الملاحظة الأولى التي ترد الى البال ان صدام حسين محظوظ: إن لم يكن كسياسي فبالتأكيد كشخص. فهو يتعرض لمحاكمة لم يتعرض لمثلها أي من ضحاياه وقتلاه الكثيرين. وهذا، من حيث المبدأ على الأقل، نقطة قوة لصالح العهد الجديد الذي انتزع بعضاً من السلطات السيادية، ولا يزال ينتظره انتزاع الكثير منها. فإن لم يتسن له هذا، كان"البديل"الوحيد المطروح ابو مصعب الزرقاوي، او من شابهه من نجوم"المقاومة". وذلك ليس تفصيلاً عارضاً. فهو مما ينبغي أن يقال، ومما يجب تسجيله في سياق مقارن. وحتى الذين وجدوا في أنفسهم بقايا عاطفة على صدام حسين، بسبب من"عروبته"، يُستحسن بهم مقارنة ما قاله عن"الأخوة"الكويتيين بمناقشة العهد العراقي الجديد، في اليوم نفسه، الاستعانة الأمنية بجيش"الأخوة"الأردنيين. اما وقد قيل هذا، بقي ان نقطة القوة لن تتكرس بصفتها هذه ما لم تتمتع بمواصفات أخرى، في عدادها ضمان حق صدام وباقي أركان القيادتين القومية والقطرية في التمتع بالدفاع الشرعي عنهم، وتولي القضاء المستقل، اي غير السياسي والفئوي، مهمة المحاكمة. وهذا كله مما لا يمكن الحكم بالنجاح فيه حتى اللحظة. وما يزيد الالحاح على التحفظ إمكانية إصدار حكم بالاعدام تباهى، للأسف، أكثر من مسؤول عراقي بوجوده واحتماله، واستحق جلال طالباني التحية على فعله المعاكس. ثم، هناك شروط أخرى لازمة، بل أساسية، في رأسها ان تتقدم المحاكمة في موازاة انتزاع المزيد من السلطات السيادية فتسقط، بالتالي، تهمة القائلين إن الاحتلال، او ما تبقّى منه، هو الذي يحاكم صدام. وكان المفضّل ان تبدأ المحاكمة بعد اجراء الانتخابات العامة، الا ان حظ العراق السيء، بحربه ثم بمقاومته، قضى بغير ذلك. فرغبة النظام الجديد في اكتساب القوة والفعالية انما حدت به، على ما يبدو، الى لاسراع في استعراض صدام ورفاقه. وهذا، بدوره، يُضعف الجاذبية التي تملكها محاكمة ديكتاتور كالديكتاتور العراقي، كما يُوهن النموذج الذي يُراد تقديمه لمن يريدون التخلص من الديكتاتوريات والديكتاتوريين في العالم العربي. وقصارى القول ان على الحكومة العراقية اليوم، كائنة ما كانت الصعوبات التي تواجهها، وهي كثيرة، وكائنة ما كانت رقعة السيادة التي تتمتع بها فعلياً، وهي قليلة، ان تنجح في الامتحان الكبير التالي: كيف تُجعل المحاكمة هذه مدخلاً الى تعليم مجتمع وتثقيفه، وتقديم نموذج صالح له، ولا تنتهي محفلاً ثأرياً وانتقامياً عرف العراق، والعالم العربي، الكثير من أمثاله؟ إلا ان بعضاً من سوء الظن والخبث المتعمد يحملان على سؤال من نوع آخر، سؤالٍ تسنده خلفية يمكن تقديم آلاف البراهين عليها: هل هناك فعلاً، بين العراقيين وبين العرب، من يريد نموذجاً يقتدي به ويعامله بشيء من التنزيه عن انحيازاته"السياسية"المسبقة والجاهزة؟ فقط لنقارن كلام كولن باول من انه يجب افتراض براءة صدام خلال محاكمته، بخطبة الشيخ رائد الكاظمي الذي حذّر محامي صدام من التوجه الى العراق للدفاع عنه. إن المشكلة أبعد بكثير من السياسة وأعمق.