الكل يعرف ان صدام حسين ارتكب الجرائم التي وجهتها المحكمة الخاصة اليه. وهو لم يرتكب سبع جرائم فقط، من نوع استخدام السلاح الكيماوي في حلبجة، وقمع الشيعة أو الأكراد، وإنما سبعين جريمة أو سبعمئة. غير ان القانون يقول ان المتهم بريء الى أن تثبت ادانته، وهو قانون عكسه صدام حسين في سنوات حكمه العجاف، فالمواطن متهم الى ان تثبت براءته، والمتهم كان يعدم ثم يحاكم، وكم قرأنا عن "شهداء الغضب"، عندما يتبين ان بريئاً أعدم، وتعطى أسرته بضعة ألوف من الدولارات تعويضاً، وكان الله يحب المحسنين. بموجب قانون صدام كان الرئيس العراقي المخلوع سيعدم ثم يحاكم، الا ان القانون تغيّر، أو عاد كما عرفه الناس قبل عهده، لذلك فهو سيلقى محاكمة هي قطعاً أكثر عدالة وحَيْدة واستقلالية من أي محاكمة دبرها هو لخصومه أو من اعتقد انهم خصوم. وربما زدت ايجابية في خانة آسريه الأميركيين، فهم لم يعطوا صدام حسين عقاقير تشوش عقله، أو تفقده القدرة على التركيز أو الذاكرة، وهذه العقاقير متوافرة لهم. وهو بدا في الدقائق القليلة المذاعة من الجلسة الأولى في كامل وعيه، وكامل انقطاعه عن العالم الحقيقي، فهو لا يزال يصرّ على انه رئيس العراق، ويتهم الكويتيين بالعدوان، كأنهم اجتاحوا العراق. بدأت بإيجابيات المحاكمة محاولاً الموضوعية، غير ان السلبيات أكثر. أولاً، وهذه في رأيي أهم نقطة، المحاكمة تفيد صدام حسين، وتعطيه منبراً لترديد سياسيات ومواقف وآراء تلقى تأييد الغالبية بين العرب والمسلمين. عارضت صدام طوال حكمه وطيلة عمري، غير ان الغالبية ليست امثالي وليست مواطناً كويتياً وجد نفسه فجأة في آب اغسطس 1990، في رمل الصحراء وقد فقد كل شيء، وإنما يجمعها كره السياسة الأميركية والشعور بالمهانة لما أصاب العرب والمسلمين، مع انخداع بغوغائية الخطاب الحماسي المجرد في حقيقته من العقل. ثانياً، كما انه لا يجوز رفض الديموقراطية في الشرق الأوسط لمجرد ان الولاياتالمتحدة طالبت بها، فإنه لا يجوز رفض كل ما قال صدام حسين في المحكمة لمجرد ان الكلام صادر عنه. ثمة منطق في الزعم ان المحاكمة رتبت على عجل لخدمة الحملة الانتخابية للرئيس جورج بوش. ومع ادراكي، وإدراكنا جميعاً، ان هذه افضل من أي محكمة نظمها صدام حسين نفسه، فإنه يبقى انها محكمة خاصة وضع نظامها مجلس الحكم قبل أيام من اعتقال صدام حسين في كانون الثاني يناير الماضي، اي ان وراءها رجالاً عينتهم سلطة الاحتلال الأميركي، وبعضهم جواسيس لقوى اجنبية، وهناك تهم فساد وسرقة ضد آخرين بعضهم جواسيس ولصوص، وقد استبعدوا من الحكومة الانتقالية. ولا اعتراض لي على الحكومة هذه، بل أشعر واثقاً بأنها تضم اعضاء يجمعون بين القدرة والنزاهة والاخلاص لوطنهم. الا ان مهمة هذه الحكومة ليست محاكمة صدام بل نشر الأمن لإجراء انتخابات ينبثق منها برلمان عراقي حر مستقل، فتشكل حكومة تمثيلية، كما لم يعرف العراق منذ عقود. لماذا الاستعجال؟ ولماذا يحاكم صدام الآن بدل انتظار حكومة من طريق الشعب خلال اشهر معدودة؟ وهل للمحاكمة علاقة بسير حملة الانتخابات الأميركية، وتراجع حظوظ جورج بوش بحسب الاستطلاعات الأخيرة للرأي العام الأميركي؟ ثالثاً، وعطفاً على ما سبق، لا أجد حكمة كبيرة في محاكمة صدام داخل قاعدة اميركية، وفي ترك سلطات الاحتلال تجمع اطنان الوثائق ضده، فمن شأن هذا وذاك ان يعزز انطباعاً خاصاً بأننا أمام محاكمة أميركية، تحت غطاء عراقي، وهذا من دون الدخول في تفاصيل اسم القاضي، ومن اختاره، وهل هو الأفضل فعلاً لترؤس المحاكمة. رابعاً، وببساطة، هل يمكن ان يلقى صدام حسين محاكمة عادلة في العراق الآن؟ السؤال هذا "اكاديمي"، فجرائم صدام حسين ضد الأفراد والانسانية أكيدة، وعليها مليون شاهد حي، ومليون قبر لضحاياه، الا ان المشكلة ليست في ثبوت الجرم، وإنما في عدم تحويله الى لعبة شد حبل بين صدام حسين الذي سيعطى منبراً جديداً للترويج لسياسات متطرفة تلقى تأييداً واسعاً في الشارع العربي والاسلامي، وبين الذين يريدون محاكمته لا لخدمة غرض العدالة، وإنما للانتقام والتشفي، او لأسباب سياسية خارجية. أرجو ألا تتحول المحاكمة الى تلك المهزلة التي تحدث عنها صدام حسين، وتلهي العراقيين عن الأهم خلال الفترة الانتقالية الحالية. وكنت قرأت مقالاً لرئيس الوزراء الدكتور اياد علاوي حدد فيه مهمات حكومته بأربع، هي: أولاً، نشر الأمن الذي اعتبره الأهم لأن لا يمكن تحقيق أي مهمة اخرى من دونه. وثانياً، اصلاح الاقتصاد بما في ذلك خفض معدلات البطالة وإعادة بناء البنية التحتية، بما في ذلك النقل والكهرباء والماء والمتطلبات الحياتية اليومية الأخرى. و"ثالثاً"، نظام قضائي قوي ومستقل مدرب وحسن التمويل لضمان حماية حقوق الملكية وحقوق الانسان. ورابعاً، استمرار السير نحو الديموقراطية وإجراء انتخابات نيابية تؤدي الى قيام برلمان يضع دستوراً دائماً للبلاد. وضعت "ثالثاً" ضمن هلالين صغيرين، لأنني ترجمت حرفياً عن مقال الدكتور علاوي بالانكليزية، والمنطق يقول ان خطوة في اهمية محاكمة صدام حسين كان يجب ان تنتظر قيام نظام قضائي عراقي مستقل، يحميه "رابعاً" أي برلمان تمثيلي. ولكن، ومع كل تحفظاتي على محاكمة صدام حسين اليوم، فإنني أعود الى ما بدأت به، من ان الرئيس السابق سيجد قسطاً من العدالة حرم العراقيون منه في عهده. وفي حين ان جرائم صدام حسين ثابتة لي كمواطن عربي، فإنني ارجو ان تثبتها المحكمة لغالبية لا تزال تنجرف وراء عواطفها، وتسيء الى الأمة من حيث تطلب نصرتها.