لن نعود الى تكرار تماهي اسم الشاعر أدونيس مع أدونيس الأسطورة الفينيقية. ولكننا ننطلق من هذه الأخيرة لنحاول تلمُّس ما يعانيه في جحيم غيبته الشتائية الطويلة، وتمثُّل ما يحمله إلينا في إزهار عودته الربيعية التي يتحول فيها، بأعجوبة كبرى، دمه المراق الى ذرات عطر ونسغ حياة. ما سرُّ ذلك التحول؟ استعادة اتحاده بعشتروت، نصف نفسه التائهة في غيابه والمضطرم عذاباً من فقدها الاضطراري. نصفه الأنثوي، المرأة - الأرض - الطبيعة، واللغة على وجه الخصوص. قد يتراءى لنا أن المرأة لا تحضر إلا في الفصل ما قبل الأخير من الجزء الثاني - إذ ان الكتاب، المقتضب بكامله 80 صفحة، يقسم الى قسمين غير متساوقين: "الشاعر الملتزم" و"حميميات الرجل" - ولكننا سنجد أنها تحتل الحيز الأكبر فيهما، إذ ان الشاعر يستحضرها، أو يراها حاضرة في كل مناسبة، مهما كان الموضوع. إن للشاعر أدونيس فلسفة متكاملة تلعب فيها المرأة دوراً محورياً يستمد بعض ملامحه من عشتروت الأسطورة التي لا يكتمل وجود أدونيسها إلا بالتوحد بها... فإذا بالأرض ربيع والعالم خصب والكون بهاء. واكتمال الوجود يعني اكتساب معنى جديد ودور جديد وهوية جديدة: "نحن دائماً في صدد البحث عن شريكنا، عن حبيبتنا أو حبيبنا، أي عن هويتنا". هذا عن الوضع العام. أما المرأة فلها دائماً تخصيص: "جسد المرأة وحدة متجددة كل يوم. تلك هي الهوية الأساسية... في الحب تتحقق وحدة الجسد من جسدين، مثل الأنا والعالم. ومن دون العالم لا وجود للأنا". كلما توثقت أواصر التوحد اكتُشفت أبعاد جديدة في الكون والذات فتفتَّقت هذه الأخيرة عن معالم ومعابر مختلفة يتم عبرها تلمُّس توضُّح ملامح جديدة فيها وفي علاقاتها بالآخر وبالعالم. وهذا ما قد نسميه مخاض الولادة الرابعة، أو إرهاصات هوية جديدة. يذكرنا الشاعر في هذا الكتاب الصغير بولاداته الثلاث السابقة. نستعيد معه طفولته في واحدة من قرى اللاذقية فنجد ذكرياتها تقتصر على الأم، التي ما زالت على قيد الحياة والتي "كانت بالنسبة إلي جزءاً من الطبيعة، كانت طبيعة حية ولذلك علمتني الكثير"، وعلى الأب الشاعر الذي "فتح أمامي درب الشعر" ودرب التفكير الحر والمسؤول، وعلى الطبيعة في شكل خاص: تلك الطبيعة التي مارس فيها ومعها حرية مطلقة، جسدية و"جنسية"، أطال من أمدها دخوله المتأخر جداً الى المدرسة. الولادتان التاليتان، البيروتية والباريسية، لا تردان في الكتاب في شكل مباشر. تسترجع البيروتية متماهية مع إطلاق تكريس اسم الشاعر، وأثر تلك التسمية في كل المسيرة: "حررني اسم أدونيس من اسمي، علي، ومن انتماء اجتماعي منغلق على انغلاق الدين. انفتحت بهويتي الجديدة، النهائية وغير النسبية، على البعد الإنساني. لقد اخترت هوية مطلقة. ومنذ ذلك الاختيار لم يعد لي من هوية جاهزة ومقررة سلفاً". تتميز الهوية الجديدة إذاً بالحرية والانفتاح والاختيار. وكأن أدونيس يريد أن يقول ان من يفتقد هذه الأقانيم الثلاثة فاقد للهوية الحقيقية أو، على الأقل، سجين هوية منغلقة تقفل الأبواب ما بين حاملها والعالم. "كأن"؟ لا بل إنه لا يفتأ يكرر ذلك في الكتاب وبمختلف الأشكال والصيغ، وعلى كل الصعد. يبدأ من التجربة الذاتية: "ابتدأت بخلق هويتي عندما ابتدأت بخلق عملي... علمتني تلك التجربة أن الهوية تخلق ويعاد خلقها على الدوام... الهوية حركة لا يمكن أن تحدد". ثم يوسع الدائرة بتوسع مدى الانتماء البدئي: "أود لو أن الثقافة العربية تنفتح على هذا النوع من الهوية الحرة". ثم يبلغ مدى التعميم الرحب: "الهوية الثقافية، مثل الحب، هي حوار، ارتباط بين الذات والآخر. فالآخر ليس حاجة حوارية فقط: إنه عنصر مشكّل للذات". يتناقض مفهوم أدونيس للهوية بصورة جذرية مع المفهوم السائد الذي يرى فيها وسماً نهائياً لشخصية الإنسان وتعريفاً بانتمائه وتحديداً لوضعه ودوره ولميزاته الثقافية والاجتماعية خصوصاً. بينما يرى شاعرنا أنها تُخلق مثلما تُكتسب،. بل أكثر، وأنها بالتالي عملية ديناميكية متواصلة، دائمة التطور والتنوع والصيرورة. لا يعني ذلك بالطبع تخلياً أو تنكراً أو تغييراً للجلد، بل تنويعاً وتوسيعاً وتعميقاً للعلاقة بالآخر وبالعالم: "الهوية ذاتها هي عملية خلق. فكتابة العالم أو الوجود هي خلق علاقات جديدة مع الكلمات والأشياء... إن كتابتي لا تعبر عني. إنها تكملني، تجعل مني كائناً أكثر اكتمالاً... إن كتابتي امتداد لوجودي، إنها شخصي الآخر، وهي الاتجاه الموصل للامرئي". هل تستحوذ اللغة على مكانة المرأة، أو تهدد بجعل الأرض يباباً؟ لا، بل هي مجرة العناصر المكونة للهوية تتعاضد وتتكامل بما يشبه التماهي في ما بينها. تصبح عشتروت جسداً - لغة، واللغة سرير التوحد بعشتروت - "إنني كشاعر أحس بأن كل كلمة هي امرأة"، وعشتروت هي الألق وهي النور وهي الأرض وما تخفي وتنتج. نحاول الكتابة عن "هوية لا مكتملة" - وأود أن أشير الى أنني اعتمدت الكلمة كترجمة لinachevژe لكي أوضح أنها هوية لا تنشد الاكتمال بل تسعى لأن تكون دائمة التحول والتطور والتناسخ - فنجد أنفسنا في مدى الأسطورة وفي قلب الفلسفة وصميم الروحانيات. ولكن الكتاب يشدنا الى هناك... والى قضايا أخرى تلقي بثقلها على عالم اليوم وإنسان العصر الحديث... بل الانسان في كل زمان ومكان. القضية الأولى هي الدين. والدين، أو بالأحرى المؤسسة الدينية، أثار ولم يزل - بحسب الشاعر المفكر - اشكالات ونزاعات وحروباً، ما أشاع العنف وبرره، وأباح واحداً أساسياً من المحرمات "لا تقتل". على رغم هذا التحليل لتاريخ الحروب وخلفياتها التي تنحو في غالبيتها الى اتخاذ طابع ديني، فإن أدونيس يحرص دائماً على أن يكون موقفه موجهاً نحو "المؤسسة الدينية". ومع ذلك نجده يستلهم الروحانيات - الدينية من دون شك - ليبني عليها موقفاً خاصاً. نصل الى القضية الثانية: قضية سلطة الأب البطركية التي يرى أدونيس بحق أنها تتفرع من الأولى، سواء بالاتكاء على المؤسسة الدينية أو تبريرها أو إطلاق يدها أو الخوف منها أو الاختباء وراءها والاحتماء بها. فالأب السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي هو "واحد أحد" لا يحلم واحدنا بأكثر من أن يكون على صورته ومثاله. إن كل رئيس أو زعيم أو قائد هو "واحد أحد" لا يجوز لأي منا - بل حتى لا يجيز لنفسه، متستراً في ذلك وراء ألف مبرر، أو متسربلاً عن وعي أو لا وعي برداء الأبوة وبمعطياتها - أكثر من رشقه بوردة لوم أو بحرير ومخمل عتب رقيق يتناسب مع تفريغ أو تجويف مصطلحات "مستوردة" مثل الديموقراطية والحداثة وما إلى ذلك. والرمز الصارخ لصورة هذا الأب هو العراق، "فالعراق هو خطأ الأب المتمثل في المسؤول الذي لا يرى إلا نفسه والذي يدعي حب أولاده لدرجة إفنائهم". ومع ملاحظة ان هذا التماهي الأبوي يدفع بالكثير من الحكام الى التسمي ب"الأب القائد"، فإن تلك الأبوة تنسحب في مجتمعاتنا على الحزب والطائفة والمذهب وشيخ العشيرة أو العائلة... وصولاً الى بعض الرموز الثقافية، الدينية أو الدنيوية، المعتبرة "معصومة". وقد يكون لبنان مثالاً صارخاً على ذلك: "في لبنان يُعَرَّف الانسان بمذهبه وليس بثقافته. وما قيمة الانسان عندما لا يتخذ وزناً في الوجود خارج إطار مذهبه أو قبيلته؟". أما الحداثة في لبنان فهي "حداثة المظاهر. فلبنان، كالبلدان العربية الأخرى، هو دولة دينية". من هنا ندخل الى القضية الثالثة: موضوع الأنا والآخر. إن الأنا الأبوية - أو المتظللة بها أنى كان موقعها - تمتلك الحقيقة والسلطة، وبالتالي تحتكرهما. فهي الصح وكل الآخرين خطأ. إما أن يكونوا على صورتها، أو انهم خوارج وعصاة، وهي مطلقة اليد في تطويعهم. لا حوار حقيقياً هنا إذاً، بل صراع دؤوب على التسلط و"إحقاق الحق" المتمثل في الذات فقط والشاحذ أسلحته لإخضاع الآخرين. يدخلنا هذا الى القضية الرابعة الكبرى التي يطرحها الكتاب: النظرة الى الغرب والى علاقاته بالشرق. وللموضوع هنا شقان كما يتضح من طرحه. إنه يرى أن الغرب الحديث قدم الكثير في ميادين العلم والتكنولوجيا وممارسة الحرية والديموقراطية وتفتح الطاقات الفكرية والابداعية، ولكنه يرى في موازاة ذلك مخاطر جمة قد يكون أهمها سيطرة القيمة المادية على كل شيء، حتى في مجالات الفن والفكر والإبداع التي تحاول سياسة اقتصاد السوق تقييدها واحتواءها في شكل متصاعد. وتتوهم ثورة التكنولوجيا المتفجرة بأنها تستطيع مجاراتها أو حتى تجاوزها في اختراعات مثل الرجل الآلي الذي "لن يصل مهما تطورت نسخه الى أن يحب أو يمارس الحب". والمشكلة الكبرى في الغرب هي إيمانه شبه المطلق ب"ديانة" تكنولوجية أصبحت "مسؤولة الى حد كبير عن ظلامية ثقافية". وهذا ما يجعلنا نشعر جميعاً "بعد الثورة المادية، المرتكزة أساساً الى الاقتصاد، أننا بحاجة ماسة الى ثورة جديدة تكون انسانية ومرتكزة الى كلية الوجود في مظاهره المرئية والخفية". تلك هي الملاحظات الأساسية التي يسجلها على الغرب في شكل عام. أما رأيه بأميركا فإننا نختصره باستشهاد يعيد الى أذهاننا صورة فرانكشتاين التي أصبحت قديمة: "في أميركا هناك أبوة الهيمنة، أبوة القوة، أبوة التسلط. الأبوة الأميركية هي النزوع الى السلطة المطلقة في إدارة العالم". تلك هي الخطوط العريضة لنظرته الى الغرب. أما في العلاقة ما بين شرق وغرب، فله أيضاً آراء جريئة ومتميزة. "فالفارق بين الشرق والغرب ليس في التكنولوجيا ولا في الديموقراطية وهو يقدم هنا اليابان والهند مثلين. إنه يكمن في القوة العسكرية والاقتصادية والسوق". أما العولمة، فقد تكون "محاولة لإيجاد وحدة جديدة بين الشرق والغرب، ولكنها وحدة مغلوطة لكون الأقوى والأغنى هو الذي يمليها". ينتج من ذلك نوع من بديهية مزدوجة المظهر، إذ يصبح "المجتمع العربي البطركي مناسباً للغرب الذي يفترض ان التخلف لدى الآخرين يساهم في نموه" فيلجأ الى دعم أو تشجيع الأصوليات التي يعرف ماذا يريد منها وتريد منه. هذا من جهة، أما من الجهة الأخرى، فإنه يتورع ويستنكف عن الحوار والتعاطي المتوازي مع المتنورين والمتحررين الحقيقيين في الشرق: "إنني أؤكد أن "الغربي" يحب أن يرى أمامه طاغية أو ظلامياً عربياً، ولكنه يتردد أمام ديموقراطي من مستواه، أمام فكر منفتح كفكره، وأمام محاور من طينته". أهي صورة سوداوية عنا وعن العالم؟ أم هو الواقع المرير والحقيقة الصارخة والصافعة لنا جميعاً؟ قد يكون لنا بعض التحفظات والآراء المخالفة لما يقوله "الشاعر - المفكر"، ولكننا نصر على الاستنكاف عن تقديمها هنا عملاً على عرض ما يقوله الكتاب بأمانة من جهة، وإمعاناً، من جهة أخرى، في تصعير الخد والجبين أمام صفعة قد تأتينا من حبيب أو صديق أو خصم أو عدو فتقنعنا أولاً بأننا ما زلنا أحياء في مسلسل جثثنا المتساقطة أشلاء في مدن أو صحارى استحالت جميعاً حقول ألغام، وتدفع بنا ثانياً الى إعادة نظر حقيقية في أواليات الوجود والتفكير والانتاج والابداع. لا يرى أدونيس في الغرب، سلطة ومجتمعاً، نموذجاً مثالياً بديلاً، وأنه يشكو من كوننا "نعيش جميعاً في مجتمع يقتل البعد الإنساني كل لحظة، كل يوم... مجتمع اللاحب واللاإحساس". من هنا "ضرورة قيام ثورة إنسانية جديدة تضع الإبداع البشري كأساس وتنظر الى العالم، الى الكون كبلد واحد وطائفة بشرية واحدة، مع الحرص على كامل احترام خصوصيات الشعوب وهويات الثقافات". يعني ذلك على الصعيد القيمي إعادة إطلاق "القيم المؤسسة للكائن البشري: الإبداع والشعر والحب والصداقة والجمال". ولكن، هل يعني ذلك الكثير أيضاً على صعيد الواقع؟ الجواب هنا ليس للشعر ولا للشعراء الذين يعملون على "عدم فقدان الأمل، وعلى إعادة خلق الأمل". * ناقد لبناني.