الحديث الأميركي عن مقومات الوطنية والولاء، عن أسباب حرب العراق وافرازاتها، عن حرب الإرهاب كما تشنها إدارة جورج دبليو بوش، حديث جديد نوعياً لا بد أن يُقلق كلاً من كارل روف، مهندس حملة إعادة انتخاب الرئيس الجمهوري، وأصحاب"العقيدة الاستباقية"من الصقور ومتطرفي المحافظين الجدد. سياسة التخويف وبثّ الخوف عادت لتنتاب الذين وضعوها. أساليب الغطرسة ارتدّت على أولئك الذين اعتمدوها في حملاتهم التضليلية. قد تكون الأجواء الأميركية السائدة حالياً مرحلية ستتغير طبقاً للأحداث المقبلة. لكن هناك ثوابت الآن سيكون التراجع عنها صعباً جداً، بين أبرزها فك الربط بين الوطنية وبين دعم جورج بوش كرئيس زمن الحرب، وازالة صفة"التخوين"عن معارضي"رئيس الحرب"وسياساته. وبينها أيضاً ارتطام"عقيدة الاستباقية"في الساحة العراقية وتقهقرها لدى ادراك شطر كبير من الأميركيين أنه سيدفع كلفتها غالياً بأموال وأرواح، ولأجيال، إذا بقيت رهن سياسة الولاياتالمتحدة. العراق، على رغم نقل السلطة إلى حكومته الموقتة وطي صفحة الاحتلال بمراسم رسمية، لا يزال في الذهن الأميركي مرشحاً لأن يصبح المستنقع لأميركا. جزء من الرأي العام الأميركي يرى أن حرب العراق قرار صائب حتى وإن لم يُعثر على أسلحة الدمار الشامل أو لم تتأكد علاقة بين نظام صدام حسين وتنظيم"القاعدة". فمجرد التخلص من صدام حسين انجاز كبير في صون الأمن القومي والمصالح الأميركية، حسب هذا الرأي. الجزء الآخر لا يذرف دمعة على سقوط صدام حسين واستبداده، لكنه يعارض توريط الولاياتالمتحدة بذرائع تضليلية ويتهم الرئيس بوش وإدارته بالكذب على الرأي العام الأميركي. هذا البعض يحاسب بوش على اخطائه، ليس فقط في العراق، وإنما أيضاً في الحرب على الإرهاب، ويعتبر"رئيس الحرب"اصولياً دينياً، ارتهنته مجموعة التطرف وجعلته منها. إنه يتوقع الأسوأ في الساحة العراقية، ويلوم بوش على"استدعاء"الإرهاب إلى العراق، ويخجل من الأخطاء المتكررة، وبالذات من فضائح السجون العراقية. الأميركيون، شأنهم شأن العراقيين، منقسمون حول حرب العراق، من أسبابها إلى افرازاتها إلى ما إذا كان من الحكمة بقاء 160 ألف جندي أميركي في العراق، أو كان من الأفضل للجميع سحب القوات الأميركية. مبررات حرب العراق، منذ بذورها، كانت دائماً زئبقية. رأي هذه الزاوية، منذ البداية، ان هذه الحرب أساساً هي حرب"العقيدة الاستباقية"لصقور الإدارة الأميركية ومستشاريها المتطرفين. ما آلت إليه أحلامهم ومزاعمهم وافتراضاتهم الخاطئة في حرب العراق شهادة واضحة على انهزام"العقيدة الاستباقية". فهي عقيدة الغطرسة والاستهتار والاستبعاد واختراع الذرائع وتعمد التضليل. رأي هذه الزاوية أيضاً هو ان تخلص العراقيين من استبداد نظام صدام حسين ما كان ممكناً من دون الحرب الأميركية في العراق. إن هذه الحرب، التي وضعها صقور الإدارة الأميركية لأهداف استراتيجية، تتطابق مع"العقيدة الاستباقية"وترتكز إلى ورقة ريتشارد بيرل"الانفصال النظيف"، لخدمة إسرائيل، قد تتحول سهواً إلى"تدخل انساني"يخدم العراق. تناقض؟ لا. ما حدث في العراق هو أن العراقيين هم الذين انقذوه من الانهيار والتفكك. الفضل في بقاء العراق موحداً، وتجنبه حرباً أهلية، وتسلمه صلاحيات السيادة والتزامه جدولاً زمنياً لانتخابات عامة وتمتعه بحق طلب مغادرة القوات الأميركية، ليس فضل الصقور والمحافظين الجدد. إن الفضل أولاً للعراقيين، ثم للبيئة الدولية ولصفوف الاعتدال داخل الإدارة الأميركية وبين الرأي العام. الفضل أيضاً للانتخابات الأميركية الآتية. ولئلا يقال ان هذا كلام"عموميات"ما لم يذكر مساهمات المقاومة العراقية. نعم، ان المقاومة لعبت دوراً في تعطيل"نزهة"الصقور الأميركيين في العراق. حتى الإرهاب، للأسف، لعب دوراً في ايقاظ الرأي العام الأميركي. أحد أخطاء الصقور الأميركيين أنهم راهنوا على"تطويق"المتطوعين القادمين من تنظيم"القاعدة"وغيرها إلى العراق، في استدراجهم للقضاء عليهم. ظنوا أن هكذا تُستكمل المهمة التي بدأوها في أفغانستان. قالوا، كما كرر بوش، إن حرب العراق أخذت حرب الإرهاب بعيداً عن المدن الأميركية. جعلوا من العراق"الجبهة"البديلة في حرب الإرهاب. القوات الأميركية باقية في العراق لخوض هذه الحرب، إلى جانب مساعدة الحكومة الموقتة على استتباب الأمن. هذه العلاقة المتشابكة بين المهمتين هي الخطر الأكبر الذي يحدق في مستقبل العراق. عبء هذه العلاقة ليس فقط على الإدارة الأميركية، وإنما هو أيضاً على الحكومة الموقتة ورئيس وزرائها اياد علاوي. قرار مجلس الأمن 1546 الذي أضفى الشرعية الدولية على وجود القوات الأميركية في العراق خولّها استخدام كل القوة الضرورية للقيام بمهماتها، بما في ذلك مهمة مكافحة الإرهاب، هذا القرار اعطى أيضاً الحكومة السيادية حق طلب مغادرة القوات. الحكومة الموقتة أوضحت حاجتها إلى القوات الأميركية وبعث علاوي رسالة، شكّلت ملحقاً للقرار 1546، دوّن فيها رسمياً تلك الحاجة. قد تكون الحكومة العراقية الموقتة محقة في تقويمها ان استقرار العراق يتطلب بقاء القوات الأميركية إلى ما بعد انتهاء العملية السياسية نهاية عام 2005. إنما عليها، ومن مصلحة العراق، ألاّ تصد الأبواب أمام فكرة طلب مغادرة القوات الأميركية أبكر بكثير من ذلك الموعد. فإذا أصبح الوجود العسكري الأميركي تحت تسمية"القوة المتعددة الجنسية"ذريعة مستمرة لتدفق المتطوعين غير العراقيين إلى"الجبهة"العراقية لخوض حرب الإرهاب، تقتضي المصلحة العراقية العليا سحب الذرائع من كل وأي طرف كان. المصلحة الأميركية أيضاً تتطلب من جورج دبليو بوش أن يكف عن وصف مهمة القوات الأميركية في العراق على أنها مهمة مكافحة الإرهاب. ففي تكراره هذا الموقف، إنه يستدعي ليس فقط الإرهابيين للانتقام من الجنود الأميركيين وإنما كذلك غضب العراقيين من تحويلهم سلعة في حرب أرادها بعيداً عن المدن الأميركية. إنه في هذه السياسة الخاطئة يغامر بأن يحوّل العراق حقاً مستنقعاً للولايات المتحدة بغض النظر عن مراسم نقل السلطة وتواقيع"لتحكم الحرية"بخط اليد. مساندة الحكومة العراقية الموقتة يجب أن تكون المهمة الوحيدة للقوات الأميركية بعيداً عن"العمليات الحساسة"التي لا تخضع إلى"فيتو"من الحكومة الموقتة والتي تدخل عملياً في"حرب الإرهاب"كما تتصورها وزارة الدفاع. يوم الاثنين الماضي، يوم نقل السلطة إلى الحكومة الموقتة، كان أيضاً يوم نقل ملف السياسة الأميركية نحو العراق من وزارة الدفاع إلى وزارة الخارجية. هذا بحد ذاته شهادة أخرى على فشل البنتاغون وصقوره واضطراره إلى"بلع"هزيمة أخرى في العراق. لذلك، وللذين يخشون عودة تملّك المتطرفين داخل الإدارة الأميركية وحولها بملف العراق إذا ما نجح في التعافي، هذه الوقائع: مغامرة ذوي"العقيدة الاستباقية"فشلت في أول"تجربة"لهم إذ ورطوا الولاياتالمتحدة ليس فقط في العراق، وإنما في كراهية عالمية جعلت من الفرد الأميركي سجيناً للعظمة كما يتصورها ويعرّفها المتطرفون. نتيجة المغامرة هي ذلك القدر من الفشل إلى درجة اضطرار زمرة الحقد على الأممالمتحدة واعتبارها"هامشية"إلى اللجوء إليها للإنقاذ وللشرعية الدولية التي سبق واستهتروا بها. غطرسة البنتاغون كانت تضاخمت لدرجة التمتع باستبعاد وزارة الخارجية عن صنع القرار والتهكم عليها، إنما الآن، فإن وزارة الخارجية بين أهم أدوات انقاذ أميركا من الورطة التي رمتها فيها وزارة الدفاع. فضائح السجون التي أخجلت الفرد الأميركي وأشعرته بالعيب، هي فضائح البنتاغون. والأميركيون، بمعظمهم، يحملون وزارة الدفاع مسؤولية هذه الاهانة الكبيرة والنقض الواضح لما عُرف بقيم أميركية. وأخيراً، وليس آخراً، ان الحرب على الإرهاب في محطتي أفغانستانوالعراق، وكما وضعتها وزارة"الاندفاع"، استخدمت الخوف والتخويف وسيلة لاخضاع الفرد الأميركي لغايات ليست في المصلحة الأميركية القومية في نهاية المطاف. هذه الوقائع سلاح وذخيرة في وجه الصقور والمتطرفين عند عودتهم المرتقبة لزعم الفضل في حال نجاح تجربة العراق. ولذلك، يجب عدم خشية أن يسقط تعافي العراق ذخيرة في أيادي هذه الزمرة وذوي"العقيدة الاستباقية"كي يعودوا بزخم غطرستهم المعهودة لاملاء وتنفيذ الأجندة التي يعتنقونها. فالبديل عن تعافي العراق بدرجة من السوء تجعل من الضروري جداً عدم السقوط في دوامة الخوف مما لدى هذه الزمرة من استراتيجيات لتعافيها من اللوم وزعم الفضل في نجاح تجربة العراق. بكلام آخر، إن الحؤول دون انهيار العراق وتفككه هدف أهم من هزيمة المتطرفين بين الصقور والمحافظين الجدد الأميركيين. تحقيق الهدفين ممكن، إنما باستراتيجية وتماسك في فضح كيف ورطت هذه الزمرة أميركا وإبراز ممَن جاء الانقاذ. ما أبرزه ثبات المعارضة الأميركية لما"قبضته"الإدارة الأميركية على أنه"في الجيب"هو شهادة على جدوى المؤسسات الديموقراطية في بلد ديموقراطي. وهذا ما على البقعة العربية الاقتداء به، في العراق وبعده. إدارة بوش قررت ما بعد إرهاب 11 أيلول سبتمبر أن الحرب على الإرهاب توفر لها صلاحيات فوق الدستور الأميركي وافترضت أن لا أحد سيحاسبها، لأن البلاد رهينة الخوف والوطنية العارمة. احتجزت السجناء بلا محاكمة واعتقلت مَن اشتبهت بهم بلا مراقبة وأصدرت قوانين على حساب الحقوق الأساسية التي حماها الدستور الأميركي. الكونغرس، كعادته، سار في الخطى التي رسمتها له السلطة التنفيذية، وأثبت أنه، بمعظمه، سلطة تشريعية جاهلة ترقد تحت نفوذ"اللوبي"والاعتبارات السياسية الضيقة. الديموقراطية المؤسساتية في الولاياتالمتحدة، كما الرأي العام، رفضت الخضوع اما لتسلط السلطة التنفيذية في البيت الأبيض، إما لجهل السلطة التشريعية في الكونغرس. لجأت إلى التعبئة الشعبية بصبر وتماسك وعملت على قضايا انفرادية وجماعية ليس فقط لمعارضة سياسة الإدارة الأميركية، وإنما فقط لمعارضة سياسة الإدارة الأميركية، وإنما أيضاً لقطع الطريق على التجاوزات القانونية كتلك تحت ذريعة"قانون الباتريوت"، أو تلك التي قضمت أسس الحقوق المدنية. لذلك، جاءت المحكمة العليا بقرارين مهمين يتعلقان بمحاكمة الأجانب والأميركيين المتهمين بالتورط بالإرهاب، تحدياً افتراض الإدارة الأميركية أن حرب الإرهاب تعطيها صلاحيات فوق القوانين التي وضعها الدستور الأميركي. أساساً، اختارت وزارة الدفاع غونتانامو مكاناً لاحتجاز مَن تريد وصمه بصفة الإرهاب كي تتمكن من تجاوز القوانين باعتبار غوانتانامو قاعدة أميركية في كوبا خارج الأراضي الأميركية. أساساً، كانت هناك نيّة للقفز على الدستور والقوانين التي جعلت من أميركا دولة عادلة. وعليه، ان قراري المحكمة العليا هما صفعة أخرى للبنتاغون ولمتطرفي صقور الإدارة الأميركية. قبل شهور اعتُبر انتقاد سياسة إدارة بوش والتعبير عن الغضب من وزارة الدفاع موقفاً غير وطني باعتبار أن الولاء للقوات الأميركية، في حال الحرب، يجعل ضرورياً الولاء للسياسة التي وضعت القوات في حال حرب. الآن، الوضع مختلف تماماً. هناك فصل تام بين الولاء لبوش والولاء للجنود. هناك جديد نوعي في الحديث الأميركي حيث انتقاد ومعارضة إدارة بوش أصبحا في رأي الكثيرين واجباً وطنياً. الآن يتزايد عدد الذين يستخدمون تعبير ABB، ومعناه، أي شخص سوى بوش. والسبب هو ان شطراً مهماً من الأميركيين يرفض التخويف والخوف سلاحاً ضده، ويكره التضليل وسيلة لاقناعه، وينبذ فكرة الحروب الاستباقية، ويعارض احتجازه رهينة الغطرسة والعظمة، ولا يعجبه أبداً أن يكون موضع كراهية عالمية بسبب حفنة متطرفين ورئيس يعتبره مهووساً دينياً. هذا مجرد شطر من الأميركيين، لكنه بحد ذاته، وبنموه المتزايد، سبب وجيه لقلق عميق لكارل روف ولعصبة"الاستباقية".