كان الله في عون الحكومة العراقية وشعب العراق في هذه المرحلة الدقيقة والخطيرة من تاريخه بعد الأهوال التي شهدها والحروب والأزمات التي عصفت بكيانه وكادت تفتك به وتفتته أشتاتاً أشتات. فمسؤولية حكم هذا البلد الصعب والعريق تعتبر مهمة شبه مستحيلة خصوصاً أن الأعباء والتبعات لا حدود لها وأن تركة الماضي ثقيلة جداً زاد من تشعباتها وتعقيداتها الاحتلال الأجنبي والوجود العسكري لأكثر من 160 ألف جندي معظمهم من الأميركيين الذي يخطط للبقاء لفترة طويلة. فبعد اجراءات انتقال السلطة من قوات الاحتلال إلى الحكومة العراقية الموقتة تبقى السيادة منقوصة ما دام في العراق جندي أجنبي واحد، ويبقى الأمن مهدداً ما دامت هناك فئات تعتمد المقاومة للتعبير عن مواقفها وأخرى تلجأ للإرهاب لوضع العصي في دواليب الحكومة وزرع طريقها بالألغام لمنعها من اتمام مهماتها المعلنة وعلى رأسها نقل العراق من حافة الخطر والانهيار إلى شاطئ الأمان والسلام والحرية. وأمام الحكومة الموقتة برئاسة الدكتور اياد علاوي، المهددة حياته بالخطر الدائم، قرارات صعبة ومواقف مطلوب منها الحسم والحزم من جهة، والحكمة والمرونة من جهة ثانية، حتى لا تكون قاسية فتكسر ولا لينة فتعصر خصوصاً أن العراق مبتلي بالعنف عبر التاريخ ومنكوب بحكام يسيطرون على شعبه بالحديد والنار بزعم أنه لا يحكم إلا بهذا الاسلوب ولا يساس إلا بالقوة، مع أننا نعرف ونقرأ صفحات من تاريخه أثبت فيها استحقاقه للديموقراطية والحرية وكفاءته في كل مجالات الحياة العلمية والعملية والسياسية والديبلوماسية. ملفات كثيرة ستفتح من الآن وحتى اشعار آخر من الأمن إلى لقمة العيش، ومن تأهيل البنى التحتية إلى إعادة بناء قوى الجيش والأمن العام ومؤسسات الدولة، إلى الإرهاب والمقاومة ومساعي الفصل بينهما للقضاء على الأول وتأهيل الثانية للالتحاق بركب الدولة والعمل السياسي السلمي والديموقراطي. ومن الملفات الأخرى الساخنة التي ستبقى طافية على السطح ومثيرة للشكوك: قضايا المحاصصة والفيديرالية ووضع الأكراد ومطالبهم ورفضهم لأي صيغة لا تضمن المحافظة على الحكم الذاتي وحق الفيتو الذي فرض في النظام الأساسي الموقت مقابل حساسيات السنّة ومخاوفهم وقلق الأقليات التركمانية والمسيحية وإصرار الشيعة على الحصول على حصة الأسد في التركيبة المستقبلية بالاستناد إلى ما يتردد عن غالبية وأقلية في نسب السكان. كل هذه الملفات تشكل صواعق تفجير في المستقبل ولها أهميتها وخصوصياتها ووسائل معالجتها، إلا أن الملف الأكثر سخونة وإثارة أمام الحكومة والشعب والعالم كله... والعرب بشكل خاص، يبقى ملف محاكمة أركان النظام السابق ورئيسهم الذي علمهم العنف والظلم صدام حسين بتهم كثيرة أصمت مسامعه، بينها ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وقتل الآلاف من العراقيين في شمال العراق وجنوبه وشن حروب على دولتي الكويت وإيران والتسبب في تدمير البلاد ونهب ثرواتها وإلحاق الأذى بشعبها وإقامة المقابر الجماعية وقتل وسجن وتشريد الملايين. ولا شك أن قمة الإثارة ستتمثل في رد صدام حسين على هذه الاتهامات ودفاعه عن نفسه بعد"البروفة"الأولية التي ظهر بها أمام عدسات الكاميرا للمرة الأولى بعد أسره والاسلوب الذي سيتعامل به مع محكمة جرائم الحرب ضد الإنسانية التي يتولاها قضاة عراقيون. والأكيد أن صدام حسين سيتمسك بما أعلنه أمام قاضي التحقيق حول عدم شرعية المحكمة وبزعمه بأنه الرئيس الشرعي للعراق، ولهذا فإن من الضرورة بعد اكمال الاجراءات الأولية للمحاكمة عدم الشروع بالجلسات الرسمية قبل تكريس شرعية الحكم وانبثاق حكومة شرعية منتخبة في الانتخابات العامة المقرر أن تجري في نهاية العام الجاري حتى لا يقال إن الحكومة الحالية معينة من قبل قوات الاحتلال عملياً وبناء على قرار مجلس الأمن حسب الحجة الشرعية للمجتمع الدولي، علماً أن الأصول تقضي بأن تصدر المحكمة أحكامها باسم الشعب. والأكيد أيضاً أن هذه المحاكمة ستعتبر حدثاً تاريخياً غير مسبوق في العراق والمنطقة وتشكل سابقة لأحداث أخرى تعيد رسم سياسة المنطقة وتخطو الخطوة الأولى في مسيرة الإصلاح الحقيقي وسيادة القانون وتكريس مبدأ المحاسبة والمساءلة من القاعدة إلى القمة لا فرق بين رئيس ومرؤوس ولا قوي وضعيف. فقد جرت العادة إما أن يفلت المسؤول من المحاسبة والعقاب أو أن يُقضى عليه من قبل رفاق الأمس ويقتل ثم يسحل بعد محاكمات صورية هي أقرب للمهازل ومحاكم التفتيش لافتقارها للحد الأدنى من الشفافية والعدالة والاجراءات القانونية المعتادة وحق الدفاع عن النفس من قبل المتهم وحق الشعب في الاطلاع على الحيثيات والمداولات وخط سير المحاكمة. فلم يسبق أن حوكم رئيس أو مسؤول بشكل عادل في المنطقة والعراق بالذات: فالملك فيصل الثاني وأفراد عائلته الهاشمية ذبحوا كالنعاج في مجزرة قصر الرحاب ورئيس وزرائه نوري السعيد نكل به وسحل في الشوارع، وعبدالكريم قاسم، الزعيم الأوحد، حوكم صورياً من قبل رفاقه السابقين واعدم ثم سحل في الشوارع. وعبدالسلام عارف قتل في حادث طائرة غامض، وأحمد حسن البكر توفي وسط علامات استفهام وأصابع اتهام سيكشف الغازها التاريخ... ولم ينج من المصير الأسود سوى الرئيس عبدالرحمن عارف الذي لم يَظلم ولم يُظلم وأخرج من الحكم ليعيش في منفاه في اسطنبول. إذن، فإن الرئيس السابق سيكون الرئيس الأول الذي يحاسب على جرائمه واخطائه وخطاياه وتتاح له محاكمة عادلة اذا صدق المسؤولون، او لم تحدث مفاجآت تنهي مسببات انعقادها! وبانتظار هذا الحدث التاريخي المثير يفرض علينا المنطق ان نستبق صكوك الاتهام ومطالعة المدعي العام ووثائق المدعين وكلها صحيحة ومعروفة ولا نشكك بصدقيتها، لنتساءل ببراءة: هل صدام حسين هو المذنب الوحيد لتلقى كل تبعات الاخطاء والخطايا والجرائم على كتفيه؟ والجواب المنطقي والعادل لمن يتابع ويطلع ويتمتع بالموضوعية يحكم بأن المسؤولية الكبرى تقع حتماً على الحاكم الفرد الذي يتحكم برقاب الناس وارزاقهم ويحكم بقوة الحديد والنار والظلم وانعدام الضمير لكن المشاركين معه في تحمل المسؤولية كثر لا بد من محاسبتهم ومحاكمتهم مع صدام حسين وبينهم نظامه واركانه المساهمون والخانعون والأنظمة المماثلة والمرحلة السوداء، التي عاشها العرب وعانوا منها، والجماهير التي رضخت ونافقت، والدول الكبرى وعلى رأسها الولاياتالمتحدة التي وضعت مصالحها فوق القيم والاخلاق والمبادئ والشرعية الدولية وتغاضت عن انتهاكات حقوق الانسان عندما كانت مصالحها مؤمنة وذرفت عليها دموع التماسيح عندما شعرت بأنها مهددة او سولت لها نفسها بأنها قادرة على الاستيلاء عليها وتأمينها من دون وسيط ولا عميل!! اذن هي محاكمة الفرد الاوحد والحاكم المطلق الذي يمارس شتى انواع الديكتاتورية والنرجسية والغرور ويدير البلاد بعقلية المزرعة ويستعبد العباد فيقتل منهم من لا يعجبه او يقف في طريقه ويشكل تهديداً له ويختار من يشاء من المنافقين والانتهازيين والمرتشين والمفسدين في الارض والقتلة والساديين فيصبحوا من اصحاب الحظوة والنفوذ طالما كان الديكتاتور راضياً عنهم يدوسهم بقدميه أو يستخدمهم كقباقيب كما كان يردد الراحل الكبير مصطفى امين ويترك لهم مهمات القيام بالأعمال القذرة وتعذيب الناس والتنكيل بكل من يتنفس، وقطع الارزاق والرقاب والآذان والألسن والمشاركة في نهب الثروات، ليحصلوا على الفتات ويتركوا معظمها للكبير الذي علّمهم سحر الظلم. انها محاكمة لكل حاكم فرد ظالم يعلن الحرب متى يشاء وحسب مزاجه الشخصي فيهدد حياة مئات الألوف من جنوده وابناء شعبه ويجنح للسلم عندما يجد ان السكين ستصل الى رقبته ويصرف البلايين من اموال الشعب بجرّة قلم ويحوّلها الى حساباته الخاصة ويمارس كل انواع الموبقات وهو يرفع شعارات الشرف والفضيلة والاخلاق والشفافية والنزاهة ويتهم كل من يخالفه الرأي بالخيانة والعمالة ويحكم عليه بالموت او يرميه في غياهب السجون. وهي محاكمة النظام بكامله القائم على الغش والخداع والتفرد بالحكم وقمع الحريات وتكميم الافواه وتعميم آفة الفساد وكل الآفات الاخرى التي ابتلت بها الامة، والتطبيل والتزمير للحاكم الفرد الى حد تأليهه بدلاً من توجيه النصح اليه والعمل على تصحيح الاخطاء والتحذير من مخاطر القرارات الهوجاء المدمرة. وقد كان نظام صدام حسين، والانظمة المماثلة له، مثالاً حياً على اللاشرعية والغدر والتسبب بتدمير البلاد وتشريد العباد وافقار الامة وتفريقها وتمزيق صفوفها واثارة الفتن والنعرات وتعميم الظلم ووقف مسيرة التقدم والتطوير وتقديم الاعذار والمبررات للقوى الاجنبية للتدخل في الشؤون الداخلية وايصال قواتها الى قلب عاصمة الرشيد. وهي ايضاً محاكمة لمرحلة تاريخية في حياة العراق والامة العربية ككل حيث ساد الظلم وانقلبت الموازين وتحول الشواذ الى قواعد والقاعدة الى حالة شاذة واختلط الحابل بالنابل وصار الاسود ابيض والابيض اسود. ومع تفاقم الاخطاء والخطايا وحالات التفرّد والديكتاتورية عم التخلف وتكررت الهزائم وضاعت فلسطين ومن بعدها العراق واحتُلت أراض عربية غالية، ونهبت الثروات وتخلف الركب عن حقائق العصر وتطوراته وثوراته التكنولوجية والعلمية وأفرغت البلاد من الادمغة والايدي العاملة الماهرة والعلماء والمتعلمين ليصل عدد المهاجرين والمهجرين والمشردين الى ملايين عدة. انها مرحلة سوداء لا بد من دراستها ومحاكمتها ومحاسبة المسؤولين عنها وعن الاحوال التي اوصلوا الامة اليها لتصبح يد اسرائيل هي العليا في المنطقة والقوات الاجنبية تستبيح العراق وغير العراق. وهي محاكمة الجماهير التي بح صوتها وهي تهتف لجلاديها وتحيي مكرماتهم حتى لو كانت بتفاهة انزال الجبنة الى الاسواق او توزيع الدجاج الفراخ بعد انقطاع دام سنوات. هذه الجماهير التي كانت تهتف بلا وعي وبشكل هستيري:"بالدم بالروح نفيدك يا..."سرعان ما تهتف لديكتاتور آخر وصل الى السلطة في ليلة مظلمة مشؤومة، وكأنها تتشبه بالقط الذي لحس المبرد متلذذاً بدمه المسفوح.. وهي في معظم الاحيان ساكنة خائفة تبحث عن لقمة العيش والبعد عن المشاكل و"السترة"تساق الى الحروب خانعة مستسلمة مضللة بعلمها او بجهلها مصدقة المنافقين الذين يكيلون المديح للديكتاتور ويلقون عليه اثواب صفات ما انزل الله بها من سلطان يصل الى حد التأليه والتدكيس وتدنيس الحرمات على شاكلة الشاعر الذي قال لا فض فوه: لولاك يا صدام ما هطل المطر... لولاك ما طلع القمر.. لولاك ما اثمر الشجر... لولاك يا صدام ما خلق البشر! واستغفر الله على نقل هذا الكفر وترداد هذا النوع من الاثم، واخص بالذكر طليعة الجماهير من النخبة والمثقفين وغيرهم. أخيراً فإن محاكمة صدام هي، ويجب ان تكون، محاكمة للدول الكبرى التي تتصارع في ما بينها على المصالح وتتقاسم الصفقات وتوزع الحصص بغض النظر عن ماهية النظام الذي يؤمنها لها وظلمه وانتهاكاته لحقوق الانسان وفساده... وكم تابعنا خلال أكثر من نصف قرن اخبار الصراعات والصفقات وفصول لعبة الامم والانقلابات. ونحن نتحسر ونستغرب كيف يكون النظام عظيماً وصديقاً عندما يؤمن المصالح وكيف ينقلب الى عدو خطير يهدد الامن العالمي عندما تتغير الاحوال. ويعرف القاصي والداني حقيقة العلاقة المتينة بين النظام العراقي السابق والغرب والولاياتالمتحدة بالذات كما صار معروفاً ما قدم له من دعم خلال حربه مع ايران وتنكيله بشعبه وما اوحي له من ايحاءات لاغرائه بغزو الكويت... ومحاضر لقاء صدام بالسفيرة الاميركية السابقة ابريل غلاسبي قبل الغزو بأسبوعين موجودة لدينا. وصور وزير الدفاع الحالي دونالد رامسفيلد وهو يصافح صدام منتشياً ومنشرحاً منشورة في كل مكان. نعم كل هذه المحاكمات يجب ان تجري مع محاكمة صدام حسين حين تنجلي الصورة تماماً ويستوعب العراقيون والعرب بشكل عام الدروس ويأخذون منها العبر لعلهم يفتحون صفحة جديدة بيضاء لا ظلم فيها ولا ديكتاتورية ولا نفاق وفساد... بل حرية وعدالة وشفافية ونزاهة ومشاركة وصراحة ومحاسبة!! فهل نشهد مثل هذا التحول ام اننا نحلم؟ وهل ستجري محاكمة صدام حسين اولاً قبل ان تكرّ السبحة؟ ام انه لن يصل الى هذا اليوم لسبب ما؟ الايام المقبلة ستجيب على هذه الاسئلة! * كاتب عربي.