ليس من المفيد هنا العودة للحديث عن معنى الاجتهاد وشروطه، فلسنا في معرض فقهي مدرسي. كما ليس من المفيد العودة أيضاً لدراسة أي من الأمرين الأولى بالتقديم: الإصلاح الديني أم الإصلاح السياسي، فذلك سؤال مماحكة واستغباء. لكن الأجواء تفرض الحديث عن ضرورات التجديد الديني وليس الفقهي، كما تفرض الحديث عن ضرورة المصالحة بين الدين والدولة في المجال العربي بالذات، وأكثر من المجال الإسلامي العام. وهذان الأمران، أمر التجديد الديني، وأمر المصالحة بين الدين والدولة، مترابطان الآن، بل ومنذ قيام الدولة الوطنية العربية في عشرينات القرن العشرين. بيد أن الأفكار والمناهج التي طُرحت في مطالع القرن العشرين لحل هاتين الإشكاليتين، ما عادت واردة الآن، لاختلاف الظروف، واختلاف القضايا والمشكلات. كان المطروح في ما صار يُعرف بعصر النهضة العربية تجديد المشروع الديني والسياسي للأمة والدولة. لكن الذي كان واضحاً منذ الربع الأول للقرن التاسع عشر ان الحاجة ملحة الى تجديد مشروع الدولة بالذات، ولذلك فقد ذهب الطهطاوي في "تخصيص الابريز في تلخيص باريز" 1832 الى انه لا مشكلة دينية عندنا، بل نحن متخلفون في الصناعة والزراعة والتجارة... وادارة الشأن العام. لكن مع المضي في إصلاح الأمر السياسي مؤسسة الجيش، ومؤسسات "المنافع العمومية" الأخرى ظهر ان افتراقاً يوشك أن يتحول لنزاع يجري بين الدولة والمؤسسة الدينية. كما ظهرت الحاجة لأن يُمدَّ الاسلام عبر مؤسسات متطورة مشروع الدولة بالحوافز، ولأن يعطيه المشروعية اللازمة تجاه الجمهور. ولذلك، تصاعدت الدعوات، ومنذ خير الدين التونسي وجمال الدين الأفغاني ورفيق العظم ومحمد عبده وقاسم أمين، للربط بين الإصلاحين السياسي والديني، عبر إصلاح "الفكر" و"الفقه" والمؤسسات الدينية. وقد انصبَّ الجهد في المجال الديني على إصلاح "الرؤية" أو تجديدها، وعلى إصلاح الفقه. وقد انحصر ذلك في ثلاث مسائل: تجديد الرؤية الدينية عبر مكافحة الإسلام الشعبي، والدعوة للاجتهاد أو لفتح باب الاجتهاد، والانصراف عن فقه التعليل القياسي، لمصلحة فقه المصالح والمقاصد. وفي هذا المجال أجريت إعادة نشر كتب الشوكاني والسيوطي الداعية للاجتهاد، وطبع كتب لحسن العطّار والطهطاوي نفسه وحسن العدوي في الاجتهاد أيضاً. وأنجز الفقهاء التونسيون تحت تأثير هذه الموجة نشرة لكتاب الشاطبي المالكي، من القرن الثامن عشر، والمسمى بالموافقات في الدعوة لفقه المقاصد، لتجاوز فقه التعليل أو توسيعه. وكما سبق القول، فإن الاشكالية وقتها كانت تجديد مشروع الدولة والدين، استناداً الى الاستجابة لتحديات "التقدم" الأوروبي، ومساومته بتقدم اسلامي سياسي وثقافي وديني. كانت المشكلة وقتها إذاً تهدد الاجتماع العربي الاسلامي بسبب تخلُّف المؤسسات السياسية والدينية. وكانت المواجهة لهذا الفهم للتحدي أمام الأمة، بعث الروح في الفكرة الدينية والسياسية لإعادة الانتظام في الداخل، ومع الخارج. أما اليوم فإن الذي يستدعي إعادة النظر والإصلاح: مشكلات قوية يُعانيها المشروع السياسي نتيجة الفشل في إدارة الشأن العام، وصعود الإسلام الأصولي من ضمن "الصحوة الاسلامية" وسوء العلاقة المستحكِم بين الدين والدولة، وليس بين المؤسسات الدينية والأخرى السياسية. ولذلك لا يكفي في هذا المجال القول بإصلاح المؤسسة الدينية، ولا بإصلاح العلاقة بين المؤسسات الدينية والسياسية. فالمؤسسات الدينية بشوشة مع الدولة نتيجة الاستتباع أو الخوف أو الضعف، والإسلاميون الحزبيون ثائرون على الدولة كما على المؤسسة الدينية. هكذا لا يكفي للاصلاح الديني، وللصلاح بين الدين والدولة، الذهاب لتأييد تقوية المؤسسات الدينية التقليدية، ولا تأييد فقه المقاصد في وجه الفقه القياسي. فالذي حصل أبعد من ذلك بكثير، ويتطلب مراجعات شاملة. إننا نواجه إسلاماً جديداً يملك رؤية مختلفة ومعادية للعالم المعاصر، ويسودها خوف قوي على الهوية والخصوصية، كما تسودها طهورية راديكالية وصفها هنتنغتون بالحدود الدموية أو المغمّسة بالدم. وما عادت هناك مشكلة سببها انسداد باب الاجتهاد، بل كل الاسلاميين يقولون بالاجتهاد، لكنه اجتهاد التأصيل، أي الإعادة للقرآن والسنّة بطريقة حروفية لاكتشاف المشروعية أو عدمها. ولا يكتفي الإسلاميون بذلك، بل يقولون بالنظام الإسلامي الشامل الذي يتبلور ويتحدد في دولة إسلامية تطبّق الشريعة أو تعيد تطبيقها، بمعنى انها ليست مطبَّعة اليوم، ولذلك فالمشروعية ناقصة أو مفقودة. ومعنى هذا ان الدولة تغيرت نتيجة انهيار مشروعها التحريري والتنموي، والدين تغيَّر نتيجة انهيار المؤسسات التقليدية، واستيلاء مجموعات غير شرعية على وجه الإسلام الرمزي والثقافي. وكما تغوَّلت الدولة على المجتمع وعلى الدين باحتكار المرجعية في استبداد وسوء تقدير واستعمال، تغوَّل الدين باسم جماعاته الحزبية على الدولة رؤية ومؤسسات ووظائف. ومن هنا ضرورة إصلاح العلاقة بين الدين والدولة، من ضمن مشروع جديد ديني وسياسي. وليس من شأن المشروع الجديد للإصلاح الديني الرجوع للاصلاحية الإسلامية الأولى، ولفقه المقاصد، مع ضرورات الإفادة من التجربة. كما ليس من شأنه الآن تقوية المؤسسة الدينية، لا لشيء إلا لأن ذلك ليس ممكناً وليس عملياً. المهمة العاجلة الآن نقد الإسلام الحزبي، إسلام الحاكمية والتأصيل، والانفصال عن الجمهور، وتحويل الشريعة الى قانون، والدين الى فرقة. وهذا الانتقاد للرؤية الجديدة، يمكن أيضاً أن ينضم الى محاولات التجديد في أصول الفقه، والقواعد الشرعية، وعدم الاكتفاء بنقد الطريقة أو المنهج القياسي، والدعوة لمقاصد الشريعة. والواقع ان المدخل النقدي هذا هو المقدمة لقضية المصالحة بين الدين والدولة. صحيح أن الدولة أساءت عندما استتبعت المؤسسة الدينية، فأضعفت مرجعيتها، وأعانت على تجاهلها وتجاهل آرائها وفتاويها من جانب الجمهور، وساعدت الأصوليين من حيث لم تقصد باستصدارها الفتاوى الكثيرة ضدهم. لكن، من جهة ثانية، فإن قول الاسلاميين باندغام الدولة والدين، وباعتبارهم أنفسهم المرجعية للأمرين، يجعل من المستحيل ألا يتصادم الطرفان. لا بد من العودة من جانبهم للقول بمدنية النظام السياسي، وليس الحاكمة فقط. وقد سبق للمأمون العباسي أن قال: الإرجاء دين الملوك، بمعنى أن المرجِئة - وهم فرقة دينية منفتحة لا تقول بالتكفير والتفسيق - لا يتحزبون لفريق على فريق داخل المجتمع الإسلامي، وهذا ينبغي أن يكون شأن كل نظام سياسي، حتى لو لم يكن هناك فصل بين الدين والدولة، كما في النظام الإسلامي التاريخي. الإسلاميون على اختلاف فئاتهم لا يزالون يقولون بمدنية الحاكم المسلم وانسانيته، لكن لم يعد لهذا القول معنى كبير، ما داموا يقولون في الوقت نفسه بعصمة النظام السياسي عملياً، عندما يطبّق الشريعة. وهكذا يكون على النظام السياسي أن يتخلّى دستورياً وعملياً عن استتباع الدين أو معاداته، وأن يسود بينهما الحياد الايجابي والودّي، بما في ذلك جانب الرعاية من جانب الدولة للمؤسسة الدينية. فالدين قوة اجتماعية هائلة، وما دامت الأكثرية الشعبية متحمسة للإسلام، فلا غضاضة على النظام في الودية تجاه المؤسسة، ولن يجور ذلك على الدولة أو مدنيتها. لكن، كما سبق القول، فإن ذلك مشروط بأن لا يظل الحزب السياسي المشروع يقول بدغم الدولة في الدين، أو قيادة زعماء التنظيم للدولة بحجة تطبيق الشريعة. يبدو الفقه الجديد حتى الآن في موقف العداء إما للأصولية أو للنظام السياسي، وكلا الأمرين غير ضروري، بل غير جائز. فالمطلوب من طريق الإصلاح السياسي، أن يكون للفئات والأحزاب جميعاً مواقعها السياسية التمثيلية حتى لو كانت تعمل تحت اسم الدين. ثم ان الاصلاح السياسي ينتظر أن يتيح الفرصة للاصلاح الديني، حيث تزول أو تتضاءل الجوانب النافرة في إسلام الصحوة وإسلام التشدد الحزبي أو الفِرَقي. والذي يبدو لي أن عنف الجماعات الإسلامية المتطرفة في السنوات الماضية، أوضح بما لا يدع مجالاً للشك ان "اسلام الأزمة" هذا، ليس مؤهلاً لأن يكون البديل للإسلام التقليدي أو الإصلاحي، كما انه ليس مؤهلاً للمصالحة بين الناس، أو بين الناس والسلطات - وليس مؤهلاً أخيراً لقيادة الجمهور والنظام في محاولة جديدة للنهوض والعيش في العالم.