فيلم "بحب السيما"، لمؤلفه هاني فوزي، ومخرجه أسامة فوزي، لن يمر عابراً، كما سوف تمر افلام الصيف هذه السنة. انه علامة سينمائية فارقة في دنيا السينما المصرية، الشحيحة هذه الايام. ذو بعد فني وفكري، طرَق المجتمع من باب وجودي صعب. فتحرك شيءٌ فيه، وصدرت ضده كل انواع التشنيعات الممكنة. يروي الفيلم اللحظات القوية من حياة عائلة مسيحية بلسان ابنها الأصغر، في ستينات القرن الماضي. يرسم ملامح محيط هذه العائلة وتفاعلها معه، ويسلّط الضوء على رب هذه العائلة. متزمّت في إيمانه، مرتعد بلا كلَل من الله، ومواظب على الحذافير الشكلية لهذا الايمان، يحرم نفسه من الحياة، كأنها إنما وُجدت من اجل ان يعدّ لآخرته وآخرة زوجته واولاده، خاصة ابنه، الراوي، الشغوف بالسينما والتي يحرمه منها، بصفتها خطيئة. وحول التزمّت، تدور المواقف الساخنة والساخرة، والخيانات والشجارات، والمساعي الدؤوبة لتجنّب الخطايا. يتفاعل تزمّت الأب سلبا مع محيطه، فيعدل تدريجيا عنه، حتى يبلغ لحظة، مثل التجلّي، يتحول فيها الخوف من الله، الى حب له. فتأخذ حياته منحى تصالحيا مع الحياة. وفيما هو مُنكبّ على هذه المصالحة، يقضي نحبه فجأة. كان يمكن ان يكون للفيلم "موعظته" الخاصة، بأنه يدعو الى الحياة، الى "حب" الحياة... لكنه لم يفعل: اورث الام الارملة تزمّت الاب، وانتهى الفيلم بمشهد عن الولد الراوي، يشيح نظره عن إحتضار جده ليشاهد مسرحية ساخرة... تلك هي جوانب من الحياة، يريد الكاتب ان يظهرها الفيلم بتعثراتها وتناقضاتها وصعودها وهبوطها الدائمين على ما يبدو... من غير فتاوى وبالكثير من الاجتهاد. فللمخرج عينه الخاصة، صورته الخاصة، التي لا تشبه صورة غيره. استطاع فيلمه ان يفجّر طاقات تمثيلية، فتألّق فيه كل من ليلى علوي ومحمود حميدة في دورهما كزوجين يحبان بعضهما، ولا يعرفان كيف. مناخات الفيلم هي الاخرى أشاعت ذكاء وسخرية وواقعية، وشيئاً من الحنين اللذيذ الى ماض قريب. مخرجه وكاتبه مثلهما مثل كبار الايطاليين في الثمانينات، الذين تناولوا المسائل الايمانية من زوايا وجودية وفلسفية، وكان شكّهم بالايمان ذا منطلقات ايمانية ايضاً. اما استقبال الفيلم، فكان الصورة التي استطاع ان يعكسها عن المجتمع. منذ البداية كان التعثّر: بقي ثلاث سنوات محبوساً، فيما الاعمال المعروضة تعلن عن نفسها قبيل انتهاء تصويرها. وبعد ذلك، شُكّلت من اجله لجان ولجان مضادة، من الرقباء والمثقفين ورجال دين مسلمين ومسيحيين وشخصيات عامة مسيحية. وبعد ان افرج كل هؤلاء عنه، نزل الى الصالات، فقامت الدنيا ولم تقعد حتى الآن: غضب وتظاهرات في باحات الكنائس، وتعليمات من الكنيسة بعدم مشاهدة الفيلم. ثم دعاوى وتصريحات لرجال دين مسيحيين خصوصاً، منهم واحد ينكب على دراسة الفيلم ليربط بينه وبين "بروتوكولات حكماء صهيون"، اذ يرى أن الفيلم "وراءه مؤامرة صهيونية تستهدف هدم الدين المسيحي من اساسه"... ناهيك عن مقالات تحمل تهماً كلها مشكّكة: إما بإيمان الكاتب والمخرج، أو بإيمان الممثلين المسلمين الذين "كفروا" عندما قبلوا بتمثيل ادوار مسيحيين... وآخر هذه التحركات المضادة للفيلم دعوى اقامها 11 رجل دين مسيحي، ورفعوها الى قاضي الامور المستعجلة من اجل سحب الفيلم فورا من صالات العرض الدعوى سوف تُبَتّ في 24 من الشهر الجاري. والاعتراض كله على "الصورة القبيحة" التي اعطاها الفيلم عن المسيحيين وعن معتقداتهم. والواقع ان الفيلم رائد في نقد الغلو الديني. واسلوبه خاص، يجمع بين العمق والبساطة. وان حصلت أحداثه في الستينات، فهو يخاطب، مواربةً، الغلو الديني الحاصل الآن. والعديدون ممن شاهدوه تمنّوا لو يكون فاتحة لفيلم عن الغلو الاسلامي. لكن بدلا من ذلك، بدلا من ان يشجع الفيلم المسلمين على عدم السكوت عن غلوهم، حصل العكس: كان بالنسبة لرجال الكنيسة بمثابة الفرصة ليؤكدوا سلطتهم على المؤمنين، وبنفس القدر الذي يمتلكه رجال الدين المسلمون. فكما للمسلمين مجمعهم الازهري، المرابط على حدود التقوى والفضيلة، يجب ان يكون لرجال الدين المسيحيين من يرصد هرطقات ابناء رعيتهم. ولا فضل لأحد على أحد! وربما بسبب هذه الشحنة التكفيرية بالذات، لم يفهم حراس العقيدة أن الفيلم لم يقُد بطله الى الكفر والفجور، بل قاده الى الايمان الخالص. وكل الفرق يكمُن في التصور المحمول عن الايمان: فإن خفنا من الله، وامضينا حياتنا وفرائصنا ترتعد من ذكره، تعطّلت حياتنا. وان احببناه، انطلقنا بها وبذاك الحب من دون اوهام... هناك ايضا شيء قوي آخر يقف خلف الهجوم "الديني" على الفيلم: تعريف وظيفة العمل الفني، من انها تقديم نماذج يُقتدى بها: مثل مسلسلات رمضان، حيث الشخصيات من طينة الذهب الكثير اللمعان. وانطلاقا من هذه الفكرة، كان الفيلم مرفوضاً: الخيانة الزوجية، الضيق من التزمت، القبلات في الكنسية، المشادات في داخلها... كلها مشاهد لا يجدر بها ان تكون قدوة، لذلك فهي ممنوعة. فالصراع، كما كتب احد النقاد المصريين، هو "صراع على الصورة": فكما انه يحق للمسلمين التستير على عيوبهم وعيوب مغالاة غالبيتهم، كذلك للمسيحيين الحق بالتستير على عيوبهم، وملاحقة اي واحد منهم يسيء الى هذه الصورة. ومع ذلك، فلسان القساوسة يشي بحقيقة واقعة، بلا ريب، منحها الفيلم الكلمات التي تعبر عنها: فالاقباط غائبون تماما عن الخيال الجمعي، الفني منه والثقافي والتاريخي. والكنيسة هي الطاغية عليهم الآن: غياب المساحة المدنية وغياب زعامات قبطية علمانية كالتي عرفتها مصر قبل 1952، واحتكار الكنيسة لمجالات عيش ابناء رعيتها، بمشاكلها وعلاقاتها وزيجاتها... كل ذلك حوّل الكنيسة الى المدافع الوحيد عن "المواطنة" القبطية. يقول رجل دين مسيحي، مفنّدا غضب القساوسة وكاشفاً عن بواطنه: بدلا من ان يهاجموا الفيلم "فليرفعوا دعاوى ضد المسلسلات التي تقدم لنا تاريخا مزيّفا عن مصر، وليرفعوا دعاوى لإلغاء كافة القوانين البالية التي لا تزال سائدة والتي تكرّس التمييز وعدم المساواة بين المواطنين، ولا سيما حرية العبادة". كل هذا خرج من المجتمع: فيلم بسيط وعميق اعطاه المعاني والمفردات لكي يكشف عن احد أوجهه. فقام بوظيفتين: أمتعنا وعلّمنا.