تنفجر مشكلة غزة، وتحذير البعض من"الصوملة"، عشية الانسحاب الاسرائيلي المقرر، لتطرح مشكلة الحاكمية الفلسطينية والقدرة عليها. وهي مشكلة لا تخفي اسرائيل خبثها وسينيكيتها في التعاطي معها: فالفلسطينيون، في رأي تل أبيب، انما يبرهنون"عجزهم عن الوفاء بهذه المهمة". الا ان اسرائيل تخفي دورها في دفع الفلسطينيين الى هذا"العجز"، وهو دور يكمل الشروط الاقتصادية والديموغرافية القاسية التي رزح الغزاويون ويرزحون تحت وطأتها. مع هذا، لا يكفي لمجرد أننا نكره اسرائيل ونتحفظ عما تقول، أن نتستر على المسؤولية الضخمة التي تتحملها القيادة الفلسطينية، وبصورة أكثر تحديداً ياسر عرفات. وما من شك في أن ثمة أساساً موضوعياً لهذه المشكلة، مفاده ان الفلسطينيين يعيشون في وقت واحد صراعين: واحداً ضد الاحتلال يدفعهم، أو يدفع معظمهم، الى التمسك بكل ما يرفضه الاحتلال. وفي الخانة هذه تندرج رمزيات الكرامة والتحدي والمعاندة والممانعة. والثاني، ضد خليط الفساد والتأخر والاعتباط والاستبداد والمزاجية ممثلة في سلوك عرفات وبطانته. وإذا كان الصراع الأول هو الذي دفع الى محض القيادة الرسمية ما حظيت به من ولاء ومبايعة، لا سيما وقد ذهبت اسرائيل بعيداً في محاصرتها وإذلالها، فإن أموراً أخرى شرعت تدفع في اتجاه معاكس. ذاك ان توقف المسار السلمي والتعفن الذي أصاب الانتفاضة، جعلا التعبير الأهلي، الشللي والعائلي، عن السياسة أقوى بكثير من التعبير الوطني و... السياسي. وهنا ربما لعب تشظي حركة فتح، وتصفية واعتقال بعض كبار كوادرها الميدانيين مروان البرغوثي...، دوراً ملحوظاً. لكن السلطة أيضاً لم تتلكأ في الادلاء بدلوها، وكان العنوان الأبرز في هذا المجال وجود رئاسة حكومة فعلية وقوية. فكلنا يذكر ان عرفات سبق ان اضطر اضطراراً، تحت وطأة الجدول الزمني الذي رسمته خريطة الطريق، الى تسمية محمود عباس أبو مازن لرئاسة الحكومة. بعد ذاك، ومن طرفين نقيضين، تعاونت اسرائيل ورئيس السلطة على دفع رئيس الحكومة الجديد الى الاستقالة. وجاء أحمد قريع الذي لا يستطيع، اليوم، أي كان ان يؤكد ما إذا كان مستقيلاً أم لا، وما المعنى الدقيق لرهن البقاء ب"الإصلاح". والآن تختلط الأمور بحيث يترجم الهم الاصلاحي المبهم عن نفسه في الهم الوطني. وفي هذا المعنى يبدأ راديكاليو"فتح"بالاعتراض على القيادة التي يعترض عليها"تسوويو"فتح. وكما دائماً في حالات"الصوملة"وشبه الصوملة، ينفتح الباب واسعاً لأعمال الخطف والقتل العشوائي، فيما يزدهر أمراء الحرب الذين لا يقتصرون، في هذه الحال، على دحلان والجبالي وموسى عرفات. وبالطبع، لن تتباطأ مواقع النفوذ الأجنبية في التسلل لملء الفراغات جنباً الى جنب أمراء الحرب. والحال ان الفلسطينيين، من بين كل الشعوب الأخرى، أقل من يملك مثل هذا"الترف". لكن يبقى أنه لئن تعاونت على الوصول الى هذا البؤس أسباب كثيرة، فالحاسم بينها هو انتفاخ الرمزي المتعلق بالكرامة والزعامة في ظل انعدام كل فعالية أخرى - أكانت فعالية الزعامة أم فعالية القدرة على إشباع الكرامة وتلبيتها. وهنا، على الأرجح، يُفترض ان يتركز النقاش.