انعقدت بالعاصمة المغربية الرباط ورشة علمية بعنوان «الاجتهاد بتحقيق المناط: فقه الواقع والتوقع» نظمها المركز العالمي للتجديد والترشيد بلندن والمركز العالمي للوسطية بدولة الكويت ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية، وشارك فيها أكثر من (50) عالمًا وباحثًا ومهتمًا بالشأن العام من المشرق والمغرب. ولفت المشاركون إلى أهمية موضوع «تحقيق المناط» نظرًا للأزمة الحضارية والفكرية التي تعيشها الأمة وتفقدها الانسجام الضروري بين الضمير الديني والأخلاقي وبين الواقع الإنساني المعاصر فتعجز بذلك عن المواءمة بين كلي الزمان وكلي الشرائع والإيمان. كما ذكر المشاركون في الورشة أن الاجتهاد بتحقيق المناط يوفر مراجعة لحال الأمة والخروج بها من أزمتها باعتباره اجتهادًا يراجع الجزئيات على ضوء الكليات منسجمًا مع أنواع الاجتهادات الأخرى ومستوعبًا غير المجتهدين من كفاءات الأمة وأهل الخبرة فيها. كما أشارت الورقة الختامية للورشة إلى بروز اتجاهات في التنظير والحركة تنزع النصوص الشرعية من سياقاتها، وتنزلها على غير مناطاتها في قضايا تمس استقرار المجتمعات الإسلامية وتماسكها. كما اعتبرت الورشة أن التنظير للموضوع والتدقيق فيه نوع من تجديد الفقه والدين الذي هو سنة ماضية وضرورة شرعية، ومشروع حضاري تجديدي للأمة يدلل على ديمومة الشريعة وإمكانية تطبيقها في كل زمان ومكان. نوع من تحقيق المناط ولتحديد المفهوم العلمي لتحقيق المناط ذكرت الورشة أن «تحقيق المناط» نوعان: تطبيق للقاعدة العامة في آحاد صورها، أو إثبات علة متفق عليها في الأصل لإلحاق الفرع بها. كما أشارت ورشة العمل إلى أن تحقيق المناط عمل اجتهادي مارسه الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون من بعده وسلف الأمة وإن لم يرتبط في هذه المراحل بمصطلح مستقر. كما ذكرت ورشة العمل أن الواقع هو التقاء بين الزمان وبين المكان والحدث في لحظة محددة، أما المتوقع فيعني استناد الأحكام إلى المستقبل، والمجال الذي يغطيه فقه التوقع هو مجال تغطيه الذرائع والمآلات وتغطيه أيضا المترقبات، وتبنى عليه قاعدة الانعطاف وقاعدة الانكشاف. توسيع دائرة الاجتهاد ويتضمن الاجتهاد بتحقيق المناط توسيع دوائر الاجتهاد؛ ليرشح الكليات، ويرجحها على النظر الجزئي، وهي كليات ذات جذور ثلاثة: الشريعة نصوص ومقاصد، ومصالح العباد، وموازين الزمان والمكان، وبذلك تصاغ تلك الكليات وتطوع الجزئيات. كما أشارت الورشة إلى أن المؤهل لتحقيق المناط هو العالم الرباني العاقل الحكيم الذي ينظر في كل حالة، ويعرف هذا الواقع حتى يعرف المتوقع لأن المتوقع هو في حقيقته مآل للواقع في أحد توجهاته. ويذكر المشاركون في الورشة أن تحقيق المناط مستويات ومراتب بحسب الخطاب الشرعي؛ فمنه الموجه إلى الفرد في خاصة نفسه، والموجه إلى الجماعة، حتى يصل إلى السلطان. كما أنه يدخل في «تحقيق المناط» عدم تطبيق بعض الأحكام الشرعية حيث يمكن أن يقابل بوجود ضرورات معينة حقيقية لا متوهمة تدخل في صلاحيات الإمام المسلم القائم على الشرع انطلاقًا من الهدي النبوي - وهو القدوة والأسوة- في مداراة المنافقين مع القطع بنفاقهم. لكنهم أكدوا أن القيم والفضائل والكليات لا تحتاج إلى «تحقيق مناط» لأن بها تقوّم الأشياء والأعمال والتصرفات ومنها تنشأ النظم والأحكام الجزئية، أما الأحكام الجزائية كإيقاع العقوبة الشرعية فلها شروطها وموانعها وضوابطها لأنها ليست من صلاحية الأفراد. مجالات الاجتهاد وفي جانب المجالات التي يشملها هذا الاجتهاد وتحظى فيه بالأولوية عدد العلماء والباحثين في الورشة بعض أهم المجالات التي تدخل فيها الأحكام السلطانية والسياسة الشرعية؛ وبخاصة ما تطرحه قضية الدولة الإسلامية من تحديات للمسلمين داخليًا وخارجيًا. كذلك المجال الاجتماعي وبخاصة ما يتعلق بالأسرة، وقضايا المساواة بين الرجل والمرأة بوجه خاص. والمجال الاقتصادي وعلى رأس موضوعاته الأزمة الاقتصادية العالمية، والربا، وبيع الديون والغرر. ومن القضايا المهمة التي يدخل فيها فقه «تحقيق المناط» مجال الأقليات المسلمة في دول غير إسلامية لإيجاد فضاء من السعة ومناخ من التيسير؛ فقضايا الأقليات بحاجة إلى تحقيق مناط بناء على المكان والزمان وتغيرات الأحوال. وسائل الاجتهاد وعن وسائل الاجتهاد بتحقيق المناط وأدواته قرر المؤتمرون أن وسائل تحقيق المناط أو «مسالك التحقيق» -كما عبروا عنها- هي في حقيقتها شارحة للواقع، وهي خمسة: لغوية، وعرفية، وحسية، وعقلية، وطبيعية. وأكدوا أن المسالك العقلية لتحقيق المناط عسيرة دقيقة في الفهم لا يدركها كل متعاط ولو كان فقيهًا في الأحكام الشرعية؛ لأنها ميزان قياس درجات المصالح والمفاسد المؤثرة، وقياس الحاجات المنزلة منزلة الضرورات لإباحة المحظورات. وبناء على ذلك فإن «تحقيق المناط» في معظم القضايا -سواء كان في الأحكام السلطانية أو في القضايا الاجتماعية أو المشكلات الاقتصادية أو الطبية- جدير بأن يكون ناشئًا عن جهد جماعي ومنبثقًا عن اجتهاد مجامع كبرى. المبارك: علينا توجيه الأبحاث الجامعية لبحث قضايا الناس الواقعة وفي تصريح للرسالة ذكر د. قيس المبارك -عضو هيئة كبار العلماء وأحد المشاركين في ورشة «الاجتهاد بتحقيق المناط، فقه الواقع والتوقع»- أن التجديد الذي تسعى لتحقيقه مثل هذه الورش هو إحياء لعلوم الدين، ببيان حقائقه، وإزالة ما علِقَ به مما هو ليس منه، وإصلاح ما أفسده الناس، وهذا هو واجب العلماء. وعن نتائج مثل تلك الورش والمؤتمرات قال المبارك: ان «المطلوب هو بذل الأسباب في أعلى صورها، فإذا بذل الأسباب فقد ضمن الله له النتائج». وأضاف المبارك أن الأمة بحاجة إلى فقهاء يعرفون الكتاب والسنة، ويعلمون الأصول التي استخرجها العلماء منهما، ويدركون مقاصد الشارع الحكيم. وعن دور الجامعات والكليات الشرعية -التي هي المحضن العلمي لتخريج فقهاء- ومساهمتها في نشر مثل هذه الأطروحات التجديدة دعا المبارك إلى توجيه الأبحاث الجامعية لبحث قضايا الناس الواقعة، وتشجيع الأبحاث التطبيقية في قضايا المال والقضايا الطبية وغيرها، لأن الفقهاء قديمًا كانوا يدرسون الواقع، ويجيبون على كل نازلة تجد، حتى كثرت لديهم فتاوى النوازل. ابن بيه: المراجعة ليست تراجعاً والتسهيل ليس تساهلاً قدم العلامة عبدالله بن بيه -رئيس المركز العالمي للتجديد والترشيد- ورقة عمل تأطيرية للمناقشات التي جرت في الورشة وقد عبر ابن بيه عن وضع الأمة في الوقت الحالي الذي وصفه بالأزمة الحضارية والفكرية جعلتها تعيش في خصومة مع التاريخ ومع العصر على حساب التنمية الروحية والنفسية والإنسانية والاقتصادية الأمر الذي أفقدها الانسجام الضروري بين الضمير الديني والأخلاقي والواقع الإنساني المعاصر فلم تستطع المواءمة بين كلي الزمان وكلي الشرائع والإيمان. وفي شرحه لمصطح «كلي الزمان» ذكر ابن بيه أنه يتمثل في الحريات بأنواعها وأصنافها -حرية اللسان وحرية الأركان والمساواة بين الإناث والذكران ومتطلبات حقوق الإنسان. أما «كلي الشرائع والإيمان» فإنه يلتزم بالمحافظة على الأديان والأبدان والمال والنسل والعقل؛ بتفاريع وترتيبات متعددة. وأكد ابن بيه أن هذه الأمة بحاجة ماسة لمراجعة مضامين شريعتها في كليها وجزئيها؛ لتعيش زمانها في يسر من أمرها وسلاسة في سيرها، مزاوجة في ذلك بين مراعاة المصالح الحقة ونصوص الوحي الأزلية. وألمح إلى أنَّ المراجعة ليست مرادفة للتراجع، وأن التسهيل ليس مرادفًا للتساهل، وأن التنزيل ليس مرادفًا للتنازل. وفي إجابته عن سؤال لماذا تحقيق المناط في القضايا الفقهية في هذه المبادرة الترشيدية قال العلامة ابن بيه «إن القضايا الفقهية -التي تمثل للمسلمين المنظومة التعبدية والقانونية التي تحكم النسق السلوكي والمعياري في حياة الفرد والجماعة- يجب أنْ تواكب مسيرة الحياة التي تشهد تغيرات هائلة وتطورات مذهلة من الذرة إلى المجرة، في شتى المجالات ومختلف المظاهر والتجليات، من أخمص قدم الأمة إلى مفرق رأسها في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمالية، والعلاقات الدولية للتمازج بين الأمم، والتزاوج بين الثقافات إلى حد التأثير في محيط العبادات والتطاول إلى فضاء المعتقدات». وأوضح في ورقته المقدمة إلى ورشة العمل أن الأنظمة الدولية والمواثيق العالمية ونظم المبادلات والمعاملات أصبحت جزءًا من النظم المحلية، وتسربت إلى الدساتير التي تعتبر الوثائق المؤسسة فيما أطلق عليه اسم العولمة والعالمية، في الوقت الذي تراجع فيه الاجتهاد وتواضع فيه الاستنباط وضاقت فيه مساحة الإبداع وساد ضمور في الفهم مما أخل بالتوازن وانعكس على تماسك المجتمعات. وفي توصيفه لآثار تلك الحالة ذكر ابن بيه أنها تركت المجتمعات الإسلامية بين فريقين: أيس أحدهما من المنظومة الفقهية فأشاح بوجهه عنها وخطف بصره بالتنوير والتحديث الغربي، تقابلها مجموعة أخرى لم تفهم من النصوص إلا بعض الظواهر وهي تحاول أن تعيش في الماضي على حساب الحاضر والمستقبل، فقل علمها وضاق فهمها وخمدت لديها ملكة الاجتهاد. وقدم رؤيته الخاصة في محاولة الجمع بين إرشاد الوحي وسداد العقل، محاولًا تأصيل منطلقاته، وتعدد تناولاته، مؤكدًا أنه يستوعب أصول التعاطي مع الكتاب والسنة في منطوقهما ومفهومهما في معانيهما ومعقولهما. وإذا كانت النتائج كما يراها ابن بيه تشير إلى عجز في التواصل بين الواقع وبين الأحكام، وفي حالات إلى عدم الانضباط في الاستنتاج والاستنباط فإن ذلك سيكون مدعاة لمراجعة أدوات توليد الأحكام والاجتهاد المعطلة، وتجديد دراستها ونفض الغبار عما انطمس من معالمها. وفي نهاية ورقته نبه العلامة ابن بيه أننا اليوم بحاجة إلى قراءة جديدة للتذكير بالكليات التي مثلت لبنات الاستنباط، وبربط العلاقة بين الكليات وبين الجزئيات، وهي جزئيات تنتظر الإلحاق بكلي أو استنتاج كلي جديد من تعاملات الزمان وإكراهات المكان والأوان، أو توضيح علاقة كلي كان غائمًا أو غائبًا في ركام العصور وغابر الدهور. التوصيات والمقترحات 1. إيلاء الأولوية في معالجة موضوع تحقيق المناط للمنظور الأصولي الكلي والمدخل المنهجي لصعوبة حصر القضايا الجزئية؛ ولأن ضبط الكلي ييسر ضبط الجزئي. 2. ضرورة الصياغة العلمية لضوابط تحقيق المناط بما يمنع المتطفلين على المجال من التسرع في هذا الشأن ويكون عونًا لأهل العلم على ممارسته تحقيق المناط. 3. دراسة مستويات تحقيق المناط: بدراسة منهجية الاستنباط ومسالكها في تحقيق المناط، ومنهجية التلقين وخصائصها في تحقيق المناط، ومنهجية التطبيق وضوابطها في تحقيق المناط، ونظرية التطابق وصلتها بتحقيق المناط. 4. العناية بدراسة علاقة تحقيق المناط بما يمكن أن يخدمه من مصادر أو مناهج أو أدوات في الاستنباط (بمقاصد الشريعة، والقواعد الفقهية،وتخريج الفروع على الأصول...). 5. الاهتمام بدراسة المزالق المنهجية في تحقيق المناط التي تنتج تطبيقات فقهية يطبعها الغلو والتنطع والتطرف. 6. إنجاز دراسات عن فقه تحقيق المناط في تطوره عبر تاريخ الأمة يبرز قيمته في تجديد فقه الأمة واستيعابه لحاجاتها المتجددة. 7. المزيد من الاهتمام بفقه النوازل وبخاصة في الغرب الإسلامي لما يختزنه هذا الفقه من قواعد منهجية وخبرة تطبيقية تكونا عونا للمجتهدين والدارسين في تحقيق المناط في عصرنا هذا. 8. إشراك أهل الخبرة بالواقع في مختلف مستوياته في هذه المدارسات المتعلقة بتحقيق المناط. 9. تخصيص ورشة مستقلة لأهل الخبرة بالواقع تكون نتائجها وخلاصاتها بمثابة أرضية تنطلق منها المشروعات والدراسات المتعلقة بتحقيق المناط في مجالات الحياة المختلفة. 10. الحاجة إلى دراسات وصفية مركزة للواقع العام للبلدان الإسلامية. 11. مراجعة مناهج مؤسسات تكوين العلماء ودارسي الفقه الإسلامي بما يؤهلها للإسهام في إيجاد المؤهلين لتحقيق المناطات بمختلف مستوياتها ومجالاتها.