هل ما زال لمسرح جورج شحادة مكان في لبنان 2004؟ أو بالأحرى هل ما زال المسرح - بشكل عام - قادراً على اثارة اهتمام اللبنانيين، واستقطابهم ومخاطبتهم؟ قد يأتي الجواب مستغرباً في نظر كثيرين: نعم! بفضل "مهرجانات بعلبك" اكتشفنا قبل أيّام، أنّه ما زال هناك جمهور للمسرح في لبنان، مستعد لتجشّم أعباء "السفر"، لمشاهدة أحد أشهر نصوص جورج شحادة، "مهاجر بريسبان"، كما أخرجه نبيل الأظن... ولعلّها التجربة الأنضج لهذا المسرحي اللبناني المقيم بين بيروتوباريس، منذ بدأ مسيرته الفنية. بعلبك التي استضافت كبار المسرح العالمي في السنوات الذهبيّة، من موريس بيجار إلى جوليان باك وجوديث مالينا المسرح الحيّ الأميركي، مروراً ب"المعلّم" جيرزي غروتوفسكي، أعادت الاعتبار أخيراً الى صاحب "سهرة الأمثال"، من خلال عرضين لمسرحية "مهاجر بريسبان"، كما تصوّرها الأظن، جامعاً حوله في هذه التجربة، بحرفة ورهافة، بعض أجمل الأسماء اللبنانية شعراً موسيقى وتصميماً و... تمثيلاً طبعاً. وهذا النصّ الذي قدّم في قراءات مختلفة لا تحصى في العالم منذ كتابته في العام 1965، بينها محاولات عربيّة عدّة نشير الى تجربة جورج ابراهيم مع "مسرح القصبة" الفلسطيني قبل بضع سنوات، يتخذ هنا أبعاداً جديدة، مبتكرة، من خلال رؤية اخراجيّة خاصة، تخاطب الواقع اللبناني الآن وهنا. ولعلّ من أولى مقوّمات العمل المسرحي الناجح، أن يقوم صاحبه بإعادة قراءة النصّ المكتوب - قبل زمن العرض بقرون أحياناً - في ضوء مكان وزمان محددين. بهذا المعنى يبدو جورج شحادة الاسكندرية 1907 - باريس 1989 راهناً أكثر من أي وقت مضى. الأديب العالمي الذي كتب بالفرنسيّة، وحيّته باريس منذ خمسينات القرن الماضي كأحد أكبر شعرائها، يبدو "معاصرنا" برؤياه الشعريّة الجارحة والشفافة حتّى ذروة العبث. وإذا كانت "أسطورة الهجرة" من مقوّمات الوعي الجماعي اللبناني، والشخصيّة اللبنانيّة، في بلد يبلغ تعداد أهله في الخارج أضعاف المقيمين، فإن فكرة "العودة"، عودة المهاجر بعد طول اغتراب، يفترسه الحنين الى "وطن النجوم"، يوازيها اليوم هاجس الرحيل الذي يسكن وجدان جيل كامل، يترك الأرض يباباً، والقرية تختنق بأسرارها وصراعاتها، ويمضي إلى مصيره. وهذه الحقيقة لا نخالها كانت بعيدة عن وعي الأظن حين اختار تقديم هذا النصّ: يعود ال"مهاجر" من بريسبان ليموت قبيل منتصف الليل في ساحة قرية، يخيّل اليه انّها تحتضن جذوره. الحوذي النصّاب يؤدي الدور عبيدو باشا، كما نكتشف في اللحظات الأخيرة من المسرحيّة، يأتي بكل ضحاياه "العائدين" الى الساحة نفسها، لأنّها الأقرب والأكثر رومانسية، وتشبه بأيّة حال قراهم البعيدة التي غيرتها الأيام في الواقع وفي الذاكرة. أليس الحنين واحداً، وكل القرى متشابهة، وكل المهاجرين متساوين في الحنين؟ وسوء التفاهم هذا سينهال بالمآسي على أهل القرية. ذلك أن المهاجر العائد، كان يحمل حقيبة جلدية محشوّة مالاً، وتبيّن من قراءة مفكّرته أنّه عاد للبحث عن ابنه. وتكون بداية الفضيحة: كل سيدات قرية بلفينتو الصقلية متزوجات وشريفات، فمن أين له هذا الابن، الذي يدعى "غالار" وغير الموجود أساساً في سجلات البلديّة؟! في الساحة نفسها التي لفظ فيها الالمهاجر أنفاسه في ظلمة الليل، علّقت صورته على جذع شجرة كي يتعرّف إليها الأهالي "النساء أولاً!"، فإذا بها تنقلب إلى حلبة مواجهة وصراعات و... تنازلات: من يكون الوارث السعيد لكلّ هذا المال وضحيته، إذ يدفع مقابلاً باهظاً هو تدنيس شرفه؟ كل رجل في بلفينتو سيشك بزوجته، متأرجحاً بين غسل العار وغواية هذا المال. ويتخذ هذا الصراع بعداً تراجيدياً في لبنان اليوم، بعد انهيار الطبقة الوسطى، وترنّح الاقتصاد على شفير هاوية بين لاعقلانية وطفيلية وفساد... اذ بات الحسّ "الخدماتي" هو الثروة القومية الوحيدة، وبات الناس العاديون مستعدين لأي شيء "من أجل المال"! وبين الحبكة المثيرة، واللغة الشاعريّة، والديكور المؤثر، والتمثيل اللافت... ناهيك بسائر العناصر المشهدية والمؤثرات، ينجح الأظن مع فريق المسرحيّة في خلق فرجة متكاملة، تنقل مناخات القلق والتوتّر وحالات الحيرة والغيرة والتشويق. ويسجّل له شغله على ادارة الممثّلين، واستعماله الديناميكي للفضاء، وتوظيفه الناجح للديكور الطبيعي، أي الآثار الرومانية بين معبدي باخوس وجوبيتير. فيما نجح معرّب النصّ، الشاعر عيسى مخلوف، في نقل المخزون الشعري للغة شحادة، بين عامية لبنانية وعربية فصحى ملطفة النقلة غير مقنعة أحياناً. وجاءت ملابس مصمم الأزياء ربيع كيروز لتغني الجانب المشهدي والبصري. ولا بدّ من التوقّف ملياً أمام الدور الذي لعبه المؤلف والعازف زاد ملتقى ابن أنطوان ولطيفة ملتقى. والموسيقى التي كتبها للعمل تشحن المَشاهد بعمق درامي، وهو حاضر في العرض، إذ يجلس الى البيانو في أعلى السور، ويرافق المشاهد عازفاً. ولا شكّ في أن نقطة الثقل في "مهاجر بريسبان" مشاركة باقة من أبرز الممثلين اللبنانيين: حسن فرحات، كميل سلامة، نقولا دانيال، غابرييل يمين، كارول عبّود، رندا الأسمر، جوليا قصّار... وصولاً الى منذر بعلبكي وبيار داغر والممثل الشاب طارق باشا الذي يلفت النظر في اطلالته بدور شيشيو مكتشف جثّة المهاجر. وتسجّل لنبيل الأظن ابتكاراته التي هي بمثابة كتابة اخراجية تضيف إلى النصّ، بدل الاكتفاء بتنفيذه على الخشبة. نشير الى فتاة القرية الشاردة آنا داليا نعوس، ملاك الحكاية التي يبدأ بها الأظن عرضه، ويحعلها تحوم حول المشاهد باستمرار. واستعمل الفضاء المسرحي بدينامية ووظف الاضاءة، مستثمراً الحجارة القديمة والاشجار التي تندرج ضمنها العناصر المستحدثة للعرض بشكل طبيعي. وهناك مشاهد ستبقى في الذاكرة طويلاً مثل المواجهة بين روزا / كارول عبّود واقفة بين حجارة السور الى اقصى يسار الخشبة وزوجها بيكالوغا/ كميل سلامة يذكّر اداؤه بمسرحيات ريمون جبارة، مشهد قتل ماريا/ جوليا قصّار على يد زوجها باربي/ غابرييل يمّين. وأخيراً مشهد الرقص الجنائزي الغرائبي في نهاية الفصل الأوّل، على موسيقى متنافرة تذكّر بشونبرغ، بحركات ميكانية مقلقة تنذر بالمأساة الآتية، وبرفقة لقطات فيديو للمشهد نفسه على جدار العمق. في بلعبك هناك دائماً مفاجآت تعطي للعرض المسرحي فرادته. سكاراملا/ حسن فرحات، يتحدث مع زوجته لورا/ رندا الأسمر عن القمر "صحن الفضّة الذي ينكسر دائما" فيما القمر هلال في سماء بعلبك. بيكالوغا/ كميل سلامة يحمل بندقيته ويتوه في ليل بيلفينتو بحثاً عن زوجته ليغسل العار... فيما تتصاعد من مكان ما في بعلبك أصوات طلقات نارية أو مفرقعات؟ بعيدة، فيمتزج زمن المسرحية بالزمن الراهن.