في مواقف ومواقع حرجة كثيرة تروى من بعد تحت اسم "قضية" او "فضيحة" - فضيحة الأسلحة الفاسدة في اواخر عهد فاروق بمصر، أو فضيحة تعذيب الجزائريين بفرنسا في حرب الاستقلال، او فضيحة "ووترغيت" التي حملت الرئيس الأميركي نيكسون على الاستقالة، او اخيراً وليس آخراً فضيحة سجن ابو غريب "الأميركي" ببغداد، وقبلها فضيحة قناة باناما وأسهمها، وفضيحة القرض الروسي... - في المواقف والمواضع هذه تولت الصحافة وتتولى كشف المستور وإعلانه على الملأ. ومصدر القضية، او تعريف الفضيحة، هو تعمد التستر على ما إعلانه يحول بين مرتكبه مقاول سلاح او رتيباً في جهاز التحقيقات العسكرية او رئيساً وبين ارتكابه ووقوعه. فالمرتكب يخالف فعله ما تلزمه به القوانين والأعراف العامة والسارية، ويلزمه به عمله او وظيفته. فلا يقدم على انتهاك ما ينتهكه من القوانين والأعراف إلا متستراً ومتخفياً، وإلا ضامناً ولو متوهماً تواطؤ اهل القوة وسكوت اهل العلانية. وهم من يتولون الإخبار على الأشهاد. والتمثيل على القضايا او الفضائح دائرته هي نظم سياسية ديموقراطية على هذا القدر او ذاك. ولا يستثنى العهد "الخديوي" المصري من الحكم. فكأن شرط الكشف او الفضح هو اضطلاع صحافة غير مثقلة بقيود الرقابة الأمنية اي البوليسية طبعاً، وليست تالياً طوع إشارة اهل السلطة وأصحاب المصالح منهم ومن أتباعهم وحلفائهم، بإشاعة الخبر عن الانتهاك في صفوف قراء الصحف او الجمهور. ولغط قراء الصحف، ومن يسمع عنهم ويروي ويشيع، هو شرط مكمل لشرط الكشف. فإذا انتهى الكشف الى آذان موصدة، وألسن معقولة ومقيدة، ولم يتكاثر الفضح من طريق تناقل السمع، وتراوي التعليق والرواية، جاز القول ان الكشف لم يكن كشفاً. فحقيقته لا تنفك من سريانه في حلقات متسعة ممن يقرأون ويسمعون ويقولون، او يدلون برأي في ما انتهى الى سمعهم وفهمهم، وفي دوائر الجمهور. وعلى هذا لم تقع رواية صحافي جمال عبدالناصر الرسمي، غداة اشهر من 5 حزيران يونيو 1967، وقائع ليلة 4 الى 5 وملابساتها - من سهر متأخر، واحتفال متعتع، وضعف تيقظ وسهو عن الحال وأحكامها - على صفحات "الأهرام"، لم تقع الرواية موقع الفضيحة، على شاكلة الفضائح المتقدمة. فجاءت مجيء الاعتذار والتعليل، وصدرت عن الحاشية ومن داخل، وحصرت التناول والرواية فيهم، واقتصرت على من سبق العزم على التضحية بهم وتحميلهم المسؤولية والتبعة، وسكتت عمن لم يلِغوا في الحال وخالفوا اهل الحل والعقد الرأي. وهبطت الرواية على جمهور ليس بجمهور: فليس بيده ولا في وسعه تكثير الروايات وتفريعها وسوقها الى وقائع اخرى، وأعيان آخرين، ودوائر غير دوائر العسكريين المنذورين للتطهير والإقالة وربما الانتحار. فالرواية الصحافية الناصرية في هذا المعرض ولو كان ظاهرها كشفاً وفضحاً وإعلاناً، جزء من تصريف السلطة وإرساء تحكمها في جمهور الرعية. فما لم يخرج الجمهور من نطاق السلطة وإعلامها، ويستقل عنها وعن جهازها، على معنى الامتناع منها ومن انفرادها بالتوقيت واقتراح الموضوعات ورسم حدود المعالجة والتناول، لا يستوي جمهوراً فاعلاً، ولا رأياً عاماً مراقباً وحسيباً. فإذا مرت صدمة الواقعة، وضعف اثرها، عادت الأمور الى نصابها، والسلطان الى تكتمه وأمره الواحد، والرعية الى انقيادها وتصديقها، والصحافة الى نقولها وبياناتها. ودام تسقط الأخبار من خارج، ومن صحافة هذا الخارج. وأقام "الجمهور"، اي عامة الناس، على سلبه وانفعاله. فلا تستقيم صحافة بغير جمهور. ولا يستقيم الاثنان إلا بالتنبه على حوادث الحاضر، ومباشرة روايتها وتفحصها ومقارنة الآراء فيها وهي لم تنقضِ بعد. وصنيع صحافي عبدالناصر الرسمي في عشية اليوم الخامس من حزيران اشبه بأخبار عبدالرحمن الجبرتي، الإخباري المصري الذي عاصر آخر العصر المملوكي العثماني والعقدين الأولين من عهد محمد علي، عن الحملة الفرنسية، وتوقع المماليك هجوم الفرنسيين عليهم من الغرب على حين هاجمهم هؤلاء من الشرق والخبر ليس منحولاً، فهو في اخبار حوادث صفر 1213ه: فمن الناس "من يقول ان - الفرنسيين - واصلون من البر الغربي ومنهم من يقول بل يأتون من الشرقي ومنهم من يقول بل يأتون من الجهتين...". وأخبار الجبرتي ادق من اخبار الصحافي المأذون والموظف وأصدق بما لا يقاس. ويتشارك الخبران، على شقة قرن وثلثي القرن بينهما، في تأخرهما عن الحادثة، وفوتهما اياها. فهما لا يرويانها على وجه الحاضر ووقته. ولا يشركان الجمهور في تناولها وتداولها، ولا في تقليب النظر والرأي فيها. ولا يدعوانه الى الانقسام على تناولها وتأويلها وتعليلها. والأصح ان انقسامه لا طائل منه. فهو، إذا حدث، اقرب الى انقسام المؤرخين على سقوط الامبراطورية الرومانية او على التراكم الرأسمالي الأولي. ولا يقصد بتفويت الحاضر والتأخر عنه، حمل الصحافة الديموقراطية على الفعل السياسي، ومساواتها به او قيادته. فالصحافة ليست السياسة، على رغم تأثير الأولى في الثانية، وتوسل الثانية بالأولى على نحو قد يفقدها اخص خاصياتها، ويحط بها الى الدعاوة والتضليل و"الإرشاد". ودور الصحافة، على معنيي وقتها وعملها او وظيفتها، هو دور الشهادة والرأي. ودائرتها هي دائرة إعمال الرأي والنظر، او إعمال الحكم. وأهل الرأي، الجديرون بإعماله، هم غير "العلماء" والخبراء وأهل الاختصاص، على مذاهب الاختصاص الكثيرة والمتفرقة، وأولها "علم" الاجتماع او الاجتماعيات على قول بعضهم من "أساتذة" الاجتماعيات. والرأي الصحافي، وهو يختصر ما نسميه تحقيقاً وخبراً من وجه ورأياً على معنى التقويم من وجه آخر، هو الرأي العام "المتنور" من غير تعيين، اي من غير رسوخ "المتنورين" في العلم فهم ليسوا طليعة ولا "مِلك" للبت او الأمر. ومثل هذا التعريف، على ما هو جلي، انما هو تعريف لوقت من اوقات السياسة ودور من ادوارها، هو وقتها او دورها الديموقراطي. ويثبت هذا الدور دائرةَ العام والمشترك الشأن العام او الشؤون العامة على معنى المشتركة والمتشابكة ويقرّها على الكثرة والمنازعة، اي كثرة الجماعات ومصادرها ومنازعها ومصالحها، ومنازعتها على السيطرة. فلا يسبق المنهج السياسي الغالب في وقت من الأوقات إعلانَ الجماعات المتفرقة مشاربها وميولها ومصالحها، ولا تؤدي سيطرة حلفِ جماعاتٍ على الأحلاف الأخرى الى حل الأحلاف هذه او وصمها بالخروج وإهدار دمها وحريتها، حقيقةً أو مجازاً. ويفترض حفظ الكثرة والمنازعة ودوامهما ازدواج الشعب السياسي شعباً، اي قوى فاعلة تنجم سياسات وقرارات عن فعلها، وجمهوراً ينظر الى افعال القوى السياسية والشعبية. ويرى الجمهور رأيه أي آراءه فيها. ويتداول الآراء هذه فيحتج لها بالحجج والتسويغ والإنكار على الحجج المخالفة. ويرجع وصفُ الجمهور بالتنور الى هذا الازدواج، وإلى قيام من سموا "الفلاسفة"، في اثناء القرن الثامن عشر الأوروبي، وقرائهم وأنصارهم وخصومهم بالملاحظة على الأفعال السياسية، او السياسات الحربية والاقتصادية والتشريعية والدينية والثقافية على حد سواء. وكانت الدوريات، الى المنتديات والجمعيات وحلقات المناقشة في المقاهي والمجالس، وسيلتهم الى تثبيت الازدواج، والى إنشاء الجمهور المتنور والحسيب على السياسات والأفعال. وجمهور هذا شأنه لا يقتصر على النظر السالب، وهو ما تنعيه عليه مذاهب السياسة الداعية الى "فعل مباشر" ويشترك الثوريون والحركيون اليمينيون، الفاشيون، واليساريون في الدعوة إليه. فدوامه واستمراره يُخرجان الى الوجود والفعل قوى وتيارات وعلاقات سياسية واجتماعية لا يظهرها "مسرح" الأفعال ومشهدها، وينزع الى إنكارها ونفيها. فميزان السياسة يميل الى نفي المغلوبين، والجماعات غير المتمكنة، منه. وهو ينزع الى تصوير الشعب في صورة الجماعة الواحدة المرصوصة والمستوية كتلة متجانسة ومجتمعة. ولا تبلغ هذه الصورة وتحقق إلا من طريق الحؤول بين الجمهور وبين الاستواء جمهوراً، وهي عينها طريق الحؤول بين الشعب وبين الازدواج. وينشأ هكذا جمهور عن "الخروج من الوصاية" على الرأي واجتهاده، بحسب تعريف سائر للتنوير. ويتعذر الخروج، على هذا النحو، على الأفراد. وهو ايسر على "جمهور"، اي على جماعة من الناس متآلفة فكراً ونظراً. فمثل هذا الجمهور يسعه ان ينير بعضه بعضاً إذا لم يقسر افراده على العزلة والانكفاء. فالحق في العبارة الحرة، وفي العلانية، هو الحق في إنشاء جمهور على ما تخلص إليه جيرالدين مولمان في تعليقها على مقالة كانط "ما هي الأنوار؟". والجمهور، على هذه الصورة، هو خارج "الدولة"، ونشأ فعلاً خارجها، على سبيل الواقعة قبل الإقرار به حقاً من الحقوق، او مصدر حقوق متفرعة عليه مثل الحق في التجمع، والحق في الاعتقاد.... ولا تقوم له قائمة إلا اذا أقرت "الدولة" بجواز قيام خارج لها، وبإزائها، يحول بينها وبين تحقيق زعمها الإحاطة بكل المجتمع وليس بالمجتمع كله وحسب. ولا يخرج الجمهور من "الدولة"، او من الطاعة بحسب ناقد الفلسفة الألماني، الى "الجمهورية"، او الانتساب الى الجمهور والمشاركة فيه وفي أحواله، إلا ليعود إليها. فهو لا ينفك شعباً، او حتى "رعية" على المعنى الأول، وشريكاً في الفعل، وفي السياسات. ولكن إعمال العقل والقول، اي الاحتجاج، في المسائل العامة والمشتركة يؤدي الى ازدواج يقلب معنى الحياة العامة والسياسة تالياً، رأساً على عقب. ولا يسوغ ناقد الفلسفة الخروج من الوصاية على الرأي واجتهاده تسويغاً سياسياً. فهو يدعو "المتنورين" الى إعمال رأيهم امام الجمهور، او بين يديه على قول العربية، والتعرض لنقده وملاحظته، من غير التخلي عن صفتهم العلمية في ميادين وحقول بعيدة من السياسات وموضوعاتها. فيزدوج صاحب الرأي كذلك. فهو يرى رأيه في مسائل وإجراءات ليست من اختصاصه العلمي. ولكنه ليس بمنأى من اثر الإجراءات والسياسات هذه في حياته وسعيه وعمل يومه وليلته. فيُعمل عقله على الملأ في الإجراء الذي يتطاول أثره إليه وإلى أقرانه. ولا ينسب الى رأيه هذا صفة العلم، ولا يدعي الصدور عنها او الاستقواء بها. ولكنه لا ينكرها، ولا يتستر عليها. ولا يتبرأ من السعي في الرجوع الى اصول مشتركة بين رأيه في الشؤون العامة وبين النهج الذي ينتهجه في احكامه العلمية ودائرة اختصاصه. فهو لا يدلي برأي العالم في المسألة، بل يدلي برأيه "بما هو عالم" أمكنه علمه من ترجيح النظر العاقل في الأمور. ولا يعدم الازدواج هذا اثراً في تناول السياسة، والتدبير السياسي كلاً. فالفعل السياسي اذا عري من النظر إليه والإشهاد عليه، وامتنع من النظر والشهادة، عمي عن معناه، وارتد الى "سياسة" صماء هي اقرب الى الفيزياء وتفاعل الطبائع منها الى تدبير الشؤون الإنسانية المشتركة. * كاتب لبناني.