في الاسبوع الماضي اوقف جنود اسرائيليون على حاجز قلنديا الفاصل بين رام اللهوالقدس سيارة اسعاف فلسطينية تقل طفلة مصابة بالفشل الكلوي ومنعوها من المرور للوصول الى مستشفى "المقاصد" في القدس الا اذا حصلت على اذن من موظفة اسرائيليلية في مقر "الادارة المدنية" التابعة للحكم العسكري الاسرائيلي في "بيت أيل". رافق الطفلة المريضة الدكتور مصطفى البرغوثي رئيس لجان الاغاثة الطبية في الضفة الغربية واتصل تلفونيا مع الموظفة "داليا" موضحاً لها ضرورة نقل الطفلة في اقرب وقت ممكن الى المستشفى حيث ينتظرها الطبيب المختص. وكان رد الموظفة: "لماذا لا تعالجونها في مستشفى رام الله"، ورفضت السماح لسيارة الاسعاف بعد انتظار استمر ثلاث ساعات باجتياز الحاجز. عمليات نقل المرضى الفلسطينيين في سيارات الاسعاف من منطقة الى اخرى في الضفة الغربية باتت تخضع ل "قانون" غريب عجيب: الحصول على تصريح مسبق بنقل المرضى وتحرك سيارات الاسعاف التي تقلهم على شوارع الضفة الغربية. فاذا اصيب فلسطيني بنوبة قلبية واستدعيت سيارة اسعاف لنقله الى المستشفى, يجب ان ينتظر "قلبه" الى حين الحصول على هذا التصريح، ان توفر. غير ان هذا المشهد الذي يتكرر يوميا على الحواجز العسكرية الاسرائيلية يتجاوز الممارسات اللاانسانية التي يتعرض لها الفلسطينيون ويجسد "حياة البانتوستانات" التي باتوا يعيشون في اطارها على الصعد الاجتماعية والاقتصادية والصحية والتعليمية. وتشكل الحواجز العسكرية التي يزيد عددها عن 762 حاجزاً الاداة الابرز لتعزيز نظام ال "كانتونات" او ال "بانتوستانات" الذي أنشأته سلطة الاحتلال بالفعل على الارض. النظام الصحي في فلسطين ليس الوحيد الذي بات محكوما بنظام "مدن الكانتونات" حيث بات من شبه المستحيل نقل مريض من مستشفى في احدى المدن الى مستشفى في مدينة اخرى لا تبعدان عن بعضهما سوى 20 كيلومترا، مثلما هي الحال بين قلقيلية ونابلس، و 14 كيلومترا كما هي الحال بين رام اللهوالقدس. ومنذ فترة طويلة، لا يسمح للفلسطينيين بتغيير "مكان سكنهم" المدون على بطاقة الهوية من مدينة الى اخرى، فمن كان يسكن في بيت لحم وانتقل للعيش في رام الله يعاني الامرين ان لم يمنع بشكل قاطع اثناء محاولته اجتياز حاجز الى آخر ودخول مدينة غير تلك المدون اسمها على بطاقة هويته، في ما يشبه "اقامة جبرية" لكل شخص في مدينته. ولهذا السبب واسباب متصلة، تحولت الجامعات الفلسطينية الى جامعات "شبه مدينية". جامعة "بيرزيت" التي كانت تضم طلابا من قطاع غزة جنوبا الى جنين شمالا، يشكل سكان رام الله وقراها الآن 80 في المئة من طلبتها، والحال اسوأ في جامعات "بيت لحم" و"العربية الاميركية في جنين" و"النجاح الوطنية" في نابلس وجامعات غزة. وينطبق الوضع ذاته على قطاع المعلمين في المدارس حيث بات المدرسون من سكان المدينة ذاتها. وقد اطبقت على الطرق والمواصلات من والى مدينة نابلس، العاصمة الاقتصادية للضفة الغربية التي كانت توزع الى كل مدن الضفة الغربية، الحواجز المحيطة بها من كل جانب وشلت الحركة التجارية فيها. اما السيارات الخصوصية فتبحث عنها في شوارع الضفة ولا تجدها على حاجز ما يسمى "الكونتينر" على الطريق "الالتفافي" للفلسطينيين بعد اغلاق القدس نهائيا امام باقي الفلسطينيين للعبور من شمال الضفة الى جنوبها، اذ يواجهك الجندي المتمركز هناك ب"تعليمات عسكرية مشددة ممنوع دخول السيارات الخاصة". عناصر "الكنتنة" التي اقحمتها سلطات الاحتلال في كل منحى من مناحي حياة الفلسطينيين اليومية وباتت تشكل واقعهم المعاش جاءت في اطار "عملية متدرجة" بدأت منذ عقد مؤتمر مدريد للسلام في بداية عقد التسعينات، وعنوانها العريض تغيير المعالم الجغرافية - السياسية للاراضي الفلسطينية وتحويل هذه الاراضي من اراض فلسطينية فيها مستوطنات يهودية "غريبة" الى أراض للمستوطنات اسرائيلية يوجد فيها قرى ومدن فلسطينية تكون هي "المعزولة" ولا يمكن الوصول اليها الا عبر طرق فرعية وجانبية، بينما الطرق الرئيسة مخصصة للمستوطنين اليهود. في اطار هذه "العملية"، وضعت "الحواجز" في البداية للفصل بين القدس وباقي الضفة الغربية وقطاع غزة بعد عقد مؤتمر مدريد للسلام، ثم ارتفعت لتصل الى 123 حاجزا زاد عددها، بعد تقرير "ميتشل" في اعقاب اندلاع الانتفاضة ليصل الى 240 ثم بلغ، بعد "تفاهم تينيت"، 330 وبعد "وثيقة زيني" وصل عددها الى 420، ومع "خريطة الطريق" صار مجموعها 763 حاجزاً. ثم، وكخطوة تكميلية، تم البدء في بناء الجدار العنصري ليفصل الضفة عن القطاع، وشمال الضفة عن جنوبها، ووسطها عن شمالها وجنوبها. لتطابق خريطة "اتفاقات اوسلو" وتقسيماتها للاراضي الفلسطينية الى مناطق أ و ب و ج والتي كانت مدخلا اسرائيليا واسعا لفرض نظام ال "كانتونات" مع خريطة الجدار وحواجزه تطابقا مذهلا مع خريطة تقسيمات اوسلو. وربما لم يتبق من مخطط "شرذمة" الاراضي الفلسطينية وتحويلها الى دويلات او "امارات" معزولة سوى البعد السياسي بعد ان قطع شوطا طويلا على الصعد الاجتماعية التعليمية والاقتصادية والصحية لتحويل الفلسطينيين الى "قبائل مدينية" يعين عليها "مشايخ" و "امراء" لجيوب هامشية بالقرب من مستوطنات تضم الى دولة اسرائيل.