصورت أن هذه الضغوط تخفي أهدافاً غير معلنة، وأن للغرب أجندة أخرى غير الأجندة التي يطرحها إعلامياً. ويعبر كثيرون من أعضاء النخب الحاكمة عن مخاوفهم من أن يكون أحد أهداف هذه الحملة افتعال فجوة بين الشعوب العربية والطبقات الحاكمة أو توسيع الفجوة القائمة - وهي أصلاً واسعة - لتحقيق مصالح معينة لهذه القوى الغربية في المنطقة العربية. أو لتسهيل صعود فئات محلية أخرى. أما داخل الدائرة المغلقة التي شجعت قيامها القوى الحاكمة والنافذة في العالم العربي لتتحصن بها وتنأى بنفسها عن التعرض المباشر للضغوط الخارجية وكذلك الداخلية، فمازال الجدل دائراً حول ضجة مقولات من نوع أن الإصلاح مستمر منذ زمن، ولم يتوقف، وانه يسير بتدرج وبدرجات معقولة ولكن منتظمة، وأننا أدرى بمشاكلنا أكثر من غيرنا، وأن لنا خصوصيات لا يمكن لقوى في الغرب أن تفهمها أو تتفهمها. ورغم خصوصياتنا فإن كثيراً من مشكلاتنا لا تختلف عن مشكلات دول أخرى وبخاصة انتشار الفساد وترهل البيروقراطية والمحسوبية والشللية والانفراد بالقرارات والقمع السياسي وإحكام القبضة الأمنية بدعوى المحافظة على سلامة الشعوب ورخائها، ومحاربة القوى المتطرفة التي تتكلم سياسة وتحت عباءتها خناجر ومتفجرات ورشاشات، وفي هذه الدائرة المغلقة يدور التثمين المتبادل لأفكار من قبيل أن التدرج طبيعة ثانية للثقافة العربية، فنحن أمة وسطية. وننسى أن كل أمم العالم تدعي الوسطية. أما الجدل الأكبر فهو ذلك الذي يدور حول أهلية الشعوب العربية لممارسة الديموقراطية. ويبدو الموضوع طيباً في ظاهره ويستحق التأمل. فشعوبنا العربية قد تكون فعلا غير مؤهلة للديموقراطية بسبب أن بعضها لم يمارس الديموقراطية منذ مدة طويلة، والبعض الآخر لم يمارسها منذ أن حصل على الاستقلال. هذا الرأي ليس جديداً، فكلنا، أي جيلنا والجيل السابق علينا والجيل الذي نراه ينضج ونحن عليه مشفقون، لم نمارس الديموقراطية إطلاقاً أو لم نمارس إلا قشورها أو بعض فتاتها. لم نمارس حرية التعبير كما يجب أن تمارس باطمئنان وبثقة وبتطلع للمستقبل. لم نشارك سياسياً إلا في مناسبات هامشية أو مراحل قصيرة. لا نعرف كيف ندبر أمورنا ونتفاعل بطريقة ديمقراطية، لأن أحداً لم يعلمنا. ليس صحيحاً أن النقص في وعينا الديموقراطي مشكلة خلقية نولد ونحيا بها، أو أن العرب يحوزون على جينات مضادة للمشاركة السياسية والاستمتاع بالحريات الإنسانية. نحن، كشعوب، لم نتعلم الديموقراطية. ولكن الأمر الذي يجب التأكيد عليه هنا أننا لسنا وحدنا في هذا المضمار. فالطبقات الحاكمة العربية لا تعرف عن الديموقراطية أكثر مما تعرف الشعوب لسبب بسيط. هي كالشعوب لم تمارسها. وبالتالي قد يصح القول إنها تتشابه مع الشعوب في أنها غير مؤهلة لممارسة العمل الديموقراطي. أتساءل : هل يمكن أن تطالبها قوى وطنية وغربية بممارسة الديموقراطية وهي لا تعرف عن الديموقراطية أكثر من أنها مؤامرة الهدف منها انتزاع بعض سلطاتها أو جزء من سيادتها لمصلحة أحزاب أو جماعات معارضة تتهمها بأنها ناقصة الخبرة في الحكم ؟. والاتهام صحيح فالمعارضة العربية لم تحكم من قبل، ولم تمارس أي نوع من أنواع قيادة مجتمع أو تسييره، حينئذ تكون الدعوة للديمقراطية في نظر الطبقات الحاكمة مخططاً لانفراط الدولة ونشر الفوضى واستباحة الأمة وتراثها. تقول هذه الطبقات الحاكمة على اختلاف مسمياتها في كل دولة من الدول العربية إن الإسراع في تنفيذ النصائح أو الإرشادات الديموقراطية الواردة من الخارج قد يؤدي إلى أن تصل إلى الحكم حركات متطرفة لها شعبية رغم أن هذه الحركات لم تتدرب إطلاقاً على العمل السياسي بل إنها خطر على المجتمع ووحدة الأمة. وأتمنى على الليبراليين الجدد من أعضاء الطبقات الحاكمة العربية، أو السائرين في فلكها أو نحوه، أن يغيروا من مقولة ذاعت حتى صارت موضع تهكم. يقولون إن هذه الحركات الدينية أو الأيديولوجية إذا جاءت إلى الحكم فإنها لن تعمل لصالح الديموقراطية، بينما ينطبق هذا القول تماماً وحرفياً على جميع الطبقات الحاكمة في العالم العربي. فلا هي مارست الديموقراطية، ولا هي سعت إليها، ولا هي مستعدة للتضحية من أجلها. إن المؤكد الوحيد في هذا الشأن هو أن جميع هذه الطبقات الحاكمة حاربت الديموقراطية ورفضت تداول السلطة. ثم كيف نعرف أن الحركات والأحزاب، معتدلة كانت أم متشددة، إن وصلت إلى الحكم لن تمارس الديموقراطية إذا كنا لم نجربها. كيف تدخل الطبقات الحاكمة التي تمارس الديموقراطية في منافسة متوازنة وشريفة مع هذه الحركات والأحزاب لكي تسحب من تحت أقدامها الشعبية التي تدعي حقاً أو زوراً أنها تتمتع بها ؟. الحل ليس سهلاً. ومع ذلك اعتقد أن أي حل يكسر هذه الدوائر المغلقة التي ندور فيها افضل من أن نستمر داخل هذه الدوائر المغلقة، يتقدم العالم من حولنا ونحن ثابتون على أرض التخلف والقمع وحكم الحزب أو الفرد. لماذا لا نجرب أن يبدأ الطرفان معاً في تعلم الديموقراطية. ليس عيباً أن يتعلم شعب بقطاعاته المختلفة الديموقراطية الصحيحة، وليس عيباً أن تعترف الطبقات الحاكمة بأنها لا تعرف عن الديموقراطية شيئاً أكثر مما تسمعه وتتخوف منه، وأنها بحاجة لأن تتعلمها وتتدرب على ممارستها على أيدي خبراء من الداخل أو على أيدي هنود ويابانيين وكنديين وأستراليين وإيطاليين وآخرين من الذين جربوها وأقلموها أو طوروها. وهنا يصلح التدرج بشرط أن تثبت الطبقات الحاكمة أنها لا تتلاعب بالناس وبالوقت، وأنها بدأت بالفعل تتعلم الديموقراطية. وليس مستحيلاً أو صعباً أن تعترف الطبقات الحاكمة في العالم العربي أن نظمها المركزية واستحواذها على معظم جوانب السلطة في المجتمع لم يحقق نجاحاً اجتماعياً واقتصادياً مثل النجاح الذي تحقق في مجتمعات أخرى اختارت حكوماتها التخفيف من القبضة المركزية. وبعد الاعتراف، يمكن للطبقات الحاكمة السماح لجماعات وأحزاب دينية أو غير دينية لتشارك في الحكم المحلي. كم تمنينا، أنا وأبناء الجيل الذي أنتمي إليه أن نرى حزباً معارضاً يتولى الحكم في مدينة أو ولاية في دولة عربية في أعقاب انتخابات عامة نظيفة لا تتدخل فيها الدولة إلا لضمان الأمن والنزاهة. ولمن يردد من دون كلل رواية أنه لا يوجد ما يضمن رحيل المعارضة عن حكم هذه المدينة أو الولاية بعد هزيمتها في أول انتخابات تالية، أقول هيبة الدولة وقوانينها ودستورها وأجهزة الأمن وجماهير الناخبين هي الضمان. ثم أن المعارضة التي تجرب الحكم وتمارس توازنات السياسة وإقامة التحالفات والتوصل إلى حلول معقولة لمشكلات المجتمع المحلي ستكون أشد رغبة في تكرار المحاولة وتجديد شعبيتها. إن الحزب الذي يرحل عن الحكم - كما جاء إليه - بأسلوب ديمقراطي سيحصل على ثقة الشعب والأحزاب الأخرى، فقد استجاب للشروط الدستورية وإلى قواعد اللعبة الديموقراطية ولم يعد هناك خوف منه. لقد نجحت هذه التجربة في إيطاليا وفرنسا في أعقاب الحرب العالمية الثانية. نجحت بمعنى أن أجهزة الدولة الإيطالية ذات التجربة الفاشية تعلمت الديموقراطية حين مارستها على المستويات كافة ابتداء من القرية والمدينة وانتهاء بالمستوى القومي، ونجحت بمعنى أن الأحزاب الشيوعية والفاشية، وهي الرافضة للنظام الديموقراطي أساساً أو للدولة ككيان سياسي، تعلمت الديموقراطية وتدربت على احترام قواعد العمل السياسي السلمي وصناديق الاقتراع حين سمحت لها الدولة بالمشاركة في الانتخابات المحلية. ولا أتصور أن هذه التجربة ستفشل بالضرورة في عالمنا العربي. أرى فيها الفرصة الوحيدة لكي تتعلم الطبقات الحاكمة أن تتعامل ديموقراطياً مع أحزاب المعارضة حتى لو كانت هذه الأحزاب تحظى بشعبية أكثر من الأحزاب الحكومية. وأكرر أنه لا سبيل أمامنا للحكم على صدق نيات الأحزاب المعارضة إلا بتجربتها في ساحة العمل السياسية وفق أصول اللعبة. لن يكون يسيراً، أو خالياً من عقبات عنف، استمرار الحال الراهنة، إنما الممكن، والأقل صعوبة، أن تعلن الطبقات الحاكمة العربية، وفي مقدمها حملة مشاعل الليبرالية العربية الجديدة. استعدادها للاصطفاف مع كافة تيارات المعارضة يميناً ويساراً للتدريب على ممارسة الديموقراطية. ولتكن المجتمعات المحلية الصف الأول للحكومات والأحزاب في مصفوفة تعليمية متعددة المراحل والمناهج. * كاتب مصري.