يتصل القضاء والصحافة بدائرة العلانية، وهي دائرة العام والمشترك، اتصالاً يكاد يقصر هذه الدائرة عليهما. فهما أقرب طريق الى الخروج بپ"السر"، أو المستتر والبعيد من الأنظار والأفهام والمداولة، إلى العلانية المشتركة، وإلى أحكامها وأقضيتها. وإذا ضمن القضاء إقبال الصحافة على مسألة أو قضية يريد القضاء لها التداول والمناقشة، تخطت القضية قصور العدل وأبراج المحاكم والغرف، وملفات قضاة التحقيق، وذاعت في الناس وكلامهم، وربما دعتهم الى الإدلاء برأي، أي بآراء، في القضية. وليس القضاء وحده من قد يتوسل بالصحافة، ويتذرع بتصدرها دائرة العلانية، إلى اذاعة القضايا المتنازعة ،المتخاصم فيها، وتحريض عامة الناس وجمهورهم على إبداء الرأي والتحزب لموقف والإنتصار له. بل إن القضاء قد يتحفظ عن استيلاء العلانية على قضايا يحقق فيها، وقد يطلب لها الظل، ولا يستعجل ظهورها في المداولة قبل ان يستوفي التحقق من بعض وجوهها. وعلى خلاف القضاء قد تستعجل المداولة والرأي والموقف القاطع والجازم الجمعياتُ الأهلية وبعض الهيئات السياسية والهيئات الإقتصادية وجماعات الخبراء والفنيين. وقد تستعجل الصحافة، أو بعضها، وهي كثيرة الميول والأحوال، الإعلان عن أخبار لم تستكمل شروط النقل الصحيح ولا الإسناد الموثوق. فدائرة العلانية، حيث تقوم مثل هذه الدائرة، وتضطرب، هي دائرة المنازعة، ابتداءً. فهي تستقبل الدعاوى المتباينة، والنزعات المختلفة، الصادرة عن مواقع متفرقة من العلاقات والمصالح والكتل الإجتماعية والسياسية والثقافية. وهي تقر للدعاوى والنزعات والمذاهب هذه بحق الإعراب عن مزاعمها، وبحق الإحتجاج لمزاعمها، والدعوة الى أعم قبول بهذه المزاعم. وتحتكم الدعاوى الى الجمهور الذي ينتهي اليه العلم بها، أفراداً أو جماعات أو إدارات وهيئات، وتبعثه على الإنحياز الى دعوى واحدة منها، ونصرتها على غيرها، وقبول أحكامها وتثبيتها. والسبب في غلبة لغة الحق والقانون على تناول دائرة العلانية المشتركة والعامة هو قبول الإثنتين، اللغة والدائرة، المنازعة، ودورانهما عليها، وتوسعتهما لإحتجاج المتنازعين، وتعليقهما الحكم في القضية، أو الخصومة، من غير التزام الحياد، وجواز الحكم من غير إجماع ولا سعي فيه. وعلى رغم الفرق البيِّن بين حكم القانون، وإلزامه، وبين "حكم" قد يتبلور في دائرة العلانية، يضمر الاحتكام، في كلتا الحالين، إقراراً بصدارة الرأي والحجة وبتقدمهما على سبل الإرغام والقسر. ويضمر الإحتكام، كذلك، ومن وجه آخر، تعويلاً على قوة الإلزام من طريق الإحتجاج وواسطته. ودخول الإحتجاج - وهو كثير الوجوه فمنه العقلي ومنه الخطابي ومنه التمثيلي - العلانية، وتحكيمه جمهورها في صدق ما يُحتج له، يحملانه على تركيب حججه، وعلى مخاطبته بهذه الحجج جمهوراً مركباً ومتنوعاً بدوره. فهذا الجمهور العريض والمتنوع لا يُخلص إليه، ولا يبلغ، من طريق ضرب واحد وبسيط من الحجج، أو من طريق نحو واحد منها وطبقة واحدة. وعلى هذا ينبغي ان "تروي" الحجة المركبة ما تحتج له وتؤيده، وتجمع عليه، رواية كثيرة الوجوه تمثِّل على دعاويها بحَبْك ما تتناوله حبكاً يتوجه على الفهم والرغبة والهوى جميعاً. والحجة المروية، أو الروائية، إذا جازت العبارة، لا يسعها، إذا أرادت الإستمالة والإقناع، إلا افتراض الجمهور، وأفراده واحداً واحداً، منقسماً ليس على نفسه وحسب بل في نفسه، أي منقسم النفس، كذلك. ويترتب افتراض الإنقسام في النفس الواحدة على افتراض اول وسابق تقوم عليه دائرة العلانية، وتنشأ عنه، يوجب الفصل بين الحق والقانون أو الحد وبين "صاحب" الحق، ويحيل حلول الحق وتجسده في صاحب دعوى أو في فاعل. فما تقضي فيه دائرة العلانية، بقضاء روائي وإخباري، إنما هو الفعل وليس الفاعل، على ما كان قاضي القضاة عبدالجبار يقول في التحسين والتقبيح. فيتعالى الحق عن المحقّ، ولا يحل في محقِّ، جماعة أو فرداً، أبداً. * كاتب لبناني.